أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

على عكس التقاليد المستقرة في خريطة توازنات القوى العسكرية في العالم والتي كانت تحددها القوى العظمى والكبرى، من المتوقع أن تغير القوى الوسطى هذه الخريطة في السنوات القليلة المقبلة. فمن المعروف أن صعود الصين كقوة عظمى عسكرية عالمية هي مسألة وقت ومخطط لها سلفاً، لكن الأبرز وربما ما لم يكن متوقعاً قبل تنامي التوترات الأمنية في شرق وجنوب آسيا، واندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، هو صعود قوى مثل اليابان وألمانيا والهند وكوريا الجنوبية بشكل لافت على قائمة TOP10 (أكبر عشرة قوى عسكرية عالمية).

إذ خضعت دولتان منهما – اليابان وألمانيا- لقيود استثنائية ضمن ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما لم يعد الحديث الدائر حالياً حول التحرر من تلك القيود، بحكم أن كلتا القوتين أحرزتا تقدماً محسوباً خلال عقود من الزمن للتحرر منها بالفعل، بل وتحتلان حالياً مركزاً متقدماً في مصاف الدول المنتجة للتكنولوجيا العسكرية، والأسلحة الاستراتيجية. فاليابان أحد ثلاث مراكز عالمية لإنتاج مقاتلات F35، فيما تضاعفت المبيعات العسكرية الألمانية لدول الجوار الأوروبي بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية، مع الأخذ في الاعتبار أن الاحتياجات المحلية لكل منهما ستمثل أولوية في الأعوام المقبلة حيث تتبنى الدولتان خطة لتوسيع الهيكل العسكري.

في هذا السياق، أقرت اليابان موازنتها العسكرية للسنوات الخمس القادمة (2023-2027) والتي تمثل قفزة تاريخية في مضاعفة الإنفاق العسكري إلى 2% من الناتج القومي بما سيصل إجمالاً لنحو 320 مليار دولار، بعد أن ظل لعقود من الزمن عند حد 1% وربما أقل. وتؤهل الزيادة الجديدة اليابان لتصبح ثالث أكثر إنفاق عسكري في العالم من العام المقبل بعد الولايات المتحدة والصين، وذلك بعد أن حققت المركز التاسع عالمياً خلال العامين الأخيرين.

وفيما ارتبط مسار نمو الإنفاق العسكري سابقاً بالسياسات الدفاعية الجديدة التي بدأها رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي منذ عام 2015، والتي انعكست في تطوير وتحديث البنية الدفاعية، فمن المتوقع أن تقود الموازنة الجديدة إلى توسيع هيكل قوات الدفاع الذاتي (SDF)، لاستيعاب الطفرة المتوقعة في زيادة حجم الأصول العسكرية، واقتناء المزيد من مقاتلات F 35، وبناء حاملات طائرات، إضافة إلى منح الابتكارات الدفاعية أولوية قصوى.

قد يكون مؤشر الإنفاق العسكري، لمواكبة خطط التحديث والتطوير الشاملة، أحد المؤشرات الهامة في تسليط الضوء على نوايا القوى الصاعدة عسكرياً بشكل عام، لكن قد يكون الأهم من ذلك النظر إلى أبعاد وتداعيات محورية في هذا السياق ومنها على سبيل المثال:

1- إطلاق حالة سباق تسلح متسارعة الوتيرة في شرق آسيا: بالنظر إلى التطورات التي تشهدها البيئة الأمنية المحيطة لليابان، فوثائق وتقارير الأمن والدفاع اليابانية تشير إلى التحول من وضع التهديد إلى الخطر الوشيك، بالنظر إلى توجهات كوريا الشمالية الأخيرة التي أطلقت صواريخ في المجال الجوي الياباني.

كما زادت الصين من طبيعة التسلح التي فرضتها على الجزر المتنازع عليها مع اليابان (سينكاكو / دياويو) ، بالإضافة إلى مخاوف اليابان من تهديد الصين المتنامي لمضيق تايوان، وهو ما عبرت عنه استراتيجية الدفاع اليابانية لعام 2021. وفي هذا السياق، ستضاعف اليابان من مديات منظومات الدفاع الصاروخي التي كانت تمتلكها منذ نهاية التسعينات بمقدار خمس مرات تقريباً في المدى القريب، بالإضافة إلى زيادة معدل اقتناء مقاتلات F35 بنحو 20 مقاتلة.

ويشير نمو موازنات الدفاع حتى قبل إقرار الموازنة الحالية إلى نمو هائل بمتوسط 50 مليار دولار منذ عام 2018، وكانت أهم البنود التي شملها هذا النمو هي الابتكارات العسكرية والتوسع في مجال التصدي للهجمات السيبرانية، وحاملات الطائرات والمدمرات، وكذلك مجال الفضاء. فيما ستسمح الموازنة الجديدة بمضاعفة كافة هذه البنود، وبالتالي يمكن تصور مدى ما ستكون عليه حالة سباق التسلح في إقليم شرق آسيا.

2- التخلي عن إرث العقيدة العسكرية المحايدة: وفقاً لوثائق الأمن القومي والدفاع منذ عام 2010 يمكن تصور مدى مقاومة الحكومات الثلاثة الأخيرة (شينزو آبي- يوشيدي سوجا- فوميو كيشيدا)، رغم الإبقاء نظرياً على بعض الثوابت والمبادئ، كالمادة التاسعة من الدستور الياباني (تتخلى الدولة رسمياً عن حق السيادة في القتال وتهدف إلى سلام دولي قائم على العدالة والنظام، ولتحقيق هذه الأهداف، لن يتم الحفاظ على القوات المسلحة ذات الإمكانات الحربية).

لكن من الناحية العملية وفي إطار السياسات الدفاعية الجديدة، اختلف الأمر كلياً، حيث يتبلور تحول من سياسات الردع التي انتهجتها اليابان منذ مطلع الألفية، إلى احتمال المبادرة بضربات استباقية في المستقبل، لا سيما بعد أن تضمنت خطة الدفاع الوطني العشرية السارية حالياً العمل على اكتساب اليابان "قدرات هجومية" بعيدة المدى.

 كما يتصاعد الجدل في الداخل بشأن مبدأ "ساتو" الثلاثي الخاص بالقوة النووية والذي يمنع (امتلاك أو إنتاج أو إدخال) القوة النووية في حسابات هيكل القوة النووية اليابانية، أخذاً في الاعتبار تمتع اليابان بالمظلة النووية الأمريكية.

 ومع ذلك، تشير خطة الإنفاق العسكري المقبلة إلى عدم إدخال القوة النووية كجزء من القوة العسكرية. واللافت في هذا السياق، ما تشير إليه استطلاعات الرأي التي تلمح إلى متغير الموقف الشعبي المؤيد للتطورات الحالية، فقد أظهر استطلاع رأي أجرته مؤخراً مؤسسات يوميوري وجالوب أن 90٪ من اليابانيين لا يثقون بالصين، ويعتقد 61٪ أنها ستغزو تايوان.

3- توسع هيكل القوة العسكرية: فالإنفاق العسكري لا يتوقف فقط على مؤشرات التسلح المتصاعدة بشكل متسارع، بقدر ما سيسمح ذلك بتوسع هيكل القوة العسكرية لتنفيذ خطط الدفاع الحالية والاستجابة اللازمة للتهديدات والمخاطر القائمة. على سبيل المثال، ستتشكل قيادة عمليات متكاملة (قيادة مشتركة) تضم التشكيلات العسكرية الثلاثية البرية والبحرية والجوية لقوات الدفاع الذاتي اليابانية (SDF)، وهو ما ينطوي على توسع أفقي ورأسي في نفس الوقت. ومع زيادة عدد القوات البحرية، على سبيل المثال، سيتطور وضع القوة الساحلية، فقد حولت اليابان حاملة مروحيات لاستيعاب مقاتلات F35، وثمة مؤشر على مدى تطور هيكل من هذا النوع. أيضاً هناك تصور لزيادة قوة الدفاع الجوي مع استيعاب منظومات دفاع جوي جديدة، ويتوسع الهيكل أيضاً لاستيعاب المجمعات الصناعية التكنولوجية لتوسيع هيكل قوات الدفاع الذاتي لإضافة تشكيلات القوة الفضائية والالكترونية. 

4- تزايد هامش الاستقلال عن الولايات المتحدة: صحيح أن مظاهر العلاقة بين واشطن وطوكيو كاشفة عن اتساع ونمو مستوى التعاون بين الحليفين الاستراتيجيين، في إطار تنامي هيكل التعاون العسكري (السياسات والاستراتيجيات، التصنيع العسكري المشترك- القواسم المشتركة في النظرة إلى التهديدات والمخاطر من الصين وكوريا الشمالية)، لكن ذلك لا يمنع وجود فرضية تنامي هامش الاستقلال في القرار الاستراتيجي الياباني، كقرار سيادي.

وربما يعتبر اليابانيون حالياً أنه لم يعد ممكناً الدفاع عن صيغة المادة التاسعة (التخلي عن القرار السيادي) التي كانت تلائم أجواء الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، وفق صيغة اتفاقية (سان فرانسسكو 1951) التي أنهت الحرب رسمياً. وهناك صيغ ودورس مستفادة، فقد كانت تلك الاتفاقية مقررة لعشر سنوات، وأجريت العديد من التعديلات عليها، لكن تلك التعديلات عززت مبدأ الاعتماد الدفاعي على واشنطن، وكان المكسب الوحيد هو تأسيس (SDF)، لكن الولايات المتحدة وظَّفت تواجدها العسكري في اليابان كقاعدة انطلاق لحربها في فيتنام، فيما تسبب الانسحاب الأمريكي من فيتنام إلى انكشاف الوضع الدفاعي الياباني في ظل الواقع الذي آلت إليه الأوضاع في شرق آسيا، كأحد مخلفات تلك السياسة، على نحو دفع اليابان إلى تبني ما يعرف بسياسة "التحوط المزدوج" الحاكمة للعلاقات الاقتصادية اليابانية تجاه كل من الصين والولايات المتحدة.

كما أقلقت سياسات إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اليابان، حيث تعامل مع الوجود العسكري الأمريكي في اليابان بنهج مختلف عن أسلافه، فقد طالب بمضاعفة التمويل. فيما تراجعت إدارة الرئيس جو بايدن عن هذه السياسة، لكن كمؤشر آخر لافت تراجعت اليابان عن قرار الحصول على نظام (Aegis Ashore) الدفاعي الأمريكي معلنة أنها بحاجة إلى بدائل أخرى. وبالطبع، فإن توسيع دائرة التحالفات مع كوريا الجنوبية والهند وأستراليا إلى جانب الولايات المتحدة قد يحمل دلالة تؤكد هذه الفرضية.

كاستنتاج رئيسي، يمكن تصور أن الاستراتيجية الدفاعية لليابان تتغير كليةً، اذ يصعب تجاهل ما يشكله صعود اليابان كقوة عسكرية عالمية من طموحات في هندسة الأمن العالمي، كما لا يمكن تجاهل فائض القوة المتعاظم في إطار تبني استراتيجية دفاع للتعاطي مع المهددات والمخاطر المتصاعدة في بيئة الأمن الإقليمي كجزء من التوترات الراهنة في بيئة الأمن العالمي.

وربما يقود هذا التصور إلى استنتاج آخر مفاده أن اندلاع سباقات التسلح الراهنة بشكل عام في شرق آسيا والتي تعد اليابان أحد مراكز القوى المحورية فيها قد يشعل بؤرة صراع عالمي أكثر صعوبة مما عليه وضع الحرب الروسية-الأوكرانية، خاصة وأن سباق التسلح الذي تنخرط فيه اليابان لم يعد محكوماً باعتبارات موازين القوى فقط، وسط تراكم موجات التصعيد ما بين الصين والولايات المتحدة، وفى القلب من المشهد المركب ذاته تشابكات الموقف من تايوان، والمخاوف من تطرف سياسات بيونج يانج، والتي تفرض على الأطراف حسابات معقدة في معادلة الاشتباك.

لكن إلى أى مدى أيضاً سيحافظ الأطراف على ضمان معادلة الاشتباك في حدود الردع دون المغامرة بتصعيد غير محسوب؟، على الأرجح سيظل هذا السيناريو أحد هواجس الأمن العالمي في الفترة المقبلة.