في أحدث حلقة من سلسلة أزمات قطاع الطاقة العالمي المضطرب منذ اندلاع الأزمة الروسية-الأوكرانية في 24 فبراير 2022، فرضت دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى وأستراليا "سقفاً سعرياً" عند 60 دولاراً لبرميل النفط الروسي بدءاً من 5 ديسمبر الجاري، وذلك في محاولة للحد من عائدات تصدير النفط لموسكو، عقاباً لها على شن عملياتها العسكرية في أوكرانيا، مع تجنب إمكانية حدوث "قفزة كبيرة" في أسعار النفط العالمية إذا ما تم فرض حظر شامل على الإمدادات النفطية الروسية.
ويحظر هذا "التسقيف" على شركات الشحن والتأمين وإعادة التأمين التعامل مع شحنات النفط الروسية في جميع أنحاء العالم، ما لم يتم بيعها بأقل من 60 دولاراً، إلا أنه سيسمح للدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بمواصلة استيراد النفط الخام الروسي المنقول بحراً طالما كان سعره أقل من المبلغ المذكور.
وجاء هذا التسقيف لأسعار النفط الروسي قبل أسبوعين فقط من إقرار وزراء الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي في 19 ديسمبر الجاري آلية جديدة، أطلقوا عليها اسم "آلية تصحيح السوق"، تسمح بوضع سقف سعر للغاز الطبيعي في العقود الآجلة في أسواق الجملة الأوروبية، إذا ما تجاوز هذا السعر مستوى 180 يورو (191 دولاراً) للميجاوات/ساعة لمدة ثلاثة أيام متتالية، على ألا يفرض هذا السقف السعري إلا حين يزيد سعر الغاز الطبيعي بمبلغ 35 يورو (37 دولاراً) للميجاوات/ساعة عن متوسط سعر الغاز الطبيعي المسال في الأسواق الآسيوية في الأيام الثلاثة. وسيطبق سقف سعر الغاز في الأسواق الأوروبية بدءاً من منتصف شهر فبراير 2023.
مزايا ومخاطر تسقيف أسعار الطاقة
أثار قيام الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، بوضع سقف لأسعار النفط والغاز الطبيعي جدلاً ونقاشاً ساخناً، وانقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض لهذه الآلية "الجديدة" و"غير المسبوقة" من جانب المشترين في أسواق الطاقة العالمية، حيث يرى المؤيدون لآلية تسقيف أسعار الطاقة أنها ستسهم في "استقرار أسواق الطاقة العالمية"، وستساعد في مواجهة "اشتعال الأسعار" في الاقتصادات الناشئة والدول النامية، فضلاً عن أنها ستقيد الإيرادات الروسية الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة العالمية نتيجة زيادة صادراتها إلى الدول التي لا تفرض حظراً عليها مثل الهند والصين وتركيا، ومن ثم تقييد قدرة موسكو على تمويل حربها على أوكرانيا.
بينما يشير المعارضون لآلية تسقيف أسعار الطاقة إلى عدة مخاطر قد تنجم عن التدخل بهذه الآلية في أسواق الطاقة العالمية، الأمر الذي قد يعقد من وجهة نظرهم أزمة قطاع الطاقة العالمي خلال الفترة القادمة. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي تسقيف أسعار النفط الروسي إلى حدوث رد فعل انتقامي من جانب موسكو بخفض إنتاجها من النفط بشكل كبير، وبالتالي نقص المعروض العالمي، ومن ثم ارتفاع الأسعار العالمية للنفط إلى مستويات غير مسبوقة.
كما يمكن أيضاً أن يؤدي فرض سقف سعر لعقود الغاز الطبيعي الآجلة، للتسليم بعد شهر وثلاثة أشهر وعام، إلى توجه شحنات الغاز الطبيعي من الأسواق الأوروبية إلى الأسواق الآسيوية التي لديها استعداد لدفع أسعار أعلى، مثلما في اليابان وكوريا الجنوبية، وبالتالي تتفاقم أزمة الطاقة في أوروبا.
ومن جهة أخرى، حذرت بورصات عقود الغاز الطبيعي الآجلة في أوروبا من أن تسقيف أسعار الغاز الطبيعي سيزيد الاضطراب والفوضى في الأسواق الأوروبية، وسيدفع المتعاملين فيها لعقد صفقات الغاز "تحت الطاولة"، أي خارج أسواق التداول الرسمية. وكانت مجموعة "آي سي إي" المشغلة لأكبر سوق تبادل أوروبية لعقود الغاز الآجلة "تي تي أف" في هولندا قد حذرت المفوضية الأوروبية نهاية شهر نوفمبر الماضي من خسائر تصل إلى 33 مليار دولار، في حال فرض سقف سعر للغاز الطبيعي في أوروبا، مؤكدة على أن هذه الخسائر ستسبب "اضطراباً شديداً" في أسواق الغاز الأوروبية، بخاصة في الربيع المقبل مع زيادة الطلب على الغاز لملء المخزونات التي يتم السحب منها هذا الشتاء.
دلالات مهمة
بغض النظر عن المزايا والمخاطر المترتبة على آلية تسقيف أسعار الطاقة، فإن هذا التسقيف، من جانب الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، له العديد من الدلالات المهمة، لعل من أبرزها ما يلي:
أولا، نشوء "عهد جديد" تتأثر فيه الأسواق العالمية للنفط والغاز الطبيعي بالتنافس الجيوسياسي بقدر تأثرها بمبدأ العرض والطلب نفسه. فاستحداث آلية تسقيف أسعار الطاقة يأتي في إطار اشتعال الأزمة الأوكرانية، واحتمال استمرارها لفترة زمنية طويلة (ما بين خمس وعشرة سنوات على حسب بعض التقديرات) وهو الأمر الذي ينطوي على "خطر كبير" باضطراب إمدادات النفط والغاز الطبيعي، وبالتالي استمرار ارتفاع أسعارهما العالمية إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة في عام 2023، وما بعده.
وعلى الأرجح، سوف يتسم هذا "العهد الجديد" بدرجة "عالية للغاية" من تدخل الدولة وسيطرتها على قطاع الطاقة الحيوي، وهو تيار بدأت ملامحه في البروز مع تخلي معظم الحكومات الأوروبية عن سياسات تشجيع التنافسية والخصخصة والتحرير الكامل لقطاع الطاقة، مع ارتفاع الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي.
ثانياً، عدم جدية الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا في حل الأزمة الأوكرانية في أقرب وقت ممكن وبأقل تكلفة ممكنة. إذ يؤكد كثير من الخبراء على أن آلية وضع سقف سعري للنفط والغاز غير واقعية، وغير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، مشيرين إلى عدم وجود سلطة أوروبية و/أو دولية لديها القدرة على إجبار المشترين من الدول الأخرى على الالتزام بهذا السعر. كما أن هذه الآلية لا تحظى بإجماع دولي وأوروبي يضمن فاعليتها، كذلك من الصعب، بل ومن شبه المستحيل، رصد ومتابعة تنفيذ هذه الآلية بسبب احتمالية تهرب الدول المستوردة من العقوبات من خلال عمليات النقل من سفينة إلى أخرى، وتجارة الناقلات غير المشروعة، فضلاً عن تواجد طرق للتغلب على المتطلبات المقترحة لتداول النفط الروسي عن طريق توثيق الصفقات بالسعر المُحدد مسبقاً مع دفع المزيد في الواقع، وهي أمور في غاية الصعوبة وتحتاج إلى عمليات مراقبة وتتبع معقدة. كذلك، يتضمن تنفيذ هذه الآلية الجديدة مطالبة كل السفن الحاملة للنفط الروسي بتوفير إثباتات عن منشأ النفط والسعر الذي تم فيه الشراء، وهذا يتطلب جيشاً من المراقبين والمحاسبين، كما يتطلب بناء كيان قانوني لمحاسبة المخالفين، وعلى الرغم من ذلك فإنه لن يمنع تزوير شهادة المنشأ والسعر الذي دفع.
ثالثاً، عدم فاعلية العقوبات الغربية التي تم فرضها على موسكو منذ بداية الأزمة الأوكرانية، والتي كانت تهدف إلى الحد من عائدات صادرات روسيا من الطاقة وبالتالي حرمانها من تمويل عملياتها العسكرية. إذ تعكس فكرة "التسقيف" لأسعار صادرات النفط الروسية الضغوط الشديدة التي يتعرض لها الاتحاد الأوروبي، من منظور أمن الطاقة، خاصة بعد بدء تطبيق دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين لحظر واردات النفط الخام والمنتجات النفطية من روسيا في ديسمبر الجاري وفبراير القادم على التوالي. فهذا الحظر لم يفلح، إلى حد كبير، في تحقيق الهدف منه، بالنظر إلى أن الصين والهند أصبحتا أكبر مشترين جدد للنفط الروسي، الأمر الذي ساهم بشكل ملموس في دعم الميزانية الروسية بينما عانت الدول الأوروبية من ارتفاع صاروخي في فاتورة استيراد الطاقة.
ومن الأدلة الواضحة على ذلك، معاناة كثير من دول أوروبا نظراً لارتفاع فاتورة الطاقة، بريطانيا 16 ملياراً، ألمانيا 25 ملياراً، وفرنسا 12 ملياراً. والمنتظر أن ترتفع الفاتورة أكثر وأكثر إذا ما انخفضت صادرات النفط الروسي، وهو الأمر الذي اشارت إليه روسيا مؤخراً، على لسان ألكسندر نوفاك نائب رئيس الوزراء الروسي، عندما قال إن موسكو تدرس خيار خفض إنتاج النفط بنسبة تتراوح بين خمسة وسبعة في المائة (ما بين 500 و700 ألف برميل يومياً) خلال عام 2023.
كما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً في 23 ديسمبر أنه "سيصدر مرسوماً الأسبوع المقبل" بخصوص رد فعل موسكو على فرض الغرب للسقف السعري لنفط بلاده. وقد أشار مسئولون روس إلى أن هذا المرسوم سيحظر مبيعات النفط ومنتجاته إلى الدول التي انضمت إلى قرار فرض الحد الأقصى للسعر والشركات التي تشترط الالتزام به.
رابعاً، يمثل تسقيف أسعار الطاقة تهديداً خطيراً لاستقرار الاقتصاد الدولي كله، فضلاً عن تناقضه مع الأسس التي تُبنى عليها التجارة الدولية. إذ يرى عدد من الخبراء أن هذا التسقيف يمثل نوعاً من "العبث الاستراتيجي" بكل المقاييس. فطوال القرن الماضي، تم تحديد أسعار النفط والغاز، في الغالب، على أساس عوامل تقنية واقتصادية متداخلة، أهمها حالة العرض والطلب، والاستثمارات الجاري تنفيذها والاكتشافات الجديدة، وبدائل الطاقة من مصادر أخرى متجددة وغيرها، وكلها عوامل تخضع لحسابات معقدة بحيث يتحدد سعر مناسب لكل من المنتجين والمستهلكين، ومعهما استقرار الاقتصاد الدولي وإبعاده عن الهزات الكبرى. وبالتالي، حين يتم تجاهل كل هذه العوامل من خلال آلية تسقيف الأسعار، التي تهدف من ورائها الدول الغربية إلى معاقبة روسيا، وهي أحد أكبر منتجي الغاز والنفط العالميين، فإن ذلك من شأنه توجيه "ضربة قاصمة" لأساسيات التعاون في قطاع الطاقة العالمي، وبالتالي نشر الفوضى والتوترات في هذا القطاع الحيوي للاقتصاد العالمي.
إجراءات مضادة
على أية حال، يمكن القول إنه من المبكر للغاية استشراف مآلات استحداث آلية "فرض سقف" على أسعار النفط والغاز الطبيعي في الأسواق العالمية لأنها آلية غير مسبوقة. ومع ذلك، من الواضح أن هذا التدخل غير المسبوق في أسواق الطاقة العالمية سيكون محفوفاً بـ"مخاطر جسيمة". فعلى سبيل المثال، قد تؤدي هذه الآلية إلى خفض الاستثمارات الجديدة في مشروعات إنتاج النفط والغاز، الأمر الذي يعني مزيداً من الارتفاع في الأسعار مستقبلاً.
كذلك، قد تدفع هذه الآلية موسكو إلى اتخاذ إجراءات مضادة للرد عليها، يتمثل أهمها في خفض أو قطع صادراتها من النفط والغاز إلى الدول الأوروبية. وتعتبر هذه الخطوة منطقية بالنسبة لموسكو. فضلاً عن ذلك، فإن هذه الآلية من شأنها تعزيز الانقسامات والانشقاقات داخل قطاع الطاقة العالمي، لأن تحديد سقف لأسعار الطاقة، من جانب الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، يمثل "إشارة سياسية قوية" إلى منتجي النفط والغاز الآخرين في العالم، وليس روسيا فقط. وبالتالي من المنتظر أن يزداد التقارب السياسي بين روسيا وهؤلاء المنتجين، دفاعاً عن مصالحهم الاقتصادية.
وفي ضوء كل ذلك، يمكن القول إن آلية تسقيف أسعار الطاقة، إذا ما نفذت على أرض الواقع، من شأنها زعزعة استقرار نظام الطاقة العالمي، وبالتالي من الواجب على دول العالم المختلفة، وفي مقدمتها الدول العربية المصدرة للنفط والغاز الطبيعي، حشد كافة إمكاناتها الدبلوماسية والقانونية والمالية من أجل منع الفوضى المتوقعة في قطاع الطاقة العالمي نتيجة هذه الآلية الجديدة من جانب الدول الرئيسية المستوردة للنفط والغاز الطبيعي في العالم.