في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر الماضي (2022) أصدر البرلمان الأوروبي تقريرا عن حالة حقوق الإنسان في مصر تحت عنوان:
European Parliament Resolution of 24 November 2022 on the Human Rights Situation in Egypt (2022/2962/ RSP)
احتوى التقرير على اتهامات للحكومة المصرية بانتهاكات وصفها بالشاملة والجسيمة، وحث الحكومات الأوروبية منفردة، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي بشكل جماعي، من خلال تسعة عشر مطلبا، على فرض عقوبات على مصر.[1]
وبغض النظر عن أنه طبقا لميثاق الاتحاد الأوروبي، لا يمكن للبرلمان الأوروبي اتخاذ قرارات بفرض عقوبات على أي دولة، إلا أنه وبشكل عام، وقبل التعرض بالتفصيل للتقرير الذي يتناول حالة مصر، يجب إلقاء الضوء على ما يمكن لمثل هذا النوع من التقارير، التي تصدرها لجان خاصة داخل البرلمان الأوروبي، أن تسببه من عواقب وخيمة، تهدد أمن واستقرار البلاد التي تطالها. من ذلك على سبيل المثال:
1- تشويه صورة الحكومات، والتأثير بشكل مباشر أو غير مباشر على المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية لشعوب تلك الدول، من خلال التأثير على قرارات المستثمرين الأجانب بشأن هذه البلدان، بما يزيد من معاناة تلك الشعوب اقتصاديا. وفي هذا السياق، تشير دراسة إلى تقدير ورد في أحد تقارير البنك الدولي تناولت سياسات الاستثمار لعدد 400 شركة دولية في 21 دولة تعمل في مجالات مختلفة، إلى أن 61% من المستثمرين يعتبرون أن المخاطر النابعة من أسباب سياسية تلعب دورا مهما في قرارات الاستثمار في الدول النامية.[2]
2- أن هذا النوع من التقارير قد يشجع العديد من الجماعات السياسية المحلية، خاصة تلك التي تحظرها البلدان المستهدفة، والجماعات والأفراد الذين يعتنقون أيديولوجيات يسارية متطرفة، على العبث بالمصالح السياسية والأمنية لشعوبها، في صورة تحريض غير مباشر على إثارة الاضطرابات وممارسة العنف والإرهاب فيها. وهناك شهادة من أحد المصريين مزدوجي الجنسية (عمر هاميلتون المصري البريطاني) توضح ذلك. فقد كان هاميلتون مشاركا في أحداث يناير عام 2011، ويقول في شهادته: "مع مجموعة من الأصدقاء أنشأنا وسيلة إعلام نضالية. رحنا نوثق كل ما يحدث في الشوارع وننشر بانتظام الأشرطة المصورة على الإنترنت. كنّا جزءاً من حرب إعلامية يستطيع فيها شريط مصور من نوعية جيدة أن يدفع الناس بكل بساطة الى الشارع. أصبح العنف حجر الزاوية في عملنا. عندما تزعم الدولة أنها لا تقتل مواطنيها، يكون لتكذيبها فائدة سياسية جمّة".[3]
والجدير بالذكر أن تقارير البرلمان الأوروبي عن حالة حقوق الإنسان في كثير من البلدان العربية والاسلامية ومنها مصر، تعتمد بشكل كثيف على تقارير تصدرها منظمات مصرية وعربية ودولية غير حكومية، أو على شهادات من أفراد يدعون أنهم متطوعون من أجل نشر ثقافة حقوق الإنسان. ولا يقوم البرلمان الأوروبي بجهد يذكر للتحري عن مدى مصداقية تقارير هذه المنظمات، أو مدى مطابقة الوقائع التي يرويها أو يصورها أفراد "متطوعون"، مع المصادر الإخبارية المتنوعة في هذا البلد أو ذاك لحظة وقوع الحدث المزعوم. كما تتجاهل نفس التقارير التحقيق في مدى تأثير تلقي المنظمات غير الحكومية -العربية والإسلامية- تمويلا من جهات مجهولة أو من جهات لها مصلحة في تشويه صورة النظم الحاكمة، على التقارير التي تصدرها.
إن عدم قيام لجنة حقوق الإنسان بالاتحاد الأوروبي بوضع معايير موضوعية للتعامل مع المصادر التي تعتمد عليها في إصدار تقاريرها، يفتح الطريق أمام جماعات تعمل خارج القانون مثل جماعة الإخوان المسلمين المصنفة في مصر والعديد من الدول كجماعة إرهابية، والأفراد المنتمين لأيديولوجيات متطرفة مثل "الفوضويين" و"الأناركيين" الذين يرفضون فكرة السلطة في حد ذاتها بغض النظر عن ممارساتها، لكي يقوموا بتشويه صورة بعض الأنظمة لأسباب سياسية وعقائدية لا تمت للدفاع عن حقوق الإنسان بأي صلة. وقد يلجأون إلى "فبركة" الأخبار والشائعات وتزييف الأفلام المصورة لتحقيق أغراضهم، بل الأسوأ أن مثل هذه التقارير تُستغل بصورة لا أخلاقية لدفع الناس العاديين لممارسة العنف ضد السلطة وضد بعضهم البعض.
3- يمكن لمثل هذه التقارير التسبب في خلق انقسامات اجتماعية وسياسية خطيرة في البلدان التي تستهدفها، وقد تتطور إلى نشوب حروب أهلية، كما حدث في ليبيا والعراق واليمن وسوريا خلال ما يزيد على عقد من الزمان. ويكفي أن نتساءل عن العدد الضئيل (بضعة آلاف) من المتضررين في هذه البلاد من ممارسات الأنظمة الوطنية فيها حسب مزاعم تقارير مثل تقارير البرلمان الأوروبي بأنها ممارسات تنتهك حقوق الإنسان، وبين الأعداد المهولة التي تصل إلى عشرات الملايين من مواطني هذه البلاد الذين فقدوا حياتهم أو اضطروا للفرار من العنف والحروب الأهلية التي نشبت على خلفية تحريض ما يسمى بمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان بتقاريرها غير المنضبطة وغير الموضوعية، على الثورة على تلك الأنظمة؟
الإجابة كما أوردتها منظمة الصليب الأحمر الدولي عام 2021، هي "قرابة نصف مليون قتيل، وفقدان اثني عشر مليون مواطن لموطنهم، سواء داخل حدود الدولة، أو في ملاجئ في دول خارجية، في الحرب الأهلية السورية. وفي اليمن وحتى عام 2020 فقد نحو ربع مليون شخص حياتهم في القتال الأهلي الدائر حتى اليوم، ويعاني 80% من أبناء هذا البلد من نقص خطير في الإمدادات الغذائية جراء هذا الاقتتال. هذا بالإضافة إلى أن الانفلات الأمني قد مكن لصوص ومهربي الآثار من التنقيب والإتجار والتهريب، في ظل غياب أو انشغال الأمن بالأوضاع المحلية المضطربة حتى وجدنا التراث الإنساني من القطع الأثرية الثمينة والنادرة معروضًا للبيع على صفحات التواصل الاجتماعي، ومواقع التسوق الإلكتروني، دون خجل أو اكتراث لا للقانون، ولا للمعايير الأخلاقية، ولا حتى للملكية الفكرية والتراثية لشعوب الشرق الأوسط".[4]
بمعني أكثر وضوحا، فإن البرلمان الأوروبي ينتصر في تقاريره لفئة لا تزيد عن بضعة آلاف في العالم العربي كله، ويتبني مزاعمها عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلادهم، ويدعم تحريضهم على العنف، بحجة أنهم مدافعين عن حقوق الإنسان. ويريد معاقبة الشعوب والحكومات في تلك البلدان جراء ذلك، في الوقت الذي يتجاهل حجم الكارثة التي قادت إليها هذه التوجهات غير المسئولة، ولا يري (أي البرلمان الأوروبي) أن عليه مسئولية أخلاقية أكبر بكثير وهي البحث عن وسائل لنشر ثقافة حقوق الإنسان لا تقود لتقويض المفهوم ذاته، ولا تؤدي -وهذا هو الأهم- إلى تدمير المجتمعات واسقاط الدول والتسبب في خلق انتهاكات أكثر بشاعة وأعظم حجما لحقوق الإنسان.
الحسابات الانتخابية وعلاقات المصالح بين اليسار والإسلاميين كمدخل لفهم التقرير
عادة ما تقف معظم الأحزاب اليسارية والليبرالية الأوروبية وراء تقارير حقوق الإنسان عن العالم العربي والاسلامي، وسنركز هنا على العلاقة بين اليسار الأوروبي وتنظيمات الإسلام السياسي لنبين كيف تلعب علاقة المصالح المتبادلة بينهما، الدور الرئيسي في إصدار التقارير المسيئة للدول والشعوب العربية والإسلامية، حيث توضح العديد من الدراسات، أن اهتمام أحزاب البرلمان الأوروبي بحالة حقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط عامة، ينبع من أسباب تتعلق بالتنافس الانتخابي فيما بينها في الداخل الأوروبي ليس إلا، وذلك في ظل الحقائق الثلاث التالية:
1- هناك ما يقرب من 27 مليون مواطن أوروبي من أصول إسلامية وعربية. وبالتالي فإن الأحداث التي تقع هنا أو هناك (في العالمين العربي والإسلامي)، وكذلك المواقف التي يتخذها هذا الطرف أو ذاك من قضية معينه، يمكن أن تؤدي إلى إثارة المشكلات على الجانبين.
2- أن تيارات الإسلام السياسي في أوروبا باتت تشكل لوبي قوياً داخل بعض الدول الأوروبية الهامة مثل ألمانيا، ويمكنها توجيه أصوات العرب والمسلمين في أي بلد أوروبي نحو الحزب أو الأحزاب التي تتبني الدفاع عن قضاياها الخاصة.
3- أن الضغط عبر تقارير حقوق الإنسان التي يصدرها البرلمان الأوروبي، على بعض الدول، يبدو حلا جيدا لإرضاء الحلفاء من الناخبين العرب والمسلمين وجذب أصواتهم في الانتخابات، سواء كانت انتخابات وطنية أو انتخابات الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، حتى لو لم تتخذ الحكومات المعنية مثل هذه التقارير أساسا لسياستها الرسمية حيال هذه الدول. كما يمكن لحكومات الدول الأوروبية استغلال هذه التقارير لانتزاع تنازلات من الدول التي تتناولها مثل هذه التقارير في ملفات أخري لا علاقة لها بقضية حقوق الإنسان.
وتوضح إحدى الدراسات كيف تتفاعل العناصر الثلاثة المذكورة معا، لتخلق اهتماما خادعا من جانب أحزاب الاتحاد الأوروبي بأوضاع حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي والإسلامي، حيث تشير الدراسة إلى "أن تساهل الأحزاب اليسارية الأوروبية مع الإسلام السياسي ينبع بالدرجة الأولى من نمو اليمين المتطرف الذي يتبنى سياسة معادية للمسلمين والأجانب بشكل عام، حيث يستفيد اليمين المتطرف من ظاهرة الإسلاموفوبيا للحصول على أصوات الناخبين الغاضبين من سياسة الأحزاب الأوروبية النخبوية. في المقابل يعمل اليسار الأوروبي بطريقة مضادة، عن طريق مبادرات تسعى لزيادة تقبل المسلمين في المجتمع الأوروبي، بهدف سحب هذه الورقة من يد اليمين الشعبوي، وعلى ما يبدو من خلال تقارير متقاطعة، فإن حركات الإسلام السياسي استغلت الموقف، وقدمت نفسها كمنظمات أو كيانات تعمل ضد ظاهرة الإسلاموفوبيا والعنصرية، وتمكنت من تعزيز تواجدها داخل بعض الأحزاب اليسارية في عدد من الدول، فيما استفادت من تواجد هذه الأحزاب في السلطة في بعض البلدان للحصول على تسهيلات لأنشطتها". [5]
وتشير دراسة أخرى إلى أن "معظم الأقليات المسلمة تصوت للأحزاب اليسارية في بلد إقامتهم. على سبيل المثال، في المملكة المتحدة، صوت 85٪ من المسلمين لحزب العمال في انتخابات عام 2017. في فرنسا صوت 93٪ لاولاند، مرشح الحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية لعام 2012، وفي الولايات المتحدة يصوت ثلثا الأقليات المسلمة للحزب الديمقراطي. [6]
في ظل هذه الحقائق لا يصعب التوصل إلى معادلة حاكمة لعلاقة: يقدم فيها اليسار الأوروبي تأييده لأجندة الإسلام السياسي خارج أوروبا، أو بالتحديد في البلد الذي أتت منه الجماعات المنتمية لها، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، مقابل تعهد الإخوان بتجنيد أصوات المسلمين الأوروبيين لصالح الأحزاب اليسارية الأوروبية. [7]
إن تسلل الإخوان المسلمين إلى الجاليات المسلمة في أوروبا وقيادتهم بحجج دينية واجتماعية نحو تبني أجندات سياسية معينة في الداخل الأوروبي، لا يبدو صعبا، حيث تشير دراسة أخرى إلى "أن الأعضاء الأكثر محافظة اجتماعيا في المجتمعات المسلمة في أوروبا، هم الذين يجيدون حقا بلورة أصوات الكتلة الإسلامية، وحشد أصواتهم الانتخابية. علاوة على ذلك، غالبا ما تتركز هذه الطوائف الأكثر محافظة ودينية في بعض المدن والدوائر الانتخابية، وفي هذه المناطق، يخاطر أي حزب بخسارة الانتخابات إذا لم يقم بتجنيد أصوات المسلمين. بمعنى آخر، هذا هو التحدي الذي تواجهه هذه الأحزاب: إذ غالبا ما يتعين عليها الاعتماد على المجتمعات المسلمة المحافظة اجتماعيا ودينيا للغاية للفوز بالانتخابات. [8]
أيضا لا يمكن تجاهل العلاقة الإيدولوجية بين اليسار الأوروبي واليسار في الشرق الأوسط، وكيف يؤيد الأول دعوات الأخير للفوضى والعنف ضد سلطات بلاده تحت مسمى حقوق الإنسان. وهي الدعوات التي يري فيها كاتبوا تقارير حقوق الإنسان في البرلمان الأوروبي، ممارسات مشروعه تنتمي لحرية الرأي والتعبير!
وسواء بتحركات من الإسلام السياسي أو من التنظيمات اليسارية خاصة المتطرفة، أو بكليهما معا، فإن المواجهة المتكررة بين البرلمان الأوروبي والعديد من الدول العربية والإسلامية تتجدد بين الحين والآخر على خلفية صدور تقارير مسيئة من جانبه في حق تلك البلدان.
ملاحظات حول المضمون
من القراءة المدققة للتقرير الخاص بمصر، تظهر العديد من الملاحظات الجديرة بتفصيلها فيما يتعلق بدلالة تعاون أحزاب اليمين واليسار في البرلمان الأوروبي في إصدار التقرير، وتوقيت صدوره، والمنهج الذي اتبعه صانعوه، ولغة التقرير، وغيرها.
1- الأحزاب المشاركة في صناعة التقرير: حسب موقع الاتحاد الأوروبي على شبكة الإنترنت فإن سبعة كتل حزبية من بين الثمانية كتل المسجلة في البرلمان قد دعت إلى كتابة التقرير عبر ممثلين لكل كتلة منها لا يزيد عددهم عن عشرين مندوبا. وهذه الكتل هي:
- المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون (ECR)، وهي مجموعة من الأحزاب اليمينية المعنية بالدرجة الأولى بقضية الحد من الهجرة القادمة من العالم الثالث (عدد النواب 64 نائبا).
- مجموعة حزب الشعب الأوروبي (EPP Group)، وهي مجموعة سياسية من يمين الوسط (عدد النواب 176 نائب).
- تجديد أوروبا (Renew)، وهي مجموعة سياسية ليبرالية مؤيدة للوحدة الأوروبية (عدد النواب 102 نائب).
- الخضر/التحالف الأوروبي الحر Greens/EFA، ويتألف من عدة أحزاب سياسية إقليمية وانفصالية وأقليات إثنية. تنادي تلك الأحزاب إما بالاستقلال السياسي التام والسيادة، أو بشكل من أشكال نقل السلطة أو الحكم الذاتي لبلدها أو إقليمها (عدد نواب المجموعة 72 نائبا).
- تكتل اليسار GUE/NGL، وهو عبارة عن ائتلاف يضم في صفوفه 19 تجمعاً سياسياً يسارياً في 14 دولة أوروبية (ممثل بـ 38 نائبا).
- التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين D&S، وهو المجموعة السياسية في البرلمان الأوروبي لحزب الاشتراكيين الأوروبيين (PES). وتصنف كيسار الوسط في التوجه، وتضم في الغالب أحزابا اشتراكية ديمقراطية وتنتسب إلى التحالف التقدمي والأممية الاشتراكية (146 نائبا).
- الهوية والديمقراطية Identity and Democracy، وهي مجموعة من أحزاب يمينية، ويمينية متطرفة، تم إطلاقها في 13 يونيو 2019 لولاية البرلمان الأوروبي التاسع. وتتكون من أحزاب قومية وشعبوية يمينية (تمتلك 64 نائبا).
قد يكون اجتماع كافة أحزاب الطيف السياسي في البرلمان الأوروبي على إصدار تقرير عن حالة حقوق الإنسان، دليلا خادعا على مدى فداحة انتهاكات هذه الحقوق في مصر، استنادا إلى تحركها جميعا لإدانة هذه الانتهاكات، أو قد يكون دليلا أشد خداعا على أن هذه الأحزاب مشغولة بالفعل بقضية حقوق الإنسان بشكل مبدئي. لكن الأمر كما سبق وأن أوضحنا يمكن تفسيره إلى حد كبير بالمنافسة المحتدمة في أوروبا بين اليمين واليسار حول الموقف من الجاليات المسلمة في أوروبا. صحيح أن الانتخابات القادمة للبرلمان الأوروبي ستكون في منتصف عام 2024، وهي فترة زمنية بعيده نسبيا عن التوقيت الذي ظهر فيه التقرير (نوفمبر 2022)، بما يقلل من قوة علاقة الارتباط الافتراضية بين التقرير والانتخابات، لكن الاستعداد لمثل هذه الانتخابات يبدأ مبكرا، حيث تريد الأحزاب الأوروبية أن تحشد أصوات الجاليات المسلمة لصالحها مبكرا: اليسار بمغازلته للإخوان المسلمين الذين يسيطرون على أغلبية الجاليات المسلمة في أوروبا، خاصة في ظل محاولات الإخوان حشد الدول الأوروبية والبرلمان الأوروبي من أجل الإفراج عن أعضائها المسجونين في مصر بتهم جنائية، وبذلك تتشكل صفقة جيدة، بمقتضاها يصدر البرلمان الأوروبي تقريرا يدين الحكومة المصرية، في مقابل تعهد الجماعة بتوجيه أصوات المسلمين الأوروبيين لصالح اليسار في الانتخابات المقبلة. أما أحزاب اليمين التي شاركت في إصدار التقرير المسيء عن مصر، فرغم أنها تقليديا تتبنى مبدأ إجبار الجاليات المسلمة على نسيان ثقافتها الأم والاندماج في الثقافة الأوروبية، أو الرحيل لبلدانهم الأصلية إذا رفضوا الاندماج، إلا أن تلك الأحزاب ترى أن الضغط على الحكومة المصرية من أجل الإفراج عن سجناء الجماعة الإرهابية، ومنح الجماعة حرية العمل السياسي في مصر، سوف يخدم الهدف الرئيسي لليمين الأوروبي وهو إفراغ القارة من المسلمين الذين يمكن أن يفضلوا العودة لبلدانهم الأصلية إذا وجدوا فرصة للعيش في نظام حكم يتبني توجهاتهم الداعية لإقامة دولة دينية.
لقد أوضحت "جورجيا ميلوني" رئيسة وزراء إيطاليا عندما كانت في المعارضة (ديسمبر 2018) أن ربط اليمين بين ما يصفه الأوروبيون عامة بغياب الديمقراطية في الشرق الأوسط، وبين تدفق المهاجرين على أوروبا، هو قناعة عامة أوروبية بالفعل وليس مجرد افتراض نظري.[9]
إذن عندما يتفق اليمين واليسار والوسط في البرلمان الأوروبي حول إصدار تقرير معاد للدولة المصرية ويحرض ضدها، فليس معني ذلك بالضرورة قناعة هذه التيارات بصدق المعلومات التي بني عليها التقرير، ولا بسبب حرصها من الناحية المبدئية على حقوق الإنسان، بل لأسباب مصلحية بحته.
2- دلالات عملية التصويت على التقرير: يبين موقع البرلمان الأوروبي على شبكة الإنترنت أن عدد من أيدوا التقرير الصادر بحق مصر 326 نائبا، مقابل رفض 46، وامتناع 186 نائبا عن التصويت، وعدم حضور 147نائبا.
ويمكن قراءة هذه البيانات بطريقتين مختلفتين؛ الأولى، منسوبة إلى القوة الكاملة للبرلمان الأوروبي (705 نواب)، ويعني ذلك أن من وافقوا على إدانة مصر 46% فقط من أعضاء البرلمان، وأن عدد الرافضين ومن امتنعوا عن التصويت (ربما لعدم قناعتهم بالتقرير منهجا وأهدافا) يبلغ 33% من نفس عدد النواب. الطريقة الثانية في الحساب هي نسبة نفس الأرقام لعدد النواب الذين حضروا جلسة التصويت على القرار، وهم 558 نائبا، ووفقا لذلك فإن نسبة من أيدوا التقرير 58%، مقابل أقلية كبيرة تصل إلى ما يقرب من 42% منهم رفضت أو امتنعت عن تأييد التقرير.
وأي كانت طريقة الحساب فإننا لسنا إزاء إدانة واسعة لحالة حقوق الإنسان في مصر في البرلمان الأوروبي، وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع اللغة البلاغية التي كُتبت بها عبارات التقرير ومع معني مصطلح التقرير ذاته.
3- لغة التقرير: استخدم التقرير عبارات وأحكام معممة مثل "القمع الشامل"، و"الانتهاكات الخطيرة"، و"انعدام الحقوق والحريات في مصر"، و"الاستخدام الواسع النطاق للتعذيب"، و"الدولة الأكثر وحشية في استخدام عقوبة الاعدام"، و"اعتقالات جماعية لعشرات الآلاف "… إلخ.
إن استخدام مثل هذه العبارات وبهذه اللغة، يتنافى مع المفهوم الفعلي والعلمي لمصطلح التقرير، والذي يعني أنه نص يتميز بدقة المعلومات، والحيادية بين أطراف القضية قيد الدراسة. وحينما يأتي التقرير على المطالب التي يرفعها للقادة الأوربيين لتقديمها إلى مصر تحت عنوان معالجة انتهاكات حقوق الإنسان فيها، تبدو اللغة المستخدمة بالنسبة لأي مواطن مصري يعرف تاريخ بلاده، أنها لغة لا تختلف عن تلك التي كان يستخدمها المندوب السامي البريطاني في زمن احتلال بريطانيا لمصر. لغة مُستعمِر يريد فرض إرادته بقوة الاحتلال في الماضي، وبالتحريض على الفوضى والعنف والعقوبات في الزمن الحاضر.
4- مغالطات في المعلومات والاستنتاجات: اعتمد التقرير في صيغته المنشورة على موقع الاتحاد الأوروبي على الكثير من المعلومات غير الصحيحة أو المجهولة المصدر، كما تبنى بوضوح الروايات التي يرددها نشطاء الجماعة الإرهابية أو المتداولة على وسائط التواصل الاجتماعي، دون وجود آليه لفحص مدى صدق هذه الروايات أو مدى تحلي الآراء التي تعتمد عليها بالموضوعية في مناقشة القضية. وسنورد هنا عددا من الملاحظات المتعلقة بهذا الجانب:
أ- يدين التقرير استمرار العمل بقانون الطوارئ في مصر منذ عام2017 وحتى اليوم، بينما الواقع أن مصر ألغت العمل بهذا القانون في أكتوبر عام 2021.
ب- يتحدث التقرير عن قيام مصر قبل، واثناء انعقاد قمة المناخ بشرم الشيخ في شهر نوفمبر 2022، بالتضييق على نشطاء المجتمع المدني ومنعهم من حضور المؤتمر، ومنع من حضروا من التعبير عن رأيهم في حالة حقوق الإنسان في مصر، بينما المعلوم لكل من تابع أو شارك في المؤتمر أن القوانين الحاكمة لانعقاده، تمنح الأمم المتحدة الحق الحصري في توجيه الدعوات، وأن مصر ملزمة باستقبال من يتلقون هذه الدعوات. ولأن المؤتمر كان مخصصا لمناقشة قضايا المناخ، فلم يكن من الوارد أن تقبل سكرتارية المنظمة الدولية المسئولة عن توجيه الدعوات، الاستجابة لطلب أفراد أو منظمات ليس لهم علاقة بقضية البيئة وقضية المناخ، لحضور المؤتمر، ورغم ذلك لم تمنع السلطات المصرية أخت السجين بجرائم جنائية في مصر (علاء عبد الفتاح) من عقد مؤتمر صحفي في الجناح الألماني أشاعت فيه أكاذيب فاضحة عن حالة شقيقها. وهو حدث يثبت أن مصر لم تتعرض لأي شخص تلقى الدعوة من منظمات أهلية قبلت الأمم المتحدة توجيه الدعوة لها بحضور القمة، دون أن يعني ذلك موافقتها (أي المنظمة الدولية) على أن تتحول قمة إنقاذ كوكب الأرض، إلى منصة لإنقاذ سجين جنائي واحد على هذا الكوكب!!
ج- طالب التقرير الحكومة المصرية بإعادة فتح ملف الطالب الإيطالي "جوليو ريجيني" الذي وُجد مقتولا في عام 2016، متجاهلة حقيقة أن مصر تعاونت بشكل كامل مع إيطاليا في هذا الملف، وأن التحقيقات المصرية قد أظهرت عدم وجود أي علاقة بين اختفائه ثم مقتله لاحقا، وبين الأمن المصري الذي اتهمته روايات مغرضة بوقوفه خلف الحادث، قبل أن تُعلن المحكمة الاستئنافية الإيطالية نفسها تعليق محاكمة أربعة ضباط شرطة مصريين، بتهمة قتل ريحيني، وأمرت بإعادة الأوراق إلى قاضي التحقيق الأولي؛ إذ خشيت المحكمة من احتمال عدم معرفة الضباط بأنهم متهمون، ما يبطل الإجراءات.[10]
وعلى حين أن قرار هذه المحكمة يعني إغلاق القضية عمليا بسبب عدم وجود حق لها في استدعاء مواطنين أجانب للمثول أمامها، فإن تقرير البرلمان الأوروبي تعامل مع قرارها السالف الذكر، وكأنه غير موجود وتجاهله تماما، وكان الأولى بمن كتبوا التقرير أن يعتمدوا عليه، وعلى مبدأ أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، لكي يتوقفوا عن إثارة القضية اعتمادا على القراءات الملتوية لقرار المحكمة الإيطالية، لإشاعة الوهم بأن القضية ما تزال مفتوحة وأن الحكومة المصرية مدانة بالفعل بقتل ريجيني.
د- كما هي عادة تقارير البرلمان الأوروبي عن حالة حقوق الإنسان في مصر منذ عام 2014 على الأقل، تحدث التقرير عن أعداد معتقلين بعشرات الآلاف في السجون المصرية، دون إثبات وجود ولو ألف اسم فقط لمعتقلين وتاريخ اعتقالهم وأماكن احتجازهم كما يزعمون، مكتفين بهذه التقديرات البلاغية التي لا تتناسب مع تعبير "تقرير" والتي تعكس نوايا التربص بالدولة المصرية لأسباب مصلحية ضيقة من جانب أحزاب البرلمان الأوروبي، كما سبق أن أوضحنا.
هـ- يعكس التقرير نوعا من التربص بالقضاء المصري واتهامه بأنه غير مستقل، دون إثبات هذا الادعاء، والتوسع في وصف كل السجناء المحكوم عليهم بعقوبات نتيجة جرائم التحريض ونشر الشائعات ودعوات الفوضى والعنف، بأنها تهم مختلقة! بينما يعرف واضعوا التقرير أن كل دولة بما فيها دول الاتحاد الأوروبي ذاته لا تتسامح قوانينها مع نشر المعلومات المشوهة أو دعاوى التحريض، ويعرفون أيضا أن ملايين المواطنين الأبرياء الذين يمكن أن تتعرض حياتهم أو مصالحهم للخطر جراء التسامح مع تلك الممارسات من جانب أقلية ضئيلة، لهم الحق على دولتهم لحمايتهم من تلك الأخطار. من ذلك على سبيل المثال، القضية المثارة مؤخرا في ألمانيا، حيث أصدر الادعاء العام الألماني في السابع من ديسمبر الجاري (٢٠٢٢)، أوامر اعتقال بحق 25 فردا يشتبه في انتمائهم إلى مجموعة "مواطني الرايخ"، الذين أسسوا بنهاية نوفمبر 2021 تنظيما إرهابيا لمحاربة مؤسسات الدولة وممثليها. وقد هاجمت قوات الأمن الألمانية بـ(ثلاثة آلاف رجل) مئات المنازل في إحدى عشر ولاية ألمانية للقبض على هؤلاء الخمس والعشرين شخصا؛ فهل سنرى البرلمان الأوروبي مستعدا لإصدار تقرير يدين ألمانيا ويتهمها بانتهاكات حقوق الإنسان بشكل جسيم وجماعي، وباستخدام المداهمات المفرطة في استخدام كثيف لقوات الأمن الذين يمكن أن يتسببوا في ترويع جماعي لمواطنين أبرياء؟!! أم أن المبالغة والتقديرات الجزافية من جانب البرلمان الأوروبي ستكون من نصيب مصر وحدها، مع ملاحظة أن القانون الألماني يضم مواد تعتبر محاولة اسقاط الدولة من الجماعات الإرهابية جريمة تستوجب العقاب، مثلما يضم القانون المصري مواد مماثلة، ويصنف أيضا جماعة الإخوان كجماعة إرهابية مثلها تماما مثل جماعة مواطني الرايخ الألمانية. [11]
أيضا يمكن أن نشير إلى تقرير حقوق الإنسان الصادر عن منظمة العفو الدولية عام 2021، والذي ورد فيه بالنص: "تواصل السلطات الفرنسية، استخدام نصوص جنائية مبهمة وفضفاضة للغاية لإلقاء القبض على المحتجين السلميين ومقاضاتهم، كما تواصل أيضا استخدام أسلحة خطرة للحفاظ على الأمن أثناء التجمعات العامة." وفي أغسطس 2022، أدخلت فرنسا على القانون المتعلق "بالمبادئ الجمهورية" أسساً جديدة مثيرة للجدل لحل المنظمات. وقد شملت، على سبيل المثال، التحريض على التمييز المجحف أو العنف من جانب أي عضو في المنظمة، حيث يتقاعس قادتها عن منع التحريض. وفي يونيو من العام نفسه أثارت اللجنة الأوروبية لمنع التعذيب بواعث قلق بشأن العنف والانتهاكات التي تعرّض لها أشخاص في الحبس الاحتياطي، بما في ذلك زعم تعرضهم لإهانات عنصرية ومعادية للمثليين من جانب الشرطة.
كذلك أعربت اللجنة الأوروبية لمنع التعذيب عن قلقها إزاء الاكتظاظ وغيره من الأوضاع في السجون الفرنسية، فضلاً عن احتجاز أشخاص مصابين بأمراض عقلية في سجون نظامية بسبب عدم توفر المرافق المناسبة. [12]
فهل تأخذ لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الأوروبي تقارير العفو الدولية عن هذه الدول الأوروبية كسند معتمد وشرعي، لإدانة حكومات هذه الدول؟! وهل تطالب بفرض عقوبات عليها، ومن هي الجهة التي سيطلب منها البرلمان الأوروبي تنفيذ مثل هذه العقوبات أن وجدت؟!
و- أورد التقرير عن حالة حقوق الإنسان في مصر أسماء أشخاص متهمين بجرائم أخلاقية تتعارض مع القانون وقيم المجتمع المصري، مثل حنين حسام، ومودة الأدهم، وهما فتاتان تمت محاكمتهما بسبب نشر دعوات للإباحية على شبكة الإنترنت، كما تحدث التقرير عن انتهاكات حقوق للمثليين أو الشواذ جنسيا، معتبرا محاكمتهم على ممارساتهم أو دعواتهم العلنية لتقنيين الحق في إعلان الشذوذ، هو انتهاك لحقوق الإنسان! متناسيا أن الكثير من الدول، ومنها مصر، تحظر قانونا هذه الممارسات، ناهيك عن رفض المجتمع المصري لمثل هذه الممارسات، إضافة إلى أن مصر حينما توافق على إعلانات دولية تضع تحفظات على بعض بنودها، وهي ما فعلته حيال كل محاولات تقنيين تلك الممارسات في مؤتمرات دولية تناولت هذه القضية مثل مؤتمرات السكان التي ترعاها الأمم المتحدة.
خاتمة
كما هو واضح فإن تقارير البرلمان الأوروبي بشأن حالة حقوق الإنسان في مصر وبعض البلدان العربية والإسلامية، لا تستند في الواقع إلى معلومات موثقة، وتُصاغ بلغة منحازة ومتعالية، ولا تأبه بالمشكلات التي يمكن أن تخلقها مثل هذه التقارير لملايين الأبرياء الذين يمكن أن يفقدوا حياتهم أو مأواهم أو أوطانهم نتيجة اعتبارها محدد للتعامل مع الدول الغير أوروبية. ولا يبدو أن هناك أمل يذكر في أن يتراجع البرلمان الأوروبي عن سياسة إصدار تقارير من هذا النوع مستقبلا، لأن الأمر ببساطة يتعلق بمصالح الأحزاب الأوروبية وليس بالقلق فعلا على حقوق الإنسان في مصر أو العالم.
[5] مركز أبحاث ودراسات مينا MENA Research Center، "واقع العلاقة بين اليسار الأوروبي والإسلام السياسي في أوروبا"، 12 أغسطس 2022. متاح على الرابط التالي:
https://cutt.us/yg2pL