أعلن تنظيم داعش الإرهابي، في 30 نوفمبر 2022، عبر مقطع فيديو مصور للمتحدث باسم التنظيم أبي عمر المهاجر، عن مقتل زعيم التنظيم أبي الحسن الهاشمي القرشي، والذي يُعد بذلك أقل زعماء التنظيم الذين تولوا المنصب، إذ لم تتجاوز فترة قيادته للتنظيم حاجز الـ 9 أشهر، كما أعلن التنظيم في المقطع المسجل الذي حمل عنوان "فيقتلون ويُقتلون" عن اختيار أبو الحسين الحسيني القرشي، كزعيم جديد للتنظيم، ولاحقاً أكدت الولايات المتحدة أنباء مقتل القرشي، في عملية أمنية نفذها الجيش السوري الحر في محافظة درعا جنوب البلاد.
وبعيداً عن ما حملته العملية من دلالات وما اعتراها من غموض، إلا أن اللافت هو أن هذه العملية والعمليات المماثلة التي سبقتها تُعبر في مجملها عن تسارع وتيرة عمليات استهداف قادة التنظيم، وتراجع المنحى الزمني الخاص بقيادتهم لداعش وهو ما وصفته بعض التقديرات بـ "انخفاض دورة حياة زعماء التنظيم"، فضلاً عن أن الإعلان عن مقتل زعيم التنظيم يطرح العديد من التساؤلات التي تحاول الوقوف على تأثير مثل هذه العمليات على داعش ونشاطه العملياتي.
تضارب في الروايات
على الرغم من تأكيد نبأ مقتل أبي الحسن الهاشمي القرشي، من قبل تنظيم داعش نفسه، والعديد من الدول والمنظمات، إلا أن هناك تضارباً في الأقوال بخصوص حيثيات مقتله، والجهة التي نفذت العملية التي أودت بحياته، ففي الوقت الذي أعلنت فيه القيادة المركزية للجيش الأمريكي أن زعيم تنظيم داعش أبو الحسن الهاشمي القرشي قُتل في منتصف شهر أكتوبر الماضي، في عملية أمنية لقوات الجيش السوري الحر -أحد الفصائل السورية المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا- في محافظة درعا [1]، أعلن الجيش الوطني السوري في 3 ديسمبر عن أن زعيم داعش "قُتل في عملية أمنية نفذها الجيش السوري ومقاتلون محليون قبل شهر ونصف في جنوب البلاد"، وذلك وفق ما أعلنته وكالة الأنباء السورية الرسمية[2].
لكن تقارير إخبارية أشارت استناداً إلى بعض المصادر الميدانية في درعا، إلى أنه تم رصد القرشي ومساعديه بمخبأ سري في واحد من 3 منازل استهدفتها العملية التي نفذها مقاتلون من مدينة جاسم بمساندة ميدانية من عناصر الفيلق الخامس (وهو فصيل أسسه الروس من مقاتلين معارضين سابقين ليقاتل إلى جانب قوات النظام السوري) ودعم مدفعي من قوات النظام التي طوقت المدينة، وأشارت التقارير إلى أن "زعيم التنظيم وأحد مرافقيه فجرا نفسيهما بحزامين ناسفين بعدما نجح المقاتلون في اقتحام مخبأهما".
لكن وجود زعيم التنظيم في مدينة جاسم بجنوب غربي سوريا، يكشف أن تواجد زعيم التنظيم في منطقة الجنوب السوري، يأتي في إطار النشاط الذي شهدته الأنشطة الداعشية في هذه المنطقة خلال الآونة الأخيرة، وذلك على خلفية حالة التراجع التي مُني بها التنظيم في مناطق الشمال السوري إثر الحملات المكثفة لقوات سوريا الديمقراطية بدعم من الولايات المتحدة، فضلاً عن أن النظام السوري كان له دور في عودة نشاط خلايا التنظيم إلى الجنوب السوري، خصوصاً عندما أعلن في العام 2019 على فترات متفرقة عن إطلاق سراح قرابة 200 عنصراً من عناصر جيش "خالد بن الوليد"، الذي كان مبايعاً لتنظيم "داعش" ويسيطر على منطقة حوض اليرموك[3]. وبالإضافة لذلك يبدو أن أبو الحسن اختار محافظة درعا لعدم الحضور الأمريكي القوي فيها، الأمر الذي اعتقد معه صعوبة الوصول إليه.
لماذا تصاعد استهداف قادة داعش؟
اعترى العملية الأخيرة الخاصة باغتيال زعيم داعش غموض كبير على أكثر من مستوى، إذ أنها المرة الأولى تقريباً التي لا تشارك فيها الولايات المتحدة أو التحالف الدولي لمحاربة داعش في تنفيذ عملية بهذا النوع، ويبدو أن تأخر الإعلان الأمريكي عن مقتل زعيم داعش، يرتبط على الأرجح بعدم مشاركة واشنطن في العملية، فضلاً عن الوقت الذي تستغرقه أجهزة الاستخبارات من أجل العمل على التحقق من هوية العناصر الإرهابية المقتولة، وكذا حالة الغموض الكبيرة التي أحاطت بالرجل منذ توليه قيادة تنظيم داعش في 10 مارس 2022، خلفاً لـ "أبو إبراهيم القرشي"، فالرجل الذي عُد الخليفة الثالث لتنظيم داعش، لم يُكشف عن هويته حتى الإعلان عن مقتله، إذ تضاربت الأقاويل بين من يذهب إلى أنه كان شقيق الزعيم الأول للتنظيم أبو بكر البغدادي، وبين من يذهب إلى أنه لم يكن شقيق البغدادي لكنه كان من قادة الصف الأول في داعش.
وفي المقابل يبدو أن حرص تنظيم داعش على الإعلان عن مقتل زعيمه يأتي في إطار مساعيه لاحتواء أي أزمات داخلية قد تنشأ عن توارد الأنباء عن مقتله، فضلاً عن عدم إعطاء فرصة للولايات المتحدة لتوظيف العملية إعلامياً وسياسياً.
ويبدو أن حالة الغموض المحيطة بهذه العملية سوف تستمر لفترة طويلة، خصوصاً مع تبني تنظيم لاستراتيجية "التعتيم" على مستوى قادته، لكن الأهم هو أن العملية تمثل استمراراً لحالة النزيف التي يعاني منها تنظيم داعش على مستوى قادة الصف الأول، وهي الحالة التي يمكن تفسيرها في ضوء بعض الاعتبارات الرئيسية، وذلك على النحو التالي:
1- استراتيجية قطع الرؤوس: ركز النهج الأمريكي والدولي بشكل عام في السنوات والأشهر الأخيرة على مستوى مكافحة الإرهاب، على استهداف قادة الصف الأول للتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش، سواءً عبر التصفية الجسدية، أو الاعتقال والاحتجاز، في إطار ما عُرف بـ "استراتيجية قطع الرؤوس"، وعبرت عمليات اغتيال زعماء داعش بدايةً من أبو بكر البغدادي، مروراً بـ أبو إبراهيم القرشي، وصولاً إلى الإعلان عن مقتل أبو الحسن القرشي، وكذا اغتيال والي الشام ماهر العقال في غارة جوية أمريكية في يوليو الماضي، فضلاً عن الإعلان في يونيو الماضي عن اعتقال والي الرقة هاني الكردي، والإعلان في 7 أكتوبر الماضي عن اعتقال نائب والي الشام أبو هاشم الأموي، وإعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سبتمبر الماضي عن اعتقال القيادي الكبير في التنظيم بشار خطاب غزال الصميدعي الملقب بـ"أبو زيد" [4]، عبرت هذه العمليات في مجملها عن نجاح هذه الاستراتيجية في اصطياد قادة الصف الأول في التنظيم.
2- الأزمات البنيوية لداعش: لا يمكن إغفال الأزمات البنيوية التي يعيشها تنظيم داعش، عند مناقشة العملية التي أودت بحياة القرشي، فمن جانب تمثل العمليات المتكررة التي أدت إلى اغتيال زعماء التنظيم، تأكيداً على فشل استراتيجية "التعتيم" التي يتبناها التنظيم في إعلانه عن قادته، ومن جانب آخر تُشير هذه العمليات إلى وجود اختراقات أمنية كبيرة لصفوف التنظيم، إذ أن أبو الحسن القرشي نفسه كان متهماً بالعمل مع الاستخبارات الأمريكية في بعض الفترات، فضلاً عن أن التنظيم يشهد العديد من الخلافات التي يقع بعضها في الإطار الفكري والفقهي، والبعض الآخر في الإطار التنظيمي والسياسي، بما يسهل من عملية الاختراق الأمني له، وهي اعتبارات يفشل معها التنظيم في توفير الحماية لقادته.
3- حالة التراجع العام لداعش: يرتبط تصاعد استهداف وتصفية قادة الصف الأول لتنظيم داعش، بشكل رئيسي بحالة التراجع العام التي يعيشها التنظيم منذ هزيمته في آخر معاقله في قرية الباغوز بمحافظة دير الزور السورية في مارس 2019، ما عبر عملياً عن سقوط دولته المزعومة، ثم اغتيال زعيمه ومؤسسه أبي بكر البغدادي في أكتوبر من العام نفسه، وهو السياق الذي أحدث هزات عنيفة داخل داعش، وأدى إلى التحول عن "استراتيجية التمكين" وتبني استراتيجية "النكاية أو التنكيل".
4- غياب القيادات الكاريزمية: في إطار تبني القوى الدولية والإقليمية لاستراتيجية "قطع الرؤوس" واستهداف قيادات تنظيم داعش، فقد التنظيم تقريباً غالبية قيادات الصف الأول الخاصة به، وبدأ في الاعتماد على ما تصفه بعض الدوائر المعنية بملف الإرهاب بـ "أمراء الضرورة"، في إشارة إلى بعض القيادات الداعشية التي تفتقر إلى المقومات الكاريزمية والمهارات الجهادية المطلوبة لقيادة التنظيم، ومن بينها المهارات الأمنية والاستخباراتية التي تُصعب من مهمة استهدافهم، وهو اعتبار دفع باتجاه تنامي وتيرة استهداف قيادات التنظيم.
التداعيات المحتملة لمقتل قادة داعش
مع التسليم بأن اغتيال زعماء وقادة الصف الأول في التنظيمات الإرهابية، يُحدث هزات وحالة من التراجع بالنسبة لهذه التنظيمات، إلا أن الواقع العملي يُشير إلى أن التنظيم بدأ في السنوات الأخيرة في التكيف مع مسألة مقتل قادته، وبشكل عام تخضع مسألة تداعيات مقتل قادة التنظيم على نشاطه العملياتي ومشروعه الجهادي، لبعض الاعتبارات الرئيسية، وذلك على النحو التالي:
1- حالة التنظيم بشكل عام: المحدد الأول الذي سيحكم تداعيات مقتل القرشي على تنظيم داعش، سيكون مرتبطاً بالحالة العام لتنظيم داعش، ومدى التنسيق والتواصل بين التنظيم الأم والمركزي والأفرع في الدول الأخرى، إذ يسعى التنظيم عادةً إلى ضمان ولاء هذه الأفرع، وتعزيز نشاطها بما يُقلل من أثر تراجع فاعلية التنظيم المركزي.
وبالإضافة لذلك تذهب بعض التقديرات إلى أن درجة النضج المؤسسي لتنظيمات العنف والإرهاب، تلعب دوراً مهماً على مستوى الحد من تداعيات مقتل الزعماء، في إشارة إلى اعتماد التنظيم على العمل المؤسسي في مقابل ثانوية دور القائد الفرد، فكلما زادت درجة النضج المؤسسي كلما قلل ذلك من تأثير مقتل القائد [5]، ومع التسليم بمنطقية هذا الطرح على الإطلاق، إلا أن الأمر يختلف في حالة التيارات الإرهابية ذات الخلفية الإسلامية، والتي يحظى فيها القائد الفرد بأهمية وقدسية كبيرة، ويلعب أدواراً متعددة، الأمر الذي يزيد من حجم التداعيات المترتبة على فقدانه.
2- وجود قادة قادرين على تولي المسئولية: أما الاعتبار الثاني الذي يكون محدداً لدرجة تأثر تنظيمات العنف والإرهاب بمقتل القادة، فيرتبط بمدى وجود قيادات أخرى سواءً من الصف الأول أو الثاني، قادرة على قيادة التنظيم وتم إعدادها لهذه الحالات، وعلى سبيل المثال ففي عام 1994 ومع سحب السعودية الجنسية من زعيم ومؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وكذا ممارسة العديد من الدول الإقليمية والدولية لضغوط على نظام الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير الذي كان يأوي أسامة بن لادن في تلك الفترة، تراجع دور بن لادن، لكن حالة ونشاط تنظيم القاعدة لم تتأثر بل على العكس زاد نشاط وقوة التنظيم على كافة المستويات، خصوصاً على مستوى "عولمة الجهاد" وإنشاء العديد من الأفرع للتنظيم لا سيما في القارة الأفريقية، وهو أمر يمكن إرجاعه لوجود عدد من القادة الكاريزميين من الصف الثاني في ذلك الوقت استطاعوا قيادة التنظيم وبناء الرؤى الفقهية والتنظيرية والهياكل الإدارية الخاصة به، من أمثال: أيمن الظواهري، وأبو محمد المقدسي، وأبو مصعب السوري، وأبو قتادة الفلسطيني، وعبد القادر بن عبد العزيز.
وفي حالة تنظيم داعش يبدو أن جهود مكافحة الإرهاب الدولية والإقليمية، أدت إلى اغتيال كافة قادة الصف الأول والثاني في التنظيم، الأمر الذي يزيد من الصعوبات التي يواجهها داعش عقب الإعلان عن اغتيال زعيمه.
وفي الختام، يمكن القول إن تنامي معدلات استهداف قادة تنظيم داعش، هو أمر يُعبر عن حالة التأزم التي يعيشها التنظيم، ويُعمق من أزمة القيادة الموجودة بالأساس، لكن فكرة استمرار أنشطة التنظيم وقدرته على تنفيذ عمليات إرهابية وتوسع هذه العمليات في بعض الفضائات الجغرافية، تطرح تساؤلات عديدة حول مدى الحاجة إلى تطوير استراتيجيات مكافحة الإرهاب بما يضمن تجفيف البيئات الخصبة والسياقات التي يوظفها التنظيم للحفاظ على استمراريته، مع الاستمرار في استهدافه عبر العمليات العسكرية والأمنية النوعية.