د. أحمد أمل

أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الدراسات الأفريقية العليا - جامعة القاهرة

 

بعد أزمة مركبة امتدت لأكثر من عام كامل، وقع المكون العسكري السوداني اتفاقاً مع عدد من القوى السياسية المنضوية تحت فصيل المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير في الخامس من ديسمبر 2022 حمل اسم "الاتفاق السياسي الإطاري" بدعم دولي وإقليمي واسع. وعلى خلفية تعقد المشهد السياسي السوداني خلال الشهور الأخيرة، تنظر العديد من الأطراف المعنية في الداخل والخارج للاتفاق الموقع بقدر من التفاؤل الحذر في ظل كون هذه الخطوة تشكل الاتفاق الموسع الثالث الذي يتم توقيعه في السودان منذ بداية المرحلة الانتقالية في أبريل 2019 بعد الوثيقة الدستورية واتفاق سلام جوبا، بما يكرس المشكلة التي تعاني منها المرحلة الانتقالية في السودان من وجود فائض في الاتفاقات والوثائق الناتجة عنها، مقابل عجز حاد في التنفيذ وإحراز تقدم ملموس على أرض الواقع. وبينما حمل الاتفاق الإطاري عدداً من المظاهر اللافتة على مستوى الشكل والمضمون، إلا أنه كشف في الوقت نفسه عن عدد من التباينات الداخلية ذات الأهمية في استشراف مستقبل الاتفاق.

التأييد والمعارضة

تم توقيع الاتفاق الإطاري بين الفرق أول عبد الفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة، والفريق أول محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع ممثلين عن المؤسسة العسكرية، بجانب عدد من القوى السياسية المنضوية تحت مظلة فصيل المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والتي تصدرها حزب الأمة القومي والمؤتمر السوداني فضلاً عن عدد من الأحزاب والحركات السياسية والتنظيمات ذات التوجهات الإثنية والجهوية.

وقد كشفت التفاعلات السابقة على توقيع الاتفاق الإطاري عن تحولات مهمة في خريطة القوى السياسية السودانية أفضت إلى استعادة فصيل المجلس المركزي من قوى الحرية والتغيير لموقعه المؤثر في اتجاهات التسوية، وهو ما جاء على حساب فصيل الميثاق الوطني الذي تشكل بالأساس من الفصائل المسلحة التي دعمت قرارات رئيس مجلس السيادة الانتقالي في أكتوبر 2021.

كذلك سبق توقيع الاتفاق الإطاري قيادة حزب الأمة القومي سلسلة من التفاعلات التي استهدفت التقرب من عدد من القوى المحسوبة على التيارات الإسلامية التقليدية وعلى رأسها حزب التجمع الاتحادي-الأصل، وحزب المؤتمر الشعبي، وجماعة أنصار السنة، الأمر الذي انعكس في ظهور تأييد جزئي من بعض عناصر الكيانات الثلاثة للاتفاق الإطاري.

لكن في المقابل، حظى الاتفاق الإطاري بقدر محدود من التوافق بين جميع التفاهمات والاتفاقات السياسية الموقعة بين الفرقاء في السودان منذ إزاحة البشير في أبريل 2019، وذلك مقارنة بالاتفاق الذي أفضى لإصدار الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019، أو اتفاق سلام جوبا الموقع في أكتوبر 2020. إذ اتسعت قائمة المعارضين للاتفاق لتشمل بعض القوى المؤثرة التي لعبت دوراً رئيسياً في معارضة قرارات البرهان بحل مجلس الوزراء الانتقالي في أكتوبر 2021 والتي تبنت موقفاً سياسياً متشدداً منذ ذلك الحين، على رأسها الحزب الشيوعي، وكذلك لجان المقاومة التي تحظى بتأثير ملموس على الأرض خاصة في المناطق الحضرية على الرغم من افتقادها للتماسك التنظيمي.

كذلك استمر عدد من الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية في معارضة الاتفاق الإطاري باعتباره يشكل امتداداً لاستبعدها من المشاركة الفعالة في أي من الاتفاقات الرئيسية في السودان منذ سقوط البشير، وهو الموقف ذاته الذي تبناه عدد من كيانات الإدارة الأهلية. كما لم تكن محاولات حزب الأمة القومي في التقارب مع عدد من الأحزاب الإسلامية كافية في اجتذاب دعمها بصورة كاملة للاتفاق الإطاري، حيث أدى تأييد كمال عمر، أحد رموز المؤتمر الشعبي، للاتفاق إلى إصدار هيئة الحزب بياناً رسمياً معارضاً للاتفاق، وهو ما تكرر مع محمد الحسن الميرغني الذي أيد الاتفاق في الوقت الذي أعلن فيه الحزب الاتحادي الأصل معارضته للاتفاق رسمياً.

لكن اللافت أن قائمة معارضي الاتفاق الإطاري قد اتسعت لتشمل فصيل الميثاق الوطني من قوى الحرية والتغيير والذي شكل تحالفه مع المؤسسة العسكرية مصدر دعم رئيسياً لقرارات أكتوبر 2021 وما تلاها، حيث أعلنت حركة العدل والمساوة التي يرأسها جبريل إبراهيم، وفصيل حركة تحرير السودان الذي يرأسه مني أركو مناوي معارضتهما الحادة للاتفاق الإطاري، وهو ما يضيف الحركتين إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان-الشمال التي يقودها عبد العزيز الحلو، وفصيل عبد الواحد محمد نور من حركة تحرير السودان وهما من أهم الحركات المسلحة في السودان على مستوى القدرات العسكرية واللتين رفضتا التوقيع على أي اتفاق سابق منذ سقوط البشير في ظل تبني كل منهما قائمة مطالب متشددة.

ومن شأن هذا الوضع الجديد أن يكرس من الاستقطاب بين المركز والهامش في السودان، حيث يفتقد الاتفاق الأخير أي تأييد مباشر من بين الفصائل المسلحة المؤثرة في الأقاليم الطرفية في السودان. لكن يبقى إقرار الاتفاق الإطاري باستمرار الحفاظ على مخرجات اتفاق سلام جوبا واعتبار الاتفاق جزءً لا يتجزأ من الدستور الذي سيتم إعداده أحد المسارات المفتوحة لإعادة دمج الفصائل الموقعة على اتفاق جوبا عام 2020 في العملية السياسية التوافقية من جديد بغض النظر عن موقفها من الاتفاق الإطاري.

الحسم والإرجاء

أقرت المادة الرابعة عشر من بند المبادئ العامة للاتفاق السياسي الإطاري في السودان مبدأ كون "السلطة الانتقالية سلطة مدنية ديمقراطية كاملة دون مشاركة القوات النظامية"، وهو ما يأتي ليحسم الكثير من الجدل الذي اعترض المسار الانتقالي على مستوى الوثائق السابقة وعلى مستوى التفاعلات كذلك. لكن الواضح أن هذا المبدأ قد شكل المعالجة الحاسمة الوحيدة في الوثيقة الموقع عليها، والتي غلب عليها طابع الإرجاء وإحالة المهام الانتقالية الرئيسية إلى فترات زمنية تالية، أو رهنها بإحراز المزيد من التقدم السياسي على مستوى توسيع قاعدة التوافق أو إحراز الحكومة الجديدة نجاحات ملموسة في المستقبل القريب.

فبينما أقر الاتفاق الإطاري مدة زمنية محددة تقدر بعامين تنتهي بعدها المرحلة الانتقالية، إلا أن صياغة النص بدأت في حساب العامين بتولي رئيس الوزراء الجديد مهام منصبه، وهو ما يعني أن امتداد الخلاف بشأن تسمية رئيس الوزراء بين القوى السياسية المختلفة سيطيل أمد المرحلة الانتقالية بصورة آلية. وفي ظل شغور منصب رئيس الوزراء في السودان لنحو 14 شهراً منذ قرارات البرهان في أكتوبر 2021 وما تلاها من خلافات عميقة بشأن تسمية رئيس وزراء جديد، قد تمتد المرحلة الانتقالية في السودان لعام 2025 بما يؤهلها لأن تصبح المرحلة الانتقالية الأطول بين مختلف التجارب الأفريقية.

وعلى المستوى الموضوعي، يتجلى المظهر الأبرز لغياب الحسم في الإحالة المتكررة لوثيقة تالية هي الدستور، حيث وضع الاتفاق عملية صناعة الدستور تحت إشراف مفوضية دستورية من بين قضايا ومهام الانتقال من دون أن يحسمها بالقدر الكافي. فعلى الرغم من عدم النص على ذلك صراحةً، إلا أن المقصود ضمناً ليس مجرد التوافق بشأن الدستور الدائم الذي سيحكم البلاد في أعقاب انتخاب سلطة مستقرة في نهاية المرحلة الانتقالية، وإنما سيهتم الدستور الجديد كذلك بعدد من المهام التي تدخل في إطار الترتيبات الانتقالية، وذلك على نحو ما يرد في مواد لاحقة، كتلك التي تحدد هياكل السلطة الانتقالية وتنص على أن يحدد الدستور مهام وحجم ومعايير اختيار أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي القومي، وكذلك الحال بالنسبة للحكومات الإقليمية أو الولائية والمحلية ومجلس الأمن والدفاع والمجلس العدلي المؤقت.

كذلك، اعترفت الوثيقة في بابها الأخير بأربع قضايا لم تتمكن من معالجتها، ولا تزال بحاجة للعمل على "تطوير الاتفاق الإطاري" وفق النص الوارد، وهي قضايا العدالة والعدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري، واتفاق جوبا وإكمال السلام، وتفكيك نظام الإنقاذ، وذلك في ظل الحاجة لمشاورات موسعة تشمل مختلف الأطراف صاحبة المصلحة.

بهذا المنطق، يأتي غياب المعالجات الحاسمة للقضايا الأربع ليقصر القيمة المضافة للاتفاق الإطاري على تسوية الخلاف الممتد بين فصيل المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والمكون العسكري في السودان بما يؤكد الحاجة لسلسلة من الاختراقات السريعة من أجل ضمان حد أدنى من النجاح للاتفاق الموقع مؤخراً.

الاستمرارية والتغير

كشف التوقيع على الاتفاق السياسي الإطاري في السودان عن العديد من مظاهر الاستمرارية مع المنطق العام الذي صنعت به الاتفاقات السابقة والذي أديرت به المرحلة الانتقالية منذ سقوط البشير وحتى اللحظة الراهنة. فقد قام الاتفاق على إعادة إحياء منطق التقاسم الشامل للسلطة والذي يتم على أساس معايير متعددة، متوازية ومتقاطعة، قد تؤدي إلى تعقيد عملية بناء التوافق وصياغته في صورة وثيقة ملزمة، إلا أنها تضمن في النهاية تمثيل عدد كبير من الأطراف بما يضمن للاتفاق عمراً أطول.

من ناحية أولى، خرج الاتفاق الإطاري باعتباره اتفاقاً بين القوى السياسية والمدنية من جانب، والمؤسسة العسكرية السودانية بفرعيها القيادة العامة وقوى الدعم السريع من جانب آخر، وهو ما يعني أن هذا الاتفاق يحظى بتأييد العناصر المدنية والعسكرية على السواء. ومن ناحية ثانية، يعكس الاتفاق منطق التقاسم الحزبي السياسي من خلال إحالة عدد من القرارات المؤثرة لتوافق "قوى الثورة الموقعة على الإعلان السياسي" وعلى رأسها تسمية رئيس مجلس الوزراء صاحب المنصب التنفيذي الأهم في المرحلة الانتقالية وتسمية أعضاء الحكومة وفق محاصصة حزبية لم يعلن عن معاييرها في الاتفاق الموقع.

 ومن ناحية أخيرة، يعكس الاتفاق إقرار منطق التقاسم الإثني في ظل اعترافه بسريان اتفاق سلام جوبا وتأكيد أهمية تنفيذ مقرراته، بما في ذلك المواد الأكثر تعقيداً من الناحية الإجرائية كدمج القوات التابعة للفصائل الإثنية المسلحة في بنية المؤسسة العسكرية.

كذلك، استمر التوجه نحو صياغة التوافقات في صورة وثائق تفصيلية تتضمن الكثير من الجوانب الإجرائية، في الوقت الذي كان من الممكن فيه الاكتفاء بإعلان مبادئ عام يعيد تجميع أكبر عدد من القوى الوطنية، مع إطلاق مسارات تفاوضية فرعية متعددة تفصل بين الملفات والقضايا المختلفة وتنتج تفاهمات تفصيلية في وقت لاحق.

ويأتي هذا التوجه في طبيعة الوثيقة التي تم التوافق عليها لمعالجة العجز الدستوري القائم في السودان منذ بداية المرحلة الانتقالية والذي نشأ بسبب غياب الشرعية الكاملة عن أي من الوثائق المتوافق عليها بين القوى السياسية المختلفة والتي لم يتم الاستفتاء على أي منها بما يوفر لها الشرعية والحصانة من الإجراءات المضادة.

وعلى الرغم من تعد مظاهر استمرارية المنطق السائد منذ بداية المرحلة الانتقالية في صياغة الاتفاق الأخير، إلا أن أبرز مظاهر التغير التي حملها تمثل في التحديد الواضح للأدوار، وتحميل القوى السياسية المدنية الموقعة على الاتفاق المسئولية الكاملة في تشكيل هياكل الحكم الانتقالي ممثلة في مجلس الوزراء والمجلس التشريعي والمفوضيات المستقلة والمستوى السيادي، من دون أي شكل من أشكال المشاركة العضوية مع المكون العسكري الذي تم تحديد بنيته واختصاصه تحت اسم "الأجهزة النظامية" التي لا تمارس أياً من مهام الحكم، والتي تضم القوات المسلحة وقوات الدعم السريع والشرطة وجهاز المخابرات العامة، على أن تكون نقطة الالتقاء العضوي الوحيدة في البنية المؤسسية للحكم الانتقالي هي مجلس الأمن والدفاع الذي سيرأسه رئيس الوزراء بعضوية قادة الأجهزة النظامية والوزراء ذوي الصلة.

وتؤسس هذه الترتيبات الجديدة لوضع جديد يفترض أن تقل فيه التوترات بين المكونات العسكرية والمدنية إلى الحد الأدنى بعدما تسببت فيه من تعثرات متعددة في السنوات الماضية. إلا أن ما أُعلن عنه في الاتفاق لا يضمن بذاته احتواء التوترات الداخلية بين المكونات المدنية المتعددة مع غياب النص الصريح على آلية المحاصصة وتوزيع المناصب بين هذه المكونات، وغياب الفصائل المسلحة عن التوقيع على الاتفاق الأخير والاكتفاء بالنص على استمرارية اتفاق سلام جوبا. ويضاف هذا النقص إلى عجز الاتفاق بنصه المعلن عن معالجة تعددية بنية القيادة في المؤسسة العسكرية باستمراره في التمييز بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والاكتفاء بالنص على استهداف توحيد الكيانات العسكرية بدمج قوات الدعم السريع في بنية القوات المسلحة وفق "الجداول الزمنية المتفق عليها"، من دون أي إشارة لخطوات إجرائية محددة أو إلى أطر زمنية معلنة، وهو ما قد يفتح الباب أيضاً أمام المزيد من التوترات الداخلية بين المكونات العسكرية وبعضها البعض.

الداخل والخارج

لم يطرأ على توازنات القوى السودانية أي تغير يذكر منذ قرارات أكتوبر 2021 التي أطاحت بحكومة عبد الله حمدوك الثانية حتى وقت توقيع الاتفاق الإطاري. إذ لا تزال الانقسامات العميقة تضرب غالبية القوى السياسية السودانية، ولم يعد للرهان على خيار الحشد الاحتجاجي قيمة مؤثرة في ظل تحولها لأحد ثوابت المعادلة السودانية والتي تؤكد الأزمة التي تعاني منها مختلف القوى السياسية المؤطرة بدلاً من أن تشكل مؤشراً موازياً لاختبار قوتها النسبية. كما اتجهت الفصائل المسلحة والموقعة على اتفاق سلام جوبا للعودة لتبني برامج عمل أكثر تحديداً بعد الإخفاق الذي واجهته محاولتها لاحتلال الموقع المركزي في الحكم بما آلت إليه تجربة التحالف بين المكون العسكري وفصيل الميثاق الوطني من قوى الحرية والتغيير. أما المكون العسكري فلا يزال متأثراً بانقسامه إلى مكونين متوازنين تفرض عليهما اعتبارات المصلحة تبني مواقف منسقة بالرغم من استمرار الاختلافات العميقة القائمة بين القوات المسلحة وقوى الحرية والتغيير.

وأمام هذا الوضع، لم تكن التفاعلات بين القوى السودانية لتفرز أي شكل من أشكال التوافق أو المحاولات المثمرة لاحتواء الأزمة من دون المساهمة الفعالة للقوى الدولية التي تجسد دورها بقوة في طبيعة التوافق ومضمونه. فقد ساهمت الآلية الثلاثية التي تقودها بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) بجانب الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد) في استمرار قنوات الاتصال غير المباشر مفتوحة بين الفرقاء السودانيين حتى في أعقاب أزمة أكتوبر 2021، كما تمكنت من بناء الحل التوافقي تأسيساً على ما تتبناه من ضرورة إسناد إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية لسلطات مدنية مع الاحتفاظ للمؤسسة العسكرية بدور مؤثر داعم، ومن دون إثارة أي من القضايا الخلافية التي من شأنها دفع المؤسسة العسكرية لتبني مواقف راديكالية بشأن المسار الانتقالي.

كما ساهم المتغير الخارجي في توفير بيئة مواتية للتوصل للاتفاق الإطاري بطريق غير مباشر، في ظل ما تشهده منطقة شرق أفريقيا من "موجة تصالحية" منذ شهور، بدأت بانتخاب الرئيس الصومالي الجديد حسن شيخ محمود في مايو بعد تعثر امتد لأكثر من عام، مروراً بنجاح انتقال السلطة لويليام روتو في كينيا في أغسطس وذلك في أعقاب انتخابات عامة شكلت سابقة نادرة في تاريخ البلاد من حيث الانخفاض الكبير في مؤشرات العنف الانتخابي، وانتهاء بتوقيع اتفاق وقف العدائيات بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي في بريتوريا في جنوب أفريقيا مطلع نوفمبر الماضي. وكما ساهمت التوترات الإقليمية المتصاعدة منذ عام 2020 في تأزيم الأوضاع الداخلية في السودان، جاءت موجة التهدئة الأخيرة لتفتح الباب أمام خطوة إيجابية في المسار الانتقالي المعقد، خاصة بما حظيت به كل هذه الإجراءات على مستوى الإقليم من دعم دولي مباشر نتيجة حسابات القوى الكبرى التي ترى في منطقة شرق أفريقيا امتداداً طبيعياً لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وجواراً قريبة لمسرح العمليات في شرق أوروبا.

إجمالاً، جاء توقيع الاتفاق السياسي الإطاري في السودان ليشكل خطوة إيجابية يمكن التعويل عليها في إطلاق طور جديد من المرحلة الانتقالية يمكن أن يكون أكثر انتظاماً واستقراراً من الأطوار السابقة بعد أن تم فض الاشتباك بين القوى المدنية والعسكرية والذي أطلق تنافساً متنامياً على النفوذ والاختصاص بين المكونين امتد لفترة تجاوزت الأعوام الثلاثة. لكن ما حمله الاتفاق الإطاري من تباينات متعددة كشفت عن العديد من أوجه النقص التي تعتريه والتي تؤهله لأن يكون مجرد خطوة أولى في سبيل إنهاء المرحلة الانتقالية السودانية بنجاح، وبما يفضي إلى توافق جديد يحظى بتأييد أوسع، يعالج مختلف القضايا عبر صياغات حاسمة، ويحمل مظاهر التغير النوعي الإيجابي مقارنة بالمعالجات السابقة المنقوصة، كما يعكس التوجهات الداخلية نحو التسوية أكثر مما يعكس التوازنات الدولية.