شنّت تركيا فى 20 نوفمبر 2022، ضربات جوية عسكرية عُرفت باسم عملية "المخلب-السيف"؛ على مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقرطية "قسد" فى الأجزاء الشمالية من الأراضى السورية وتحديداً فى عين العرب (كوبانى) وتل رفعت ومنبج بمحافظة حلب. وجاءت الضربات من وجهة النظر التركية رداً على ضلوع بعض عناصر ميليشيا حزب العمال الكردستانى التركى المعارض بتفجيرات ميدان تقسيم بمدينة أسطنبول فى 13 نوفمبر 2022، والتى أسفرت عن وقوع خسائر بشرية.
إذ يلقى الحزب التركى المعارض دعماً عسكرياً ومادياً من حزب وحدات الشعوب السورى الكردى الذى يشكل القوام الرئيسى لقوات سوريا الديمقراطية "قسد". كما لم تكتف تركيا باستهداف تمركزات قوات "قسد" فى محافظة حلب، بل وسعت- فى 2 ديسمبر الجارى- من نطاق ضرباتها الجوية لتشمل محافظات الحسكة والرقة.
وبدا من تصعيد تركيا للضربات العسكرية على مناطق الشمال السورى أن ثمة احتمالات متزايدة تجاه قيامها بشن عملية عسكرية برية على مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والتى تأجلت منذ يوليو 2022، حيث لم تستطع تركيا حينها اجتياح الشمال لا بعملية واسعة أو محدودة النطاق، وذلك بفعل تطورات دولية وإقليمية فرضت قيوداً – آنذاك– على تطلعات أنقرة بشأن فرض السياج الأمنى الذى تقدره بـ (30 كيلومتر) شمال سوريا، لكنها وفى الوقت الراهن تجد فرصاً سانحة للعودة لمخططها القديم بشن عملية برية تستهدف سد الفجوات الجغرافية بين مناطق نفوذها التى حققتها عبر عملياتها العسكرية المتتالية خلال الفترة (2016- 2019).
ويدعو ذلك إلى التساؤل بشأن ما الذى تغير على الصعيدين الإقليمى والدولى بصورة رفعت من "احتمالات" اتجاه أنقرة لشن عملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" للمرة الرابعة؟، وما هى المتغيرات التى قد تجعل من "الظرف الدولى والإقليمى" الراهن "فرصة" لأنقرة و"تحدياً" لها فى الوقت نفسه لشن العملية البرية فى الشمال السورى؟. بمعنى أدق هل ثمة بيئة دولية وإقليمية راهنة تمنح تركيا فرصة فرض تطلعاتها فى منطقة عازلة أو آمنة على حدودها الجنوبية، أم لا؟
نفوذ تركيا وأهدافها فى الشمال السورى
تبدو الضربات العسكرية فى سياقها اللحظى، ووفقاً للراوية التركية، أنها انتقام من التهديدات الإرهابية التى يتعرض لها العمق التركى، لكنها فى الواقع تأتى ضمن مسار طويل من تدخلات عسكرية على مدار السنوات الماضية هدفها الرئيسى هو "إقامة منطقة آمنة شمال سوريا بعمق (30-35) كيلومتر"، بما يبعد قوات سوريا الديمقراطية وحلفائها من مقاتلى حزب العمال الكردستانى التركى المعارض عن الحدود التركية.
ومن أجل هذا الهدف، شنت تركيا ثلاثة عمليات عسكرية فى الشمال السورى وهى: "درع الفرات" خلال الفترة من 24 أغسطس – 29 مارس 2017، ضد عناصر تنظيم الدولة "داعش" وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" على حد سواء، وأسفرت عن سيطرة تركيا– عسكرياً وأمنياً – على مناطق إعزاز وجرابلس والباب بمحافظة حلب غرب الفرات. تلا ذلك عملية "غصن الزيتون" خلال الفترة من يناير- مارس 2018، شنتها قوات المعارضة السورية المسلحة – بدعم تركى - ضد قوات "قسد" فى مدينة عفرين شمال غرب محافظة حلب. ثم عملية "نبع السلام" فى أكتوبر 2019، واستهدفت مناطق "تل أبيض" فى محافظة الرقة، و"رأس العين" بمحافظة الحسكة، وانتهت بتوافق تركى أمريكى فى 17 أكتوبر على وقف القتال، وفى 22 من الشهر نفسه وخلال قمة سوتشى بروسيا اتفق الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسى فلاديمير بوتين على إبعاد قوات سوريا الديمقراطية مسافة 30 كيلومتر عن الحدود التركية، وتأمين المنطقة العازلة من خلال دوريات عسكرية مشتركة بين قوات النظام السورى وقوات الشرطة العسكرية الروسية. أما عملية "درع الربيع" فى فبراير 2020، فلم تكن ضد قوات سوريا الديمقراطية؛ بل ضد قوات النظام السورى رداً على استهدافها جنود أتراك فى محافظة إدلب.
أما بالنسبة للعملية العسكرية التركية الرابعة "المحتملة " فيبدو أن لدى أنقرة "بنك أهداف" ترغب في تحقيقه ويؤسس على قاعدة الربط الجغرافى بين مناطق نفوذها فى الشمال السورى؛ بدءاً من مدينة جرابلس بمحافظة حلب على الضفة الغربية لنهر الفرات، وصولاً إلى مدينة تل الأبيض بمحافظة الرقة شرق الفرات، بما يضمن لها إقامة "حزام أمنى" يمتد من غرب الفرات حتى شرق الفرات ويسيطر على مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب كوبانى، وبهذا تستطيع تركيا – حال تنفيذ العملية - سد الفجوات بين مناطق العمليات التى نفذتها سابقاً فى شمال سوريا؛ وهى المناطق التى تستهدفها قوات سوريا الديمقراطية كمنصة لعملياتها وتحديداً تل رفعت من حين لآخر ضد قوات المعارضة السورية المدعومة من قبل تركيا فى إعزاز وعفرين، وأحياناً ضد القوات التركية نفسها، وبالتالى تعد تل رفعت هدفاً فى حد ذاته.
وجدير بالذكر أن التوغلات التركية العسكرية منذ عام 2016، أجبرت بالفعل – ولو جزئياً – قوات سوريا الديمقراطية الكردية على الابتعاد عن الحدود التركية لمسافات يعتد بها، لكنها دون العمق الجغرافى الذى ترغبه تركيا وهو (30 كيلومتر).
وتعكس الاستعدادت العسكرية التركية الحالية على الحدود السورية مدى الضغط الذى تمارسه أنقرة هذه المرة على القوى الدولية والإقليمية التى لها مناطق نفوذ على الأراضى السورية، وخاصة الولايات المتحدة التى لاتزال تحتفظ بقوة عسكرية (900-1000 جندى) فى مناطق شمال شرق سوريا – منطقة الجزيرة بالحسكة - فى سياق محاربة تنظيم الدولة، ودعماً لحلفائها من قوات سوريا الديمقراطية. وفى أقصى الشرق بالقرب من الحدود السورية العراقية فى دير الزور.
ويلاحظ هنا أن الضربات الجوية الأخيرة استهدفت بعض منشآت النفط فى مناطق الشرق الخاضعة لسيطرة القوات الأمريكية، فى إشارة إلى استهداف أنقرة المباشر للوجود الأمريكى هناك، وهو ما انعكس فى التصريحات الصادرة عن البنتاجون والتى عبرت عن مخاوف الولايات المتحدة الشديدة من تهديدات فعلية لقواتها المتمركزة فى شرق سوريا، وتخوفها كذلك من أن تؤثر العملية على الجهود الدولية التى بُذلت على مدار السنوات الماضية فى محاربة تنظيم "داعش".
كذلك تضع العملية العسكرية التركية المحتملة التفاهمات التركية الروسية بشأن تنفيذ اتفاقات خفض التصعيد – بالرغم من التباينات – على المحك؛ حيث تتولى روسيا تنفيذ اتفاقات خفض التصعيد مع الجانب التركى عبر إقامة نقاط أمنية مشتركة فى بعض مناطق الشمال السورى، فضلاً عن تواجدها فى شمال غرب سوريا فى مناطق التماس حول محافظة إدلب حيث ترتبط روسيا مع تركيا بشأنها بعدة اتفاقات أمنية منذ عام 2019. ومن ثم فإن أى توغل عسكرى تركى جديد من شأنه إضعاف حليف روسيا الأول وهو النظام السورى الذى نجحت روسيا فى إحلال قواته بالتنسيق مع تركيا فى عدد من مناطق الشمال السورى، ومن شأنه أيضاً إعادة ترتيب خريطة النفوذ فى الشمال السورى بما يفتح المجال لمزيد من الضغوط على الترتيبات الأمنية الروسية التركية المشتركة فى وقت تنشغل فيه روسيا بتداعيات حربها ضد أوكرانيا.
بيئة دولية وإقليمية مواتية
من الواضح أن الاستعدادات التركية بشن عملية عسكرية برية فى الشمال السورى للمرة الرابعة تبدو جدية، كما أن المعطيات السابقة تشير إلى أن احتمالية تنفيذها فعلياً تبدو أيضاً ممكنة، لكنها ليست حتمية، حيث تخضع لمعادلة التفاعلات الدولية والإقليمية التى تجمع كلاً من روسيا وتركيا والولايات المتحدة فضلاً عن العلاقات التركية السورية التى شهدت تحسناً وتقارباً على مدى العامين الماضيين، مما يعنى أن ثمة تفاعلات دولية وإقليمية بين الدول المنخرطة فى الأزمة السورية قد توفر بيئة مواتية لعملية عسكرية تركية فى الشمال السورى، لكنها فى الوقت نفسه تضع قيوداً على العملية تدفع إما بمنعها تماماً، أو بتحجيم نطاقها بحيث تكون محدودة النطاق والنتائج.
فعلى صعيد التفاعلات الدولية والإقليمية؛ اللافت أنه بالرغم من معارضة روسيا والولايات المتحدة لعملية عسكرية تركية واسعة النطاق فى شمال سوريا – بالنظر إلى إعلان تركيا استهدافها ثلاثة مدن هى تل رفعت ومنبج وعين العرب كوبانى - إلا أن ثمة تفهماً من كليهما لدوافع أنقرة بشأن الدفاع عن أمنها ومحاربة الإرهاب، لاسيما بعد تفجير ميدان تقسيم. فضلاً عن عدة أدوار دولية وازنة لعبتها أنقرة على مدى الشهور الماضية دفعت إلى تقوية موقفها فى معادلات التفاعل الدولية إزاء فكرة حماية أمنها القومى، التى تسعى إلى تصديرها دولياً وإقليمياً كإشكالية خلقتها تحركات حزب وحدات الشعوب الكردى السورى الداعم لحزب العمال الكردستانى التركى المعارض فى منطقة الحدود التركية السورية.
ومن بين هذه الأدوار الوساطة بين روسيا وأوكرانيا بشأن الحرب الدائرة بينهما، ودورها كذلك فى اتفاقات تبادل الأسرى بين الجانبين، وضمان تنفيذ اتفاق تصدير الحبوب، وموافقتها على انضمام السويد وفنلندا للناتو بالرغم من وجود بعض الشخصيات المعارضة المحسوبة على حزب العمال الكردستانى التركى المعارض فيهما. لكن هذا التفهم الروسى الأمريكى لدوافع أنقرة فى الدفاع عن أمنها من التهديدات الآتية من شمال سوريا، لم يكن كافياً لمنحها – حتى كتابة هذه السطور- موافقة على شن عمل عسكرى كما تخطط له داخل الشمال السورى، وهو ما تحاول تركيا الحصول عليه سريعاً بما يضمن نجاح العملية فى تحقيق أهدافها كاملة دون أن تواجه صعوبات سياسية وعسكرية.
البعض يرى أن الرئيس التركى لن ينتظر كثيراً من أجل الحصول على موافقة - ولو ضمنية - روسية أمريكية على عمليته العسكرية المحتملة فى شمال سوريا، قياساً على تصرف مماثل حين شن عملية نبع السلام عام 2019، على مناطق فى الحسكة والرقة ضد قوات سوريا الديمقراطية دون موافقة روسيا والولايات المتحدة، مما اضطرهما إلى التدخل بقوة عبر تفاهمات ثنائية بينهما – الولايات المتحدة وروسيا- وبين كل منهما وتركيا لإنهاء العملية العسكرية بعد التعهد بإبعاد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" عن الحدود التركية وداخل العمق السورى بمسافة 30 كيلومتر، وإن لم يتم تنفيذ هذه الاتفاقات حرفياً.
بينما يرى البعض الآخر فى إفساح تركيا الوقت أمام الاتصالات التى تجريها موسكو مع قوات سوريا الديمقراطية من ناحية، والنظام السورى من ناحية أخرى، فرصة للتوصل إلى تفاهمات تقضى بمنح "الشروط" التركية للعدول عن العملية البرية شمال سوريا "قبولاً" و"تفهماً" دولياً يضمن لتركيا تحقيق أهدافها الأمنية.
يضاف إلى ذلك انشغال كل من روسيا والولايات المتحدة وأوروبا بالحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها الهائلة على حالة الأمن الأوروبى من ناحية، وعلى أمن الطاقة من ناحية ثانية، وعلى العلاقات الروسية الأمريكية المتوترة من ناحية ثالثة. فالولايات المتحدة المهمومة بتوفير الطاقة لحلفائها الأوروبيين، والمشغولة بتحركات الصين فى مناطق الإندوباسفيك، وبرنامج إيران النووى وانعكاساته على أمن حلفائها فى الخليج وإسرائيل، ليست مستعدة ولا راغبة فى فتح جبهات وإشكاليات مواجهة جديدة فى سوريا، لاسيما إن كانت ذات الطابع العسكرى.
كما أن روسيا صاحبة اليد الطولى فى سوريا باتت وبعد 10 شهور من حربها ضد أوكرانيا منهكة بفعل العقوبات الأوروبية الأمريكية المفروضة عليها، إلى جانب أن انشغالها بأوكرانيا فرض العديد من القيود على حركتها السياسية والعسكرية داخل ملف الأزمة السورية لصالح إيران، إلى جانب سحبها العديد من قواتها وقدرتها الجوية من سوريا وتوجيهها للحرب ضد أوكرانيا، بخلاف أن احتياج روسيا لأدوار تركيا المتعددة فى ملف الأزمة الأوكرانية يفتح باباً لما يمكن تسميته بمواءمات المصالح المشتركة وتنحية المصالح المتعارضة – ولو بصورة مؤقتة – داخل سوريا، ما سينعكس بالضرورة على حالة التحكم الروسية بمفاعيل الأزمة السورية التى لن تكون كسابق عهدها؛ بمعنى أن روسيا باتت "مقيدة" إلى حد ما فيما يتعلق بفرض تصوراتها الخاصة على معادلة التفاعل الدولية بشأن سوريا؛ لاسيما وأن القوى المنخرطة فيها هى نفسها المنخرطة فى الأزمة الأوكرانية.
أما إيران، فهى مشغولة بالاحتجاجات، وبأزمة برنامجها النووى مع الولايات المتحدة والأوروبيين، وهو ما يوفر عوامل مواتية لأنقرة لبدء عملية اجتياح برى للشمال السورى، خاصة وأن ذلك يخصم من رصيد الولايات المتحدة – العدو الأكبر لإيران - فى مناطق الشرق السورى حيث الحدود مع العراق مرتكز المشروع الإقليمى الإيراني، لأنه ومن المتوقع وفى حالة تجاوز إيران أزمتها الداخلية أن تحل محل روسيا فى سوريا؛ أو على أقل تقدير ستملأ الفراغ الذى يحدثه الانشغال الروسى بالحرب ضد أوكرانيا، بما سيفرض قيوداً على عملية تركية عسكرية شاملة؛ لأنها وإن كانت تحقق مصلحة إيرانية فى مواجهة مناطق نفوذ الولايات المتحدة فى سوريا، إلا أنها فى الوقت نفسه تخصم من رصيد النظام السورى الحليف الرئيسى لإيران.
أما على مستوى العلاقات بين تركيا والنظام السورى؛ فعلى مدى العامين الماضيين ثمة تقارب ملموس بين أنقرة والنظام السورى انعكس فى عدة فعاليات كان أبرزها اللقاءات المتعددة التى جمعت مسئولى أجهزة الاستخبارات فى البلدين برعاية روسيا التى ظلت تدفع على مدار العام الماضى تجاه التقارب السورى التركى، ما اعتبره المحللون تمهيداً للقاء مرتقب يجمع الرئيسين التركى والسورى قبل حلول عام 2023، واعتبار ذلك ضرورة تركية قبيل الانتخابات التشريعية؛ حيث صرح الرئيس التركى خلال شهر نوفمبر الماضى "بأنه لا خلاف أبدى فى السياسة".
فمن شأن التقارب تحقيق مصالح مشتركة لاسيما وأن للجانبين السورى والتركى مصلحة واحدة فى مواجهة قوات سوريا الديمقراطية؛ فالنظام السورى يرى فى الإدارة الذاتية للأكراد السوريين شمال البلاد تحدياً لسيادة الدولة ووحدتها، بينما يرى الجانب التركى فى الإدارة نفسها تهديداً لأمنه القومى فى منطقة الحدود الجنوبية بصورة مباشرة. ومن ثم فإن عملية عسكرية تركية فى الشمال، بالرغم من أنها تهدد سيادة الدولة السورية وتقزم من دور النظام، إلا أنها تحقق للأخير فرصة سانحة لدخول مناطق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية التى كانت محظورة عليه منذ عام 2015، حيث تشترط تركيا لوقف عملياتها المرتقبة ضد قوات سوريا الديمقراطية خروجها من مناطق منبج وتل رفعت وكوبانى لتحل محلها مؤسسات النظام السورى الأمنية.
وبالتالى يوفر التقارب بين تركيا والنظام السورى فرصاً للأخير تتمثل فى إعادة فرض السيطرة على مناطق الإدارة الذاتية للأكراد، ويوفر فى الوقت نفسه مصلحة أمنية للأولى، وبالتالى يصبح القضاء على قسد أو تفكيكها هدفاً مشتركاً للجانبين التركى والسورى على حد سواء. وجدير بالذكر هنا أن النظام السورى يشترط تفكيك الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية – التى كونتها فى عام 2015 لمحاربة تنظيم الدولة – قبل دخوله مناطق الإدارة الذاتية للأكراد فى الشمال باعتبارها تمثل المظهر العسكرى للإدارة الذاتية الكردية، ورمزاً للانفصال عن جسد الدولة السورية. وبالرغم من إدانة النظام السورى للضربات التركية على الشمال ورفضه للعملية البرية المرتقبة، فمن المتوقع أن لا يؤثر ذلك على نمط التقارب المتنامى مع أنقرة، وإن كان سيهدئ من سرعته.
شروط تركيا لوقف العملية البرية
تفرض تركيا عدة شروط لوقف الضربات الجوية العسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية، ووقف كذلك عمليتها البرية المرتقبة فى الشمال السورى، وقد أعطت بشأنها مهلة زمنية تنتظر خلالها نتائج الاتصالات التى تجريها موسكو مع الجانب الكردى، ومن أبرز هذه الشروط ما يلى:
- انسحاب قوات سوريا الديمقراطية "قسد" من مناطق عين العرب (كوبانى) وتل رفعت ومنبج لمسافة 30 كيلومتر بعيداً عن الحدود التركية الجنوبية.
- تفكيك الولايات المتحدة وبضمانة روسيا لقوات سوريا الديمقراطية نتيجة انتفاء الأسباب التى شُكلت من أجلها.
- عودة مؤسسات النظام السورى لتحل محل الإدارة الذاتية الكردية فى الشمال، وعودة كذلك المؤسسات الأمنية للقيام بمهامها فى حفظ الأمن فى المناطق الحدودية مع تركيا.
- تسليم قياديين فى حزب العمال الكردستانى التركى المعارض لأنقرة.
- نشر نقاط أمنية للجيش التركى على طول الحدود السورية التركية حال عدم موافقة القوى الدولية على تفكيك قوات سوريا الديمقراطية، أو تسليم المناطق الشمالية للنظام السورى.
المواقف الدولية والإقليمية
يبدو من المعطيات السابقة أن تطورات التفاعلات الدولية والإقليمية ربما توفر فرصاً لتركيا لشن عملية برية عسكرية واسعة، لكنها فى الوقت نفسه ترهن هذه الفرص باشتراط حدوث توافقات بين القوى الدولية المنخرطة فى الأزمة السورية. فالموقف الأمريكى من العملية العسكرية التركية المرتقبة أخذ يتطور بدءاً من تفهم الدوافع والأسباب، مروراً بالرفض المقنع والإدانة، وصولاً إلى إحداث تغييرات ملموسة فى علاقة الولايات المتحدة بقوات سوريا الديمقراطية "قسد" كان أبرزها تعليق عمل الدوريات الأمنية المشتركة بينهما، ثم وقف التنسيق الأمنى والعسكرى بين التحالف الدولى لمحاربة تنظيم "داعش" الذى تتزعمه الولايات المتحدة وبين "قسد" للمرة الأولى منذ تشكيلها قبل سبعة سنوات، فى إشارة لافتة لتفهم واشنطن مخاوف تركيا الأمنية وأخذها بمأخذ الجد. كما أن هذه الخطوة ربما تؤشر على اتجاه الإدارة الأمريكية إلى تفكيك قوات سوريا الديمقراطية مستقبلاً باعتبار أن هدف تشكيلها – وهو محاربة تنظيم الدولة "داعش" – قد تم تحقيقه، وأن ما تبقى من خلايا التنظيم - فى منطقة الشمال السورى والمنطقة الحدود مع العراق شرقاً - لا يستدعى استمرار قوات قسد بقوامها وتكوينها الحالى قائمة. وهذا أيضاً يقود إلى احتمالية اتجاه واشنطن لإنهاء الوجود الفعلى لقوات "قسد" وتخويل مهمة محاربة خلايا داعش فى الشمال السورى لقوات النظام السورى نفسه.
أما روسيا بمعطيات تفاعلاتها الدولية السابق الإشارة إليها فمن المحتمل أن لا تعارض عملية عسكرية تركية فى الشمال السورى باعتبارها تضغط على المصالح الأمريكية هناك، لكنها فى الوقت نفسه لن تقبل بعملية عسكرية واسعة النطاق كما يخطط لها الرئيس التركى. وفى مقابل ذلك قدمت روسيا عرضاً لقوات سوريا الديمقراطية يقضى بانسحابها لمسافة 30 كيلومتر بعيداً عن الحدود التركية الجنوبية مقابل دخول قوات النظام السورى لمناطق حكم الإدارة الذاتية لتتولى مهام حفظ الأمن.
رد الفعل الكردى على العرض الروسى تأرجح بين القبول والرفض، لأن قبول العرض يعنى الموافقة الضمنية على مطالب التفكيك مستقبلاً، كما أن اشتراط الخروج من مناطق تل رفعت ومنبج وكوبانى من شأنه إضعاف المليشيا وإفقادها محاور ارتكاز مهمة لها فى مواجهة تركيا. ومن ثم فإن قوات سوريا الديمقراطية باتت أمام خيارين: الأول، التعاطى المرن مع الوساطة الروسية والقبول بالانسحاب للمسافة المطلوبة داخل العمق السورى بعيداً عن الحدود التركية، مقابل إقناع موسكو لأنقرة ببقاء قوات سوريا الديمقراطية تحسباً لمواجهة خلايا تنظيم الدولة "داعش" مستقبلاً، والتى ستحاول استغلال الفراغ الذى سيحدثه الانسحاب الكردى. أما الخيار الثانى، فيشير إلى القبول بحالة الصدام المسلح والدخول فى حرب مع قوات المعارضة السورية المسلحة المدعومة من قبل تركيا، ويلاحظ هنا أن اندلاع مواجهة مسلحة فى شمال سوريا سيكون له تداعياته الحادة على حالة التفاعلات الدولية والإقليمية فى منطقة المشرق العربى.
وفيما يتعلق بموقف إيران، فقد انعكس فى تصريحات وزير الخارجية الذى تفهم مخاوف تركيا الأمنية، لكنه فى الوقت نفسه طالبها "بإسناد مهمة تأمين حدودها مع سوريا إلى قوات النظام السورى". ويلتقى موقف إيران مع الأهداف التركية بشأن تفكيك قوات سوريا الديمقراطية التى تنظر إليها إيران باعتبارها أداة أمريكية لمواجهة النظام السورى – حليف إيران – وسبباً فى انفصال عملى على الأرض عن سلطة النظام المركزية فى دمشق. لكن تتخوف إيران فى الوقت نفسه من أن تؤدى العملية العسكرية التركية المحتملة فى منبج تحديداً إلى قبول روسيا الضمنى بإشراف تركى مشترك معها على مطار منبج العسكرى، الذى سلمته قوات سوريا الديمقراطية مباشرة للقوات الروسية فى أعقاب خروج القوات الأمريكية منه أواخر عام 2017.
وختاماً، تبدو تركيا أمام عدة خيارات؛ إما تأجيل العملية العسكرية، مقابل إتاحة فرصة للاتصالات الروسية مع الجانب الكردى عبر المهلة الزمنية التى لم تحدد أنقرة متى تنتهى. وإما إلغائها كلية حال قبول قوات سوريا الديمقراطية للشروط التركية، وأبرزها خروجها - أى "قسد"- من مناطق تل رفعت ومنبج وكوبانى، بإيعاز من روسيا. وإما أن تحصل تركيا على قبول روسى أمريكى إيرانى لعملياتها العسكرية وعدم إعاقتها، لكن هذا القبول سيكون مرهوناً بنطاق العملية العسكرية؛ فمن غير المتوقع قبول تلك الدول بعملية عسكرية واسعة وشاملة، لكنها قد تقبل بعملية محدودة النطاق تقتصر على السيطرة على مدينة واحدة وليس على المدن الثلاثة دفعة واحدة.
وفى كل الأحوال، يبدو أن الصراع السورى فى مناطق الشمال بالقرب من الحدود التركية يأخذ منحى متصاعداً وينذر بمواجهة عسكرية نوعية قد تسفر عن تغيير فعلى فى معادلة التوازن الاستراتيجى فى منطقة الحدود التركية السورية؛ سواء كانت واسعة أو محدودة النطاق.