صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

بالرغم من أن التطرف الفكرى والسلوكى لا يرتبط بقاعدة عمرية أو فئة مجتمعية محددة، فإن الفئة العمرية الأكثر عرضة لحالة «التطرف»، سواء فكريا أو سلوكيا أو دينيا فى أى مجتمع تظل هى فئة الشباب. وتزداد خطورة الأمر حينما لا يتوقف التطرف عند حد الفكر، وإنما ينتقل إلى مرحلة يترجم فيها التطرف إلى سلوك عنيف تجاه الآخرين، بما يُدخل «سلوك المتطرف» نطاق التجريم على المستوى الوطنى وفقا للقوانين المعمول بها فى هذا الإطار. وتزداد الإشكالية حدة حينما يتجاوز التطرف الفكرى والسلوكى حد «أحادية» الفعل، ليرتبط بنطاق تنظيمى أو جماعى يتشارك معه المتطرف «الأفكار المتطرفة» ذاتها.. وهنا تحديدا ينصهر المتطرف فكريا فى تنظيم أكثر تطرفا فى الأفكار والسلوك وله أفعاله العدائية ضد غيره من الأفراد أو من فئات المجتمع. وثمة العديد من الأسباب التى تشير إلى اتساع القاعدة الشبابية المتطرفة فكريا أو سلوكيا أو دينيا؛ من بينها غياب المهمة الوظيفية الرئيسية للأسرة على اعتبار أن هذه المهمة هى اللبنة الأولى فى مسار التنشئة الاجتماعية للفرد، وبهذا الغياب انحصرت الرابطة الأسرية بين الأبناء والأسرة فى نوع آخر من العلاقة الوظيفية، وهى الوظيفة الاقتصادية، التى تحولت بمقتضاها الأسرة إلى «حاضنة اقتصادية» فقط للأبناء. ومع غياب دور الأسرة فى التنشئة والتربية، وعدم غرز القيم السلوكية والدينية والمعرفية، غاب دورها كإحدى أدوات «الضبط السلوكى»، بينما -فى المقابل- ونتيجة لهذا الغياب نمت بقوة شخصيات شابة على قدر كبير من «الاستقلالية» فى السلوك والرأى والفكر والفعل، وبعيدة -إلى حد كبير- عن حالة الارتباط العاطفى والعضوى بالأسرة ككيان اجتماعى من ناحية، وكحاضنة للتنشئة من ناحية أخرى.

الأمر نفسه بالنسبة لدور المدرسة والجامعة والحزب السياسى كأحد الفواعل المهمة فى مسار تنشئة الأجيال فى مجال التنشئة المعرفية والإدراكية والسياسية، حيث تراجعت أدوارها كـ «ضابط اجتماعى وثقافى». وتزداد الخطورة كذلك، حينما يرتبط غياب أدوار الفاعلين المعنيين بالتنشئة الاجتماعية بحالة «انغلاق المجال العام» أمام فئة الشباب للتعبير عن آرائهم، فضلًا عن عجز هذه الفواعل -مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمعرفية والسياسية-  عن خلق مسار أكثر حداثة يدفع نحو «الاستثمار فى البشر» بحسبانه سلاح المستقبل. يقابل هذا كله مسار متسارع النمو يشكل «عالم افتراضى» مختلف فى مضمونه ومكوناته المعرفية، خلقته ثورة التطور التكنولوجى عبر شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت»، وما ارتبط بها من تكنولوجيا الهواتف الذكية وسرعة الحصول على المعرفة، فأصبح الشباب فى عمر المراهقة يستقون أفكارهم ومعلوماتهم، ويبنون مستقبلهم عبر هذه الشبكة العملاقة وما وفرته من منصات ومدونات ومواقع للتواصل الاجتماعى، جعلت هؤلاء الشباب «رهنا» لأفكار وأيديولوجيات وسلوكيات لا تخضع لأى قواعد للانضباط المعرفى والسلوكى. وبات هذا «العالم الافتراضى» واقعهم الافتراضى، الذى أصبح هو البديل الفعلى لكل مؤسسات التنشئة المجتمعية بأنواعها المختلفة. وهنا تكمن الخطورة، لأن عملية «تداول الأفكار» دون قيد أو شرط أو حتى تنقيح ومراقبة من قبل الأسرة للأفراد فى عمر المراهقة تحديدًا، تخلق جيلا يكاد يكون منفصلا عن الواقع الحضارى الذى يعيش فيه، وتنمو لديه ما يمكن تسميته «ثقافة الرفض» لكل ما يأتيه من هذا الواقع الحضارى؛ لأنه ببساطة بات يستقى ما يريد من معلومات من «واقع افتراضى» يحبه ويرتبط به لدرجة الالتحام والالتصاق، إذا جاز التعبير. فى الوقت نفسه، يبتعد بهذا الواقع الافتراضى عن كل ما يربطه بمؤسسات التنشئة المجتمعية، وفى مقدمتها الأسرة، التى باتت تعانى فجوة فعلية فى علاقات أفرادها مع بعضهم بعضا، وبات المجتمع معها يعانى بدوره فجوة فعلية بين أجياله.

وبالرغم من أن التطرف الفكرى والسلوكى وما قد يرتبط به من تطرف عنيف تجاه الآخر، أو تجاه النسق الاجتماعى للدولة، أو تجاه مؤسساتها لا يرتبط -كما سبقت الإشارة- بفئة عمرية محددة، فإن فئة الشباب فى عمر المراهقة -تحديدا- ظلت الفئة الأكثر عرضة للتطرف والاستقطاب؛ وربما يرجع ذلك تحديدا –بالإضافة إلى جملة الأسباب السابقة– إلى أسباب تتعلق بالمراهق نفسه، منها ما سماه المتخصصون «هشاشة الآليات الدفاعية» للمراهق فى مواجهة التطرف أو «الانسياب» إلى التطرف، نتيجة لعدم نضجه، عاطفيا واجتماعيا ومعرفيا، ما يجعله فريسة سهلة الاصطياد وشخصية سهلة الانقياد. ويعد التطرف العنيف لدى فئة الشباب فى عمر المراهقة أبرز أنواع التطرف المبنى على مجموعة من الأفكار التى تغذيها أسباب دينية أو أيديولوجية أو عرقية، بالإضافة إلى أسباب اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية نمت وترعرعت فيها الأجيال العمرية المختلفة، ودفعت إلى تبنى هذه الأفكار -جماعات أو تنظيمات- تتخذ من العنف أداة لعملها ضد المجتمع والدولة، وتعمل على استقطاب الشباب فى سن المراهقة.

من هنا تأتى أهمية دراسة قضايا التطرف والتطرف «الدينى» العنيف فى دولنا العربية، بعد ارتباطه بجيل من الشباب والمراهقين الذين شكلوا القاعدة الرئيسية للتنظيمات المتطرفة، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بحسبانه التاريخ الفاصل الذى به تحول مفهوم التطرف والتطرف العنيف ليكون مساويا لما وصف بـمفهوم «الجهاد»، حيث بدا بعد هذه السنوات أن ثمة تحولًا فعليًا فى مكافحة الإرهاب الدينى، سواء على مستوى المصطلح نفسه بظهور مصطلح التطرف العنيف، أو على المستوى العملى بتوسيع دائرة البحث والتحليل، لتتجاوز مناقشة الدوافع الدينية والتراث الفكرى الإسلامى المؤدى إلى التطرف، وممارسة العنف والإرهاب، أو على المستوى العملى من خلال التغيير الواضح فى قوانين وإجراءات وسياسات مكافحة الإرهاب فى الدول الغربية؛ التى باتت ترى فى سلوكيات بعض الجماعات بها، كجماعات «اليمين البديل» مثلا، تطرفا وعنفا وإرهابا يفوق تنظيمات التطرف العنيف الإسلامية.  

فى هذا السياق، تقدم الأستاذة/ أمل مختار -الخبيرة فى شئون التطرف والإرهاب ورئيس تحرير مجلة المشهد الإلكترونية لدراسات التطرف والإرهاب بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- دراسة بعنوان «جيل z: المراهقــون.. منظور جيلى للتطرف وممارسة العنف»، تركز فيها على دراسة التطرف الدينى (الإسلامى) العنيف كظاهرة وبعض أبعادها فى الحالة المصرية، من خلال تحليل العلاقة بين التطرف الدينى العنيف وفئة الشباب المبكر، أو ما يعرف بمرحلة «المراهقة»، حيث ترى أن السبب الرئيسى الدافع إلى التركيز على التطرف (الدينى)، دون غيره من التطرفات الفكرية أو الأيديولوجية، هو مدى أهمية المكون الدينى فى المجتمع المصرى، وربما فى المجتمعات العربية كافة، نظرًا لحضوره القوى فى المجال العام، وفى مكونات العقل والوجدان. على هذا الأساس، تتناول الدراسة العلاقة بين ثلاثية التطرف الدينى، وممارسة العنف، ومرحلة المراهقة؛ فتناقش دوافع انجذاب أفراد من الشباب فى عمر المراهقة للتطرف الدينى، ومن ثم ممارسة العنف كتعبير عن هذا التطرف. وتوضح أن الدراسة لا تفترض أن سن المراهقة شرط أساسى، أو أحد مبررات التطرف، أو ممارسة العنف، كما أنها لا تفترض حتمية مرور الفرد بسن المراهقة لحظة انضمامه للفكر، أو الجماعة، أو التنظيم المتطرف العنيف.

وتركز الدراسة بالأساس على العلاقة بين «المراهقة» (سنًا أو حالةً) والتطرف وممارسة العنف. وتقدم نموذجين لجماعات التطرف الدينى العنيف، كان قوامهما الشباب فى عمر المراهقة هما؛ تنظيما الجهاد المصرى، والقاعدة. كما استبقت الدراسة تحليلها لهذه النماذج بتحليل شامل لسمات ما يعرف بجيل z على المستويين الغربى والعربى، ومحاولة فهم مسببات كونه أكثر الأجيال عرضة للتطرف بمختلف أنواعه بدءا من التطرف الفكرى، مرورا بالتطرف السلوكى، وصولا إلى ممارسة التطرف العنيف فى بعده الدينى كمثال. وتوصلت الدراسة فى النهاية إلى مجموعة من التوصيات التى يمكن من خلالها خلق “نموذج” معرفى يمكن أن يبلور “رؤية” تؤسس لبرنامج لمواجهة “التطرف العنيف” فى مستوياته المختلفة، وفى مقدمتها “التطرف الدينى”.