تعزز مصر دورها العالمي، باستضافة اجتماع اللجنة الاستشارية الثنائية لروسيا والولايات المتحدة BCC، لمناقشة معاهدة نيو ستارت للأسلحة النووية، أواخر نوفمبر الجاري. ويأتى انعقاد الاجتماع بعد استضافة مصر الناجحة للقمة العالمية للمناخ COP 27، كما يأتى لتمثل به القاهرة العاصمة غير الأوروبية الأولى التى تستضيف هذا الحدث العالمى بالغ الأهمية، الذى استضافته من قبل عواصم أوروبا الشهيرة كهلسنكى وجنيف وفيينا.
ويلفت الانتباه أن يعقد هذا الاجتماع على أثر الدعوة التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مؤتمر المناخ لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، ما يشير إلى التقدير الكبير للبلدين (الولايات المتحدة وروسيا)، لمصداقية الدعوة المصرية. وقد تكون مفاوضات ستارت بداية وواجهة لمفاوضات أكبر بشأن وقف الحرب، لأن أحد أهداف المفاوضات هو تلاشى أى تطور نووى فى الأزمة الروسية الأوكرانية، على حد ما أوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية. كما قد تكون استضافة هذه المفاوضات، مقدمة لوساطات دولية أكبر ترعاها مصر، على نحو تعزز به القاهرة مكانتها بين عواصم القرار العالمي.
ويبعث عقد مفاوضات ستارت فى مصر بمجموعة من الدلالات والرسائل، حول مصر ودورها الإقليمى والعالمي، تمتزج فيها الرسائل من مصر إلى العالم، بالرسائل من العالم إلى مصر.
الرسالة الأولى، هى حول دور مصر فى الوساطات العالمية، حيث تمتلك مصر إرثاً سياسياً كبيراً باعتبارها قوة إقليمية كبري، وقوة دولية فوق متوسطة، تتسم دبلوماسيتها بالاتزان، ولا تخضع للانفعالات فى القرار، ولديها رصيد هائل فى دعم السلام والاستقرار والاتساق مع مبادئ الأمم المتحدة، سواء في: إبرامها المبكر لمعاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، أو دورها فى حرب تحرير الكويت (1990 – 1991)، أو أدوارها المتعددة فى حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، أو نمطها المتزن فى إدارة السياسات فى أهم قضية تخص أمنها القومى (مياه النيل مع إثيوبيا)، أو توجهاتها الملتزمة فى شرق المتوسط وإزاء تركيا، أو الملف الليبي، أو حتى فى إدارتها لأوضاعها الداخلية فى الملفات الحقوقية والاقتصادية والسياسية، بل حتى فى إدارتها لعلاقاتها مع إدارة بايدن، التى أتت بانطباعات ومواقف من مصر، ثم انتهت إلى انطباعات ومواقف مغايرة كلياً.
وكل ذلك يجعل مصر الأكثر تأهلاً لإدارة الوساطات، بامتلاكها دبلوماسية رصينة، وسياسة صبورة ومتزنة، وقدرات لوجستية دبلوماسية متميزة، فضلاً عن تحليها بإطار من المبادئ والقيم، ورصيد تاريخى استثنائي، وهى صوت عقل وسلام واعتدال مصقول بخبرات أقدم حضارة، حرص الرئيس بايدن نفسه على الإشادة بها، فى كلمته فى COP 27، حين قال: «رسالتنا من هنا.. فى مصر، حيث الأهرامات والآثار العريقة الشاهدة على عبقرية البشرية على مدى الألفيات». ومن المؤكد أن كل ذلك كان ضمن حسابات القوتين الأكبر، حين توافقتا على اختيار القاهرة كمقر لمفاوضات ستارت. ولا شك فى أن تعزيز الدور المصرى فى الوساطات الدولية هو كنز ورصيد استراتيجي، على مصر الإمساك به وحسن توظيفه، بعد أن تراجع فى الدبلوماسية المصرية، مع الانشغال بالشأن الداخلي. وتزداد أهمية هذا الدور بعد تفجر أنماط جديدة من الأزمات الدولية، التى تبحث عن وساطات ترعاها الدبلوماسيات المتزنة، التى برزت فيها مؤخراً أدوار الدبلوماسيات المصرية والعربية. ومن المؤكد أن دولاً أخرى فى الإقليم والعالم سوف تنهج النهج نفسه وتبحث عن وساطات القاهرة، بعد أن جرى تدشين إعادة انطلاق هذا الدور المصري، ودمغه بختم أكبر قوتين.
الرسالة الثانية، هى رسالة ثقة بالدولة المصرية ونمط إدارتها للأزمات؛ فعلى الرغم من أن دولاً مختلفة أعلنت تبنيها لاستراتيجية «صفر مشاكل»، كعنوان أساسى لسياستها الخارجية، إلا أنها وجدت نفسها فى مستنقع أزمات لا حصر لها، ولم يتحمل جهازها الدبلوماسى القدرة على تطبيق هذه الاستراتيجية لأشهر معدودة. بالمقابل لم تطرح مصر علناً تبنيها لهذه الاستراتيجية، لكنها طبقتها بحكمتها التاريخية ومسلكها الدبلوماسي. وخلال السنوات الماضية، لم يمنع مصر من خوض حروب، مع دول سعت لاستعدائها، إلا حكمة القرار، بعد أن وجدت مصر نفسها دائماً عند حسابات استراتيجية معقدة، أدارتها بنمط استثنائى من التفكير وبعقل غير اعتيادي، واحتاجت خلاله لطاقة هائلة من التحمل. ذلك ما جعل مصر تقترب أحياناً من حافة الحرب، ثم تتراجع بحكمة محيرة. ولا شك فى أن الدولة التى تطبق هذا القدر من الصبر الاستراتيجى على ذاتها، أقدر على إقناع الآخرين بحكمة الدبلوماسية، وقيمة السلام، فى عالم لم يعد يتحمل مزيداً من المواجهات العسكرية، بعد أن أصبح محاصرا بأزمات الاقتصاد وحروب الطبيعة.
لا شك فى أن إجماع الولايات المتحدة وروسيا على إدارة مفاوضات نيو ستارت بالقاهرة، هو شهادة تقدير للدور المصري، ولقدرة الدبلوماسية المصرية، على رعاية مفاوضات بهذه الأهمية لمستقبل العالم، وهى أيضاً تتضمن رسائل احترام من جهازين دبلوماسيين واستخباراتيين كبيرين، ومن إدارتين ارتبط رأس كل منهما بعلاقة متميزة بالرئيس عبدالفتاح السيسي، فى شهادة تحمل تقديرا شخصيا للرئيس والدولة المصرية بشكل عام. وفى ظل أزمة عالمية كبرى ينخرط فيها البلدان فى أوكرانيا، فإن التوافق على مصر، يتضمن معانى تتجاوز مستوى الحدث، وهو بمثابة استدعاء دولى لمصر، للقيام بدورها فى السلام العالمي، كدولة غير منخرطة فى أزمات، بعد أن انخرطت أغلب الدول فى محاور صراعية مشدودة.
الرسالة الثالثة، تحمل شهادة تقدير ودعم لمسار البناء الوطنى فى الداخل: فتوقيت نجاح مفاوضات مصر مع صندوق النقد، وانعقاد مؤتمر المناخ، ثم مفاوضات ستارت، هو توقيت بالغ الأهمية بالنسبة لمصر، فيما يتضمنه من رسائل بشأن قيمتها للاستقرار الدولي، حيث سبقت مفاوضات الصندوق ومؤتمر المناخ وستارت، دعوات تحريض على الدولة المصرية، وتهديدات بعودة أجواء الاضطرابات والعنف، ثم جاء المشهد المصرى فى 11/11 ليطرح صورة لدولة وشعب يُقدِّران معانى الاستقرار والأمن، ويمتلكان كل الثقة بالمسار الوطني، اللذان يتحملان لأجله كل الأعباء بقوة وصبر. وجاء اختيار القاهرة لعقد مفاوضات ستارت ليحمل رسالة دولية من أكبر قوتين للخارج، بأنه لا يمكن الرهان مجدداً على عدم استقرار مصر، التى يمثل أمنها أهمية كبيرة للأمن والسلام العالمي.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 27 نوفمبر 2022.