اقتربت الاحتجاجات التي اندلعت في إيران منذ 16 سبتمبر الماضي (2022) من إنهاء شهرها الثاني، دون أن ينجح النظام حتى الآن في احتواءها أو إضعافها، رغم الإعلانات المتكررة من جانب السلطات بتراجع الزخم الذي حظيت به خلال الفترة الماضية.
من دون شك، فإن النظام فوجئ باستمرار الاحتجاجات، التي نجحت في تجاوز كل الأسباب التي أدت إلى إنهاء الاحتجاجات السابقة في أوقات مبكرة لا تتعدى أسبوعاً أو عشرة أيام على الأكثر. ويبدو أنه يخشى من استمرار الاحتجاجات وعدم تراجعها خلال المرحلة القادمة.
وهنا، فإن مخاوف النظام لا تنحصر فقط في أن هذه الاحتجاجات تسببت في حدوث إنهاك شديد للسلطات، بدا جلياً في العملية التي أعلن تنظيم "داعش" مسئوليته عنه في مدينة شيراز في 26 أكتوبر الماضي، وهى إحدى العمليات القليلة التي نفذها التنظيم داخل إيران خلال الأعوام الماضية، إلى جانب الحريق الذي نشب في سجن ايفين وأسفر عن مقتل 8 سجناء، وإنما تمتد إلى احتمال اتجاه قسم من المحتجين إلى استغلال فرصة مشاركة إيران في نهائيات كأس العالم لكرة القدم التي سوف يتم تنظيمها في قطر خلال الفترة من 20 نوفمبر إلى 18 ديسمبر القادم، لتوجيه رسائل تتعلق بالاحتجاجات.
إذ تلعب إيران في المجموعة الثانية مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وويلز. واللافت أن إيران ستلعب المباراة الثانية في النهائيات، بعد مباراة الافتتاح، وستكون انجلترا هى الطرف الثاني، وذلك في 21 نوفمبر الجاري.
رسائل سياسية
دائماً ما يسعى الجمهور الإيراني إلى الحضور في الفاعليات الرياضية الدولية، خاصة نهائيات كأس العالم لكرة القدم، ودائماً ما يوجه رسائل مباشرة إلى الداخل والخارج، لاسيما فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية، خاصة بالنسبة للمرأة.
ورغم أن ذلك كان دارجاً في النهائيات السابقة التي شاركت فيها إيران، على غرار مونديال روسيا في عام 2018، إلا أنه يكتسب أهمية وزخماً خاصاً خلال النهائيات الحالية. وهنا، فإن المسألة لا تعود فقط إلى أن إيران ستتنافس مع دول تعد، على المستوى السياسي، بمثابة قوى مناوئة لها، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا.
إذ أن المتغير الأهم في هذا السياق يتعلق بالتطورات الداخلية في إيران، ولاسيما استمرار الاحتجاجات، التي تتجدد يومياً بسبب ارتفاع عدد القتلى، حيث تشهد إيران تقريباً بصفة يومية أربعينية جديدة لوفاة شابة أو شاب خلال المواجهات مع قوات الأمن. وباتت مهسا اميني بمثابة الأيقونة الحالية للاحتجاجات.
وهنا، لا يستبعد أن يسعى قسم من الجمهور الإيراني في المدرجات إلى توجيه رسائل مباشرة إلى السلطات في الداخل خاصة بالحقوق والحريات العامة، عبر الحرص على إبراز التضامن المعنوي والرمزي مع المحتجين في الداخل، من خلال الإقدام على خطوات مثل قص الشعر، وهو الرمز الأكثر دلالة الذي برز في الاحتجاجات الحالية.
ومن دون شك، فإن ما يضفي زخم خاص على هذا الاحتمال، هو أن الجمهور- واللاعبين- استغلوا بالفعل أحداثاً رياضية قريبة للتعبير عن تضامنهم مع المحتجين. فخلال المباراة الودية التي جمعت بين إيران والسنغال في فيينا، في 27 سبتمبر الماضي، استعداداً لنهائيات كأس العالم، نظم إيرانيون احتجاجات خارج الملعب تضامناً مع المحتجين.
وخلال نهائي كأس طيران الإمارات للقارات لكرة القدم الشاطئية، في 7 نوفمبر الجاري، لم يحتفل اللاعب الإيراني سعيد بيرامون بهدفه في مرمى البرازيل- الذي منح الفوز لإيران بعد تغلبها بهدفين مقابل هدف- وإنما قام بإيماءة واضحة بأصابعه تشبه المقص فوق رأسه لتقليد قص الشعر.
من دون شك، فإن الجهات المنظمة للمونديال سوف تبذل قصارى جهدها من أجل إخراج الحدث الرياضي على أفضل وجه، وتحييد أية قضايا سياسية عنه، لكن في حالتنا هذه قد لا تكون المهمة سهلة، لاسيما أن الجمهور قد يعمد إلى توجيه هذه الرسائل خارج الملعب، فضلاً عن أن بعض الإيماءات لا يمكن تقييدها بسهولة، مثل إيماءة قص الشعر. وإذا كان من المتوقع أن يلتزم اللاعبون بالقواعد المحددة سواء من جانب الجهات المنظمة أو من قبل إيران، فإن الوضع بالنسبة للجمهور قد يكون مختلفاً.
وفي مقابل ذلك، لا يمكن استبعاد أن يتجه قسم من الجمهور أيضاً إلى توجيه رسائل تفيد دعمه للنظام وانتقاده للمحتجين، لاسيما أن النظام ما زال يحظى بقاعدة شعبية لا يمكن تجاهلها، ويحاول استخدامها باستمرار في إطار سعيه لتقليص الضغوط التي تفرضها الاحتجاجات.
أهداف محددة
ربما يسعى قسم من الجمهور عبر توجيه مثل هذه النوعية من الرسائل الداعمة للاحتجاجات إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- كسر حاجز الخوف: قد يكون الهدف الأول مرتبطاً بحرص الجمهور على تأكيد أن المحتجين في الداخل كسروا حاجز الخوف، وهو السبب الأساسي الذي يمكن من خلاله تفسير استمرار الاحتجاجات حتى الآن، رغم السياسة القمعية التي يتبناها النظام في التعامل معها. كما أنه السبب نفسه الذي يضفي نوعاً من الخصوصية والتفردية على هذه الاحتجاجات عند مقارنتها بالاحتجاجات السابقة، وتحديداً التي اندلعت في أعوام 2009 و2017 و2019.
2- تأثير الجيل z: لا شك أن قسماً من الجمهور سوف يكون من الفئة التي تقل أعمارها عن 25 عاماً، وهو الجيل نفسه الذي تنتمي إليه مهسا اميني. وربما يكون هو القسم الأكبر من الجمهور الذي سيشاهد المباريات من المدرجات.
وبالطبع، فإن الرسالة الأهم في هذا السياق سوف تتركز حول وجود فارق شاسع بين النظام والمحتجين في الشارع، ليس فقط في السياسات أو التطلعات السياسية والثقافية، وإنما أيضاً في التوازن الجيلي. ففي الوقت الذي تقترب أعمار كثير من كبار المسئولين في النظام الإيراني من حاجز المائة عام، على غرار آية الله أحمد جنتي رئيس مجلسى صيانة الدستور والخبراء (95 عاماً)، وآية الله علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية (83 عاماً)، تشير تقديرات عديدة إلى أن نسبة من تقل أعمارهم عن 24 عاماً تصل إلى 37% من المجتمع الإيراني الذي يبلغ تعداده أكثر من 86 مليون نسمة.
3- مقاومة القيود المفروضة: ويرتبط ذلك بالهدف السابق، فالجيل الجديد الذي يتصاعد تأثيره داخل إيران يسعى إلى تأكيد أن لديه تطلعات قد لا تكون بالضرورة مختلفة كلية عن توجهات النظام الإيراني، وإنما على الأقل تتباين معه في بعض المحددات، ولاسيما ما يتعلق بالموقف من القيود الاجتماعية المفروضة، إلى جانب الموقف من التعامل مع الثقافات الأخرى.
إذ يرفض هذا الجيل فكرة الانغلاق الثقافي ويرى أنها لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض التي تفرض ضرورة الانفتاح على الخارج. ويستند هذا الاتجاه إلى أن أية قيود مفروضة لن تستطيع منع هذا الجيل من الانفتاح على الثقافات الأخرى، لاسيما أنه نشأ وسط بيئة تعتمد في المقام الأول على التكنولوجيا الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها.
وربما تؤكد بعض القرارات التي يتخذها النظام نفسه هذه الرؤية، على غرار اتهامه لبعض وسائل الإعلام الخارجية، مثل شبكة "إيران انترناشيونال"، بالمسئولية عن تأجيج الاحتجاجات في الداخل.
إذ يؤكد هذا الاتهام أن الإجراءات التي يتبناها النظام لم تفلح في منع التواصل بين المحتجين والخارج، بدليل وصول بعض وسائل الاتصالات الحديثة إلى أيدى المحتجين لنقل صور حية للأحداث التي تقع في الداخل إلى الخارج.
في كل الأحوال، تبقى الاحتجاجات الحالية في إيران- وبصرف النظر عن مدى إمكانية انعكاسها على مشاركة إيران في المونديال- كاشفة إلى حد كبير عن عمق الأزمة التي تشهدها إيران. فالشرخ القائم بين النظام والشارع يتسع تدريجياً، رغم أن الشارع ليس كله مسانداً للاحتجاجات، والتوتر يتصاعد بين النظام والقوميات، والضغوط الاقتصادية تتفاقم، على نحو يوحي في النهاية بأن هذه الاحتجاجات أدخلت إيران مرحلة جديدة قد تشهد اختبارات سياسية صعبة.