قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2022-11-9
صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تطور لافت فى تفاعل الولايات المتحدة الأمريكية مع تطورات الأزمة الأوكرانية أعلن عنه مؤخراً، وتمثل فى الكشف عن مباحثات سرية بين واشنطن وموسكو أجراها مستشار البيت الأبيض للأمن القومى جيك سوليفان مع عدد من مستشارى السياسة الخارجية والأمن للرئيس الروسى فيلاديمير بوتين بخصوص الأزمة.

الجديد فى هذا التطور ليس هو المباحثات السرية فى حد ذاتها، لأنها آلية يعمد إليها مسئولو الدولتين من حين لآخر بشأن قضايا التفاعل الدولى حتى من قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية، وحتى مع اشتعال الأزمة نفسها لم تنقطع الاتصالات بين الجانبين الروسى والأمريكى بشأنها، لكنها وبفعل تطورات الصراع الحاد وارتفاع وتيرة التهديد الروسى لدول أوروبا باتت آلية المباحثات الثنائية "نادرة" الحدوث.

 فما الجديد إذن فى عودة الاتصال على هذا المستوى الدبلوماسى بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن أوكرانيا؟، وما هى مخرجات هذه المباحثات، ودلالتها على مستوى التعاطى الأمريكى مع تطورات الأزمة خلال المرحلة المقبلة؟.

دلالات لافتة

اللافت هنا هو التوقيت الدولى الذى تمت فيه هذه المباحثات؛ وطبيعة مخرجاتها التى تداولتها وسائل الإعلام، والتى "قد" تشير إلى موقف أمريكى جديد ليس مغايراً للموقف المساند بقوة لأوكرانيا؛ وإنما موقف يدفع نحو عودة المفاوضات بين الجانبين الروسى والأوكرانى فى سياق مسار لتسوية سياسية محتملة، وهو ما تم الإعلان عنه عقب الكشف عن هذه المباحثات؛ حيث طالب مستشار الأمن القومى الأمريكى أوكرانيا بـ"الانفتاح على الحوار السياسى مع روسيا مجدداً".

 فوفقاً لتصريحاته، فإن "الحفاظ على مستوى معين من الاتصال مع موسكو يعد أمراً حتمياً لتحقيق بعض المصالح الأمنية القومية المتبادلة". هذا النمط فى تفاعل واشنطن "الجديد" مع الأزمة الأوكرانية على المستوى السياسى يحمل دلالات عدة:

أولها، يشير إلى ما يمكن تسميته بـ "تحديثات" –إن جاز التعبير– تجريها واشنطن على موقفها من الأزمة، ربما تصل هذه "التحديثات" إلى مستوى من "التقييم النوعى" للموقف الأمريكى منها، دون أن يعنى هذا التقييم تخلى واشنطن عن حالة "الدعم الشامل" عسكرياً ولوجستياً ومادياً لكييف، لكن يعنى الاتجاه إلى مقاربة "مغايرة نسبياً" لسبل تسوية الأزمة من وجهة النظر الأمريكية.

ويعزو هذا إلى بعض المتغيرات المتعلقة بالسياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً، والتى  سيرد تفصيلها لاحقاً. وتكمن المفارقة هنا أن هذا "التغير النسبى" فى المقاربة الأمريكية للصراع الروسى-الأوكرانى يأتى فى "توقيت" يبدو معه مسار الصراع العسكرى على الأرض - وبعد 10 أشهر - عاكساً لحالة من "الصمود النوعى" أبدته أوكرانيا فى مواجهة آلة الحرب الروسية العملاقة، حتى وإن كان هذا الصمود مغلفاً بحجم ونوع المساعدات العسكرية التى تقدمها الولايات المتحدة وأوروبا لأوكرانيا.

ومن هنا، تبدو دعوة واشنطن لأوكرانيا للانفتاح على الحوار السياسى مع روسيا فى الوقت الراهن، مقلقة لأوكرانيا التى ترى فى بعض انتصاراتها النسبية على أرض الصراع دافعاً لمزيد من الإنجاز العسكرى، الذى يرفع من قدرتها على التفاوض بشأن التسوية السياسية من منطلق مكتسباتها على الأرض؛ وهو ما لم يحدث بصورة حقيقية حتى الآن، فنتائج الصراع على الأرض بالنسبة لأوكرانيا لم تتجاوز مكتسبات مرحلة الصمود.

ثانيها، ينصرف إلى نوع من "الضغط الدبلوماسى" الذى تمارسه الإدارة الأمريكية – مؤخراً – على الرئيس الأوكرانى نفسه فولوديمير زيلينسكي، تستهدف عبره إحداث تغيير فى موقفه الرافض لأى نوع من أنواع المفاوضات مع الجانب الروسى فى الوقت الحالى، فتشير العديد من المصادر إلى أن الدبلوماسية الأمريكية – وعلى مدى الشهر الماضى - حثت كييف على التخلى عن فكرة رفض المشاركة فى محادثات سلام مع روسيا إلا بعد إزاحة بوتين عن السلطة.

وتبدو أن الضغوط الدبلوماسية الأمريكية على كييف تحمل عدة مضامين أبرزها أن الحفاظ على مستوى معين من المساعدات الأمريكية لكييف يتطلب التفكير فى نقل الصراع إلى مسار دبلوماسى تفاوضى بالتوازى مع استمرار حالة الصراع على الأرض، ويحضر هنا العامل الأوروبى بقوة، حيث يبدو أن الحمل الأوروبى على إدارة بايدن بات ضاغطاً على سياستها الداخلية بقوة؛ لاسيما فى ظل تحديات انتخابات التجديد النصفى للكونجرس.

 وتدلل تلك المصادر على الأهمية التى تبديها إدارة بايدن - فى الوقت الراهن - لإحداث تغيير محدود فى موقف كييف تجاه التفاوض مع موسكو بزيارة سوليفان مستشار الأمن القومى الأمريكى نفسه لكييف فى 4 نوفمبر 2022، واجتماعاته التى عقدها مع الرئيس زلينسكى مباشرة، وتناولت هذا الأمر تحديداً.

ثالثها، يتعلق بتزايد المخاوف الأمريكية والأوروبية من تصرفات غير محسوبة للرئيس الروسى فلاديمير بوتين رداً على حالة الصمود العسكرى لأوكرانيا من ناحية، وحالة الدعم العسكرى النوعى الفائق الذى تحصل عليه من الحليف الأوروبى والأمريكى من ناحية ثانية.

وانعكست أبرز هذه التهديدات فى تلويح الرئيس بوتين باستخدام الأسلحة النووية فى الحرب ضد أوكرانيا لحماية أمن دولته، بما فيها الأجزاء التى ضمها بصورة غير قانونية للأراضى الروسية، وهى مخاوف انعكست بوضوح فى المفاوضات التى أعلن عن بعض مخرجاتها عبر الصحف الأمريكية.

 إذ تناولت المباحثات ضرورة توصل واشنطن لصيغة "تفاعل سياسية" مع روسيا تضمن منع التصعيد فى أوكرانيا إلى مرحلة تطال ما هو أبعد من ساحة الصراع الأوكرانية الحالية، بما فى ذلك منع أوكرانيا نفسها من التهديد باستهداف نقاط داخل روسيا لأن ذلك سيستفز – من وجهة النظر الأمريكية – الرئيس الروسى ويدفعه لنقل الصراع إلى مستوى غير محسوب النتائج على كافة المستويات، خاصة فى ظل تصاعد صيغة التهديدات الروسية باحتمالية استخدام موسكو الأسلحة النووية أو البيولوجية، رداً على تكهناتها باستعداد كييف لاستخدم ما يسمى بـ "القنبلة القذرة" المشعة.

هذه الصيغة من التفاعل السياسى التى ترغب واشنطن فى التوصل إليها مع موسكو بشأن الأزمة الأوكرانية تستهدف الحفاظ على قنوات اتصال دبلوماسية مفتوحة معها، وفى الوقت نفسه حث كييف على إجراء "حوار مفتوح" مع موسكو والإعلان عن استعدادها التفاوض مع الرئيس بوتين، دون أن تؤجل ذلك إلى مرحلة يأتى فيها حاكم جديد للكرملين وفقاً لما اعتادت كييف على ترويجه إعلامياً مؤخراً.

رابعها، يركز على حجم التحديات التى تواجهها الولايات المتحدة على مستوى التفاعلات الدولية مع خصومها الدوليين، والتى تؤشر إلى تحولات ملموسة فى بنية النظام الدولى لن تكون بالضروة فى صالح الولايات المتحدة كقطب أوحد؛ فثمة مخاوف من أن تؤدى هذه الحرب فى حال اتساعها إلى تغيير ملموس فى بنية "النظام الدولى الليبرالى".

وأبرز تلك التحديات تتعلق بالتهديدات الأمنية التى تراها الولايات المتحدة خصماً فعلياً من أمن مصالحها الدولية ومصدرها روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران. فثمة مؤشرات على حالة تقارب روسى-صينى من شأنها التأثير سلباً على المصالح الأمريكية على المستوى الدولى. فضلاً عن حجم الخسائر الفادحة على مستوى الاقتصاد العالمى، لاسيما المناطق التى انعكس فيها بوضوح تأثير أزمة أوكرانيا على تكاليف الغذاء والوقود فى أوروبا وشمال أفريقيا وبؤر الصراع العربية، وبعض الدول فى أمريكا اللاتينية.   

خامسها، يشير إلى التحديات الداخلية التى تواجه الإدارة الأمريكية ومنها؛ تزامن ارتفاع حدة التصعيد الروسى تجاه كييف مع انتخابات التجديد النصفى للكونجرس، والتى لم تعلن نتائجها حتى كتابة هذه السطور، فثمة مؤشرات على تغير مزاج الناخب الأمريكى تجاه الحزب الديمقراطى الحاكم بسبب ضغوط الأزمة الأوكرانية على التكاليف الاقتصادية للأحوال المعيشية اليومية، بخلاف حجم المساعدات الضخم الذى تقدمه الإدارة الحالية لكييف والذى تجاوز 18 مليار دولار، ما يمثل عنصر ضغط إضافياً على الاقتصاد.

 وتجدر الإشارة هنا إلى أن زيارة مستشار الأمن القومى الأمريكى لكييف أكدت بعض التزاماتها بثبات حجم المساعدات الأمريكية لكييف حتى وإن أسفرت نتائج التجديد النصفى للكونجرس عن تغير حاد فى بنية عضويته، فى إشارة إلى تصريحات بعض المرشحين الجمهوريين فى دعاياتهم الانتخابية إلى ضرورة تقليص واشنطن لحجم المساعدات التى تقدمها لكييف.

 هذه التصريحات تأتي فى سياق أوسع يريد عبره الجمهوريون تغيير السياسة التى تتعامل بها واشنطن مع كييف، والسعى إلى تسوية تفاوضية بين طرفى الصراع، منعاً لتحوله لصراع طويل الأمد.

يمكن القول في النهاية إن المعطيات السابقة تشير إلى "مقاربة جديدة " من قبل الإدارة الأمريكية لمسار ونتائج الحرب الروسية-الأوكرانية؛ لكنها مقاربة لا تفترض حدوث تحول حاد وشامل للموقف الأمريكى الداعم وبقوة لكييف، ولكن تتحسب لنتائج الصراع التى تبدو أنها على مشارف الانتقال لمستوى غير محسوب النتائج من التصعيد حال استخدام موسكو أو كييف سلاحاً "نوعياً" فى مسار المواجهة المحتدمة بينهما.