د. محمد عز العرب

رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

لم يكن واقعياً تصور أن القمة العربية الواحدة والثلاثين التي استضافتها الجزائر على مدار يومي الأول والثاني من شهر نوفمبر الجاري (2022) تؤدي إلى تغيير الواقع العربي من حال إلى حال، في كل الملفات المطروحة، التي تخص الأوضاع الداخلية الضاغطة والتحولات الإقليمية السائلة والضغوط الدولية المتنامية، لاسيما في مرحلة ما بعد جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، بل يعد الخيار الرشيد هو التفكير في إيجاد آليات محددة يتم تبنيها لمواجهة ملفات بعينها وتكون محكومة بأطر زمنية، والتي تظهر في البيان الختامي "إعلان الجزائر" عبر لجان للتقييم والمتابعة من جانب الأمانة العامة لجامعة الدول العربية والأجهزة المعنية في الدول العربية معاً.

وبناءً على ذلك، يمكن تقييم أداء القمة مقارنة بغيرها من القمم، وفقاً لقدرتها "المرنة" على التعامل مع التحديات التي تواجهها الدول العربية، وللميزة النسبية التي اتسمت بها، والقرارات الملزمة التي تم اتخاذها لتغيير واقع ما والذي يمكن قياسه وفقاً لمؤشرات إمبريقية.

سياقات ضاغطة

لقد عُقدت قمة الجزائر في ظل سياقات ضاغطة من اتجاهات عديدة. على سبيل استمر التوتر الحاد في العلاقات بين بعض الدول العربية، إذ أن الدولة التي استضافت القمة "الجزائر" قطعت علاقتها الدبلوماسية بدولة جوار لها هي المغرب، وتعثرت كل جهود الوساطة التي بذلتها دول عربية عدة على مدار الأشهر الخمسة الماضية، بل توترت الأجواء في المرحلة التي سبقت عقد القمة بساعات نتيجة الاعتراض المغربي على سلوك أجهزة الأمن الجزائرية في التعامل مع الوفد الإعلامي المغربي، وهو ما كان مثار استنكار من قبل الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين المغربية. وأدى ذلك إلى عدم حضور ملك المغرب القمة، "لاعتبارات إقليمية"، وفقاً لما أعلنه وزير الخارجية، ناصر بوريطة الذي ترأس وفد المغرب.

وفي هذا السياق، فقدت القمة العربية الأخيرة فرصة بالغة الأهمية لها وهي تنقية الأجواء بين بلدين عربيين رئيسيين في منطقة المغرب العربي، ليظل التوتر الجزائري المغربي مستداماً، ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى تجاوزه أو الحد من تداعياته. بل كان هذا التوتر سبباً -في أحد أبعاده- لتراجع تمثيل دول الخليج في القمة نظراً للرفض الجزائري تسوية الأزمة مع المغرب. ولعل ذلك يعكس التناقض الذي ميز قمة الجزائر حينما أشار البيان الختامي إلى التمسك بالحلول العربية للمشكلات العربية، عبر تقوية دور جامعة الدول العربية في الوقاية من الأزمات وحلها بالطرق السلمية، لاسيما مع إشارته إلى دور دبلوماسية الكويت في تعزيز التضامن العربي وتجاوز أزمة قطر.

علاوة على ذلك، مثلت علاقة الجزائر ببعض القوى الإقليمية مثاراً لتوترات مكتومة في العلاقات الجزائرية العربية، وهو ما يأتي في وقت تسعى بعض الدول العربية إلى إدانة التدخلات الخارجية في الشؤون العربية، في ظل علاقة إيران المباشرة باستمرار الأزمات في بعض الدول العربية على رأسها اليمن، من خلال دعم "الحوثيين"، الذين يمثلون تهديداً لدول الخليج من خلال استخدام الطائرات المسيرة لاستهداف مناطق حيوية واستراتيجية، ولكن في المقابل، تشهد العلاقات الجزائرية الإيرانية تقارباً متزايداً.

كما أن ثمة رفضاً لدى بعض الدول العربية لتحركات إيران لزعزعة استقرار الأوضاع في المغرب العربي، إذ تشير بعض التقارير، إلى أن إيران قد تقدم على تسليح جبهة "البوليساريو"، وهو ما يشكل تهديداً أمنياً للمغرب. يُضاف إلى ذلك التوتر الذي شاب العلاقات المغربية- التونسية بعد استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد، في أغسطس الماضي، رئيس جبهة "البوليساريو" إبراهيم غالي، خلال قمة "تيكاد 8"، وهو ما كان مثار اعتراض مغربي واضح، وعلى إثره، تم استدعاء السفير المغربي من تونس للتشاور. وفي المقابل، تعاملت تونس بالمثل، واستدعت سفيرها للتشاور. واعتبرت وزارة الخارجية المغربية، استقبال سعيد لزعيم جبهة "البوليساريو" عملاً عدائياً وخطيراً وغير مسبوق، باستقبال زعيم المليشيا الإرهابية، في حين اعتبرت تونس أن الاستقبال جاء متماشياً مع الإجراءات الترتيبية وفقاً للمرجعيات القانونية الأفريقية.

علاوة على ذلك، كانت إحدى القضايا الخلافية التي سبقت القمة العربية في الجزائر، تتعلق بمستوى تمثيل ليبيا في القمة، في ظل تعقد المشهد السياسي، لوجود حكومتين تتنازعان على أحقية الشرعية، بين فتحي باشاغا، وعبد الحميد الدبيبة، ولكن جاء الاستقرار في النهاية على أن يكون رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، ممثلاً لليبيا. يأتي هذا الموقف في ظل رفض مصر بشكل خاص، لتمثيل حكومة الدبيبة لليبيا خلال اجتماع القمة العربية، في ضوء عدم الاعتراف بشرعيتها، مقابل تأييد حكومة باشاغا، بعد منحها الثقة من قبل البرلمان برئاسة عقيلة صالح.

كما برز الخلاف بين بعض الدول العربية بشأن عودة سوريا للجامعة العربية وحضورها قمة الجزائر؛ إذ اتضح خلال الأشهر القليلة الماضية، مساعي الجزائر لعودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، وحضور القمة التي تستضيفها، بعد تعليق العضوية في أعقاب ما شهدته البلاد من أحداث منذ عام 2011. وفي حين حاولت الجزائر الضغط لطرح هذا الموضوع قبل القمة، إلا أن هذا المسار كان مثار رفض من قبل بعض الدول العربية، التي لديها موقف من النظام السوري القائم، في ظل عدم اتخاذ خطوات لإصلاح الوضع. وجاء التحفظ السوري على حضور اجتماع القمة العربية، على لسان وزير الخارجية فيصل المقداد، خلال اتصال هاتفي مع نظيره الجزائري، مخرجاً للتجاذبات بين الجزائر وعدد من الدول العربية، في ظل تباين المواقف حيال الأزمة السورية.

يضاف إلى ذلك التباين في المواقف بين الجزائر والدول التي اتخذت مساراً للتطبيع في علاقتها بإسرائيل، وبصفة خاصة المغرب. وتصاعد الحديث داخل البرلمان الجزائري عن التقدم بمشروع لـ"تجريم" التطبيع مع إسرائيل. وكان الموقف الجزائري الرافض للتطبيع، تبلور في استضافة الفصائل الفلسطينية والتوقيع على اتفاق الجزائر قبل القمة العربية (11-13 أكتوبر الماضي)، بشأن المصالحة، رغم إقرار بعض الآراء على عدم وجود خارطة واضحة للمصالحة وآليات محددة.

لقد أسهمت كل تلك العوامل السابقة في الحد من تجاوز الخلافات في المواقف إزاء بعض القضايا الإقليمية والبناء على القواسم المشتركة بين الدول العربية بما أضعف من قدرة قمة الجزائر على تحقيق خطوات باتجاه دعم العمل العربي البيني، على الرغم من الجهود المضنية التي بذلتها ولاتزال تبذلها القاهرة لتعزيز التفاهم العربي والحد من التدخلات الخارجية في الشئون الداخلية للدول العربية.

مواقف متكررة

كان لافتاً أن التوجهات أو المواقف التي اتخذتها الدول العربية، على نحو ما جاء في إعلان الجزائر، تمثل تكراراً لما سبق أن جاء في البيانات الختامية السابقة للقمم التي عُقدت خلال الفترة (2011-2019)، بما جعلها أقرب إلى إعادة إنتاج توجهات سابقة وليس التفكير في خيارات جديدة. على سبيل المثال، تم التأكيد على محورية ومركزية القضية الفلسطينية لدى الدول العربية، والتمسك بمبادرة السلام العربية، ودعم وتبني حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، والضغط على إسرائيل لتوقيف سياسة الاستيطان والعودة إلى التفاوض.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن القضية الفلسطينية لم تعد هي الشغل الشاغل للعديد من الدول العربية مثلما كان الحال في فترات زمنية سابقة، بل صار لتلك الدول شواغلها الرئيسية، ومنها محاولة إعادة هيكلة أجهزة ومؤسسات الدولة الوطنية التي تراجع دورها كثيرا خلال الفترة (2011-2022) ومكافحة الإرهاب العابر للحدود الرخوة، والتصدي للميلشيات المسلحة التي تحظى بدعم بعض القوى الإقليمية، وهو ما تعبر عنه حالات ليبيا واليمن وسوريا والعراق. وقد عبرت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي بجلاء عن تلك التحديات حينما أشار إلى أن الأخطار التي تواجه أمننا العربي واحدة، مع الأخذ في الاعتبار التباين في أولويات مدركات التهديد.

أضف إلى ذلك، كان من المهم التركيز على دور مبعوثي الأمين العام لجامعة الدول العربية من خلال تفعيل دورهم في بعض بؤر الصراعات المسلحة العربية وتكامل دورهم مع مبعوثي الأمين العام للأمم المتحدة بدلاً من الصيغ التقليدية مثل "التضامن مع الشعب الليبي" و"دعم الحكومة اليمنية الشرعية" و"دعم جهود التوصل لحل سياسي للأزمة السورية". وعلى الرغم من أن البيان الختامي أشار إلى دعم الدول العربية المأزومة في إشارته للأوضاع العربية الراهنة، إلا أنه كان يفترض التفكير في دعم مالي لدولة مثل لبنان، التي صارت تعاني فراغاً على مستوى رئاسة الدولة والحكومة، وتتراجع عملتها الوطنية بشكل مخيف، مما يتطلب آليات استجابة عربية على مستوى دعم البنية الأساسية خاصة أن المياه والكهرباء تنقطع لساعات طويلة في العاصمة بيروت.  

رهانات مستقبلية

لقد انتهت قمة الجزائر وصدر بيانها الختامي، ويبقى الانشغال الرئيسي بكيفية تحقيق نقلات متدرجة في العمل العربي المشترك، على الأقل بالنسبة للسياسات الدنيا التي تخص الغذاء والمناخ والبيئة والمياه والاقتصاد مقارنة بتعثر حدوث ذلك للسياسات العليا التي تتعلق بالسياسة والأمن، وهي قضايا يمكن التوافق حولها. ومن أبرز تلك القضايا:

1- تعزيز الاكتفاء الغذائي: قد يكون من المفيد البدء في اتخاذ سياسات تجمع بين دول عربية على صعيد الإنتاج الزراعي مثل استغلال المساحات غير المزروعة في بعض الدول مثل السودان وغيرها تجنبا للرهان على الاستيراد من الأسواق الخارجية، وهو ما برهنت عليه الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إذ أدت إلى تزايد الطلب على الحبوب والزيوت في الوقت الذي توجد صعوبات لوصول تلك المنتجات إلى الدول العربية لاسيما مع اتجاه روسيا إلى تعليق اتفاق تصدير الحبوب مؤخرا، وما نتج عن ذلك من ركود في الاقتصاد العالمي وأزمات حادة تواجه الاقتصادات الوطنية.

2- مواجهة التغير المناخي: تتطلب المرحلة المقبلة زيادة التعاون البيني العربي في اتجاه الحد من أزمات التغير المناخي والتدهور البيئي، فضلاً عن إظهار الفعاليات الدولية (مؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول تغير المناخ) التي تستضيفها دول عربية مثل القاهرة وأبوظبي (COP27، COP28) بحيث يتم تحميل الدول الكبرى مسئولية زيادة الانبعاثات الكربونية، ومن ثم تمويل جهود التصدي لتغير المناخ، ودعم الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، فضلاً عن الاستمرار في تقديم المبادرات الجديدة مع الحرص على تطبيق المبادرات القائمة مثل الشرق الأوسط الأخضر الذي طرحته السعودية.

3- التعافي من الأزمات الاقتصادي: تواجه معظم الدول العربية -باستثناء دول الخليج بعد الوفرة المالية الأخيرة- أوضاعاً اقتصادية صعبة لأنها واجهت تحديات مزدوجة خلال مدى زمني لا يتجاوز العامين، وهما تبعات جائحة كوفيد-19، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، مما يستلزم دعم الثانية للأولى في صورة استثمارات ومشروعات مشتركة في قطاعات محددة. وقد أشار البيان الختامي إلى صيغة أكثر عمومية وهي "الالتزام بمضاعفة الجهود لتجسيد مشروع التكامل الاقتصادي العربي وفق رؤية شاملة تكفل الاستغلال الأمثل لمقومات الاقتصادات العربية وللفرص الثمينة التي تتيحها، بهدف التفعيل الكامل لمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى تمهيدا لإقامة الاتحاد الجمركي العربي".

وتشير التجربة في العقود الماضية إلى أن الدول العربية تتعثر في التكامل الاقتصادي العربي لتشابه هياكلها الإنتاجية والإصرار على التكامل "على دفعة واحدة" وليس "على مراحل" الذي أخذت به دول في اتجاه التكامل في مناطق جغرافية مختلفة. ويبدو أن هناك نهجاً تتبناه بعض الدول العربية وهو التكتل وفق نظرية "النواة" بمعنى التركيز على تكثيف التعاون الاقتصادي بين دول يجمعها مزايا نسبية مثلما تم بين مصر والعراق والأردن، ثم أضيف إليهما الإمارات والبحرين في اتجاه دعم القاعدة الصناعية لهذه الدول بدلاً من الإصرار على نهج التكامل بين كل الدول العربية والذي لم يسفر عن تحولات ملموسة.

في حال تحقيق تقدم في المسارات الثلاث السابق ذكرها، تكون الدول العربية قطعت شوطاً في اتجاه التعايش مع عالم ما بعد كوفيد-19 وحرب أوكرانيا، والتي تفرض المزيد من الاستقلالية في اتخاذ القرارات، ولعل ما أشار إليه البيان الختامي بشأن تثمين السياسة المتوازنة التي انتهجها تحالف "أوبك بلس" من أجل ضمان استقرار الأسواق العالمية للطاقة وتجنب الوقوع في فخ الاستقطاب العالمي، لأن ما يشغلنا هو مصالحنا الوطنية التي لا تتعارض بالضرورة مع المصلحة القومية العربية؛ فالسياسة من أسفل عبر الغذاء والمناخ والبيئة والطاقة والمياه قد تكون هي المدخل الأكثر رشادة وواقعية لتعزيز التعاون البيني العربي الذي لايزال يواجه تحديات على أصعدة السياسة والأمن.