السيد صدقي عابدين

باحث في العلوم السياسية - متخصص في الشئون الآسيوية

 

في الثاني والعشرين من شهر أكتوبر الماضي (2022) شهدت مدينة بيرث الاسترالية توقيع إعلان جديد للتعاون الأمني بين استراليا واليابان. الإعلان الأمني الجديد الذي وقعه رئيسا وزراء البلدين جاء بعد خمسة عشر عاماً على توقيع أول إعلان أمني بين الجانبين. فما الذي اختلف بين التاريخين والإعلانين؟، كما أن الإعلان الجديد حدد عشر سنوات قادمة سيتم تطبيقه خلالها. فهل سيكتفى بهذا الإعلان طوال تلك السنوات أم ستكون هناك اتفاقات أخرى قبل أن تنقضي تلك السنوات العشر؟، وما الذي تضمنه الإعلان الجديد؟، وما هي أبرز رسائله؟، ولمن توجه هذه الرسائل؟، وكيف تم التقاط تلك الرسائل والتعامل معها؟.

المضمون

خمسة عشر بنداً تضمنها إعلان التعاون الأمني بين اليابان واستراليا. البداية كانت بالتأكيد على أهمية الشراكة الاستراتيجية الخاصة التي تجمع البلدين، باعتبارها واحدة من ركائز منطقة المحيطين الهندي والهادي التي تتسم بالحرية والانفتاح والمرونة والشمول. وقد تكرر ذكر هذه المنطقة في أكثر من بند من بنود الإعلان، وتحديداً في البند الخامس عند ذكر المخاطر التي تواجه القيم والمصالح الاستراتيجية المشتركة للبلدين. وهنا فقد تم التفصيل فيما يمكن أن يساعد في تحقيق تلك المنطقة بتلك المواصفات المذكورة. وحددت في ذلك الإطار نقاط ست، تتمثل في نظام قائم على القواعد، وتوازن استراتيجي قادر على ردع العدوان، ومجال بحري مفتوح ومستقر وآمن طبقاً لقواعد القانون الدولي، بحيث تمارس الملاحة البحرية والجوية دون أعمال قسرية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، ووجود مؤسسات وقواعد ومعايير شفافة وشاملة تحكم التعاون بخصوص التحديات المشتركة، وأهمية التصدي للعدوان والإكراه والمعلومات المضللة والأنشطة السيبرانية الضارة وكافة أشكال التدخل جنباً إلى جنب مع التصدي للتحديات العالمية ومنها تغير المناخ والكوارث الطبيعية والأوبئة.

ثم تمت العودة إلى ذكر منطقة المحيطين الهندي والهادي في البند السابع من البنود الرئيسية للإعلان عندما تمت الإشارة إلى أن الشراكة بين البلدين تدعم تحالفهما مع الولايات المتحدة. وفي البند الثالث عشر أعلن البلدان عن السعي لترسيخ وتوسيع التعاون مع شركاء آخرين في منطقة المحيطين الهندي والهادي. وفي البند الرابع عشر ذكر دعم البلدين لرؤية دول رابطة الآسيان لمنطقة المحيطين، وكذلك التعاون مع منتدى جزر المحيط الهادي.

البند الثاني من الإعلان حدد مدة عشر سنوات تلتزم فيها البلدان بجدول أعمال من شأنه تعميق وتوسيع شراكتهما. وفي البند السادس تم تحديد المسائل الأساسية المرتبطة بالتعاون الأمني حلال تلك السنوات. ومن بين هذه المسائل تعزيز تبادل التقييمات الاستراتيجية بمستوياتها المختلفة، والتعاون الاستخباراتي، والنظر في إمكانية اتخاذ تدابير في الحالات الطارئة التي تحمل تأثيراً على سيادة البلدين ومصالحهما الأمنية. البند الثامن فصل في المسائل المتعلقة بالتعاون العملي بين قوات البلدين، بما في ذلك التدريبات والعمليات المشتركة المتطورة، واستخدام مرافق كل طرف من قبل قوات الطرف الآخر. ومجالات المراقبة والاستطلاع، والتكنولوجيا والصناعات الدفاعية. كما كان لافتاً تضمين هذا البند مسألة العمل على بناء قدرات الشركاء الإقليميين. ويشار هنا إلى ما تم بين اليابان واستراليا في سنوات سابقة على صعيد نقل المعدات والتكنولوجيا العسكرية اليابانية إلى استراليا في أول تطبيق للقواعد الجديدة التي كانت قد أقرتها اليابان بخصوص سياستها على هذا الصعيد.

الأمن الاقتصادي كان حاضراً في البند التاسع. وكان لافتاً في ذلك السياق ذكر ما تم تسميته بنقاط الضعف التي قد تنشأ عن الانفتاح الاقتصادي، والتي يمكن استغلالها. ويصبح السؤال مفاده: من المقصود بفعل الاستغلال هنا؟. كما حضرت سلاسل التوريد، وتقنيات الطاقة النظيفة، والبنية التحتية المتصفة بالجودة العالية، وكذلك الإقراض المتسم بالشفافية. ومرة أخرى يتم التساؤل من الذي يقدم مشاريع بنية تحتية لا تتصف بالجودة العالية وقروض لا تتصف بالشفافية؟. وكان لافتاً أيضاً ذكر عمليات نقل التكنولوجيا القسرية، والإكراه الاقتصادي. كما لم تغفل البلدان في سياق الأمن الاقتصادي أمن الاتصالات باعتباره جزءاً من البنية الأساسية الحيوية. وعلى ذلك فقد تحدث البند العاشر صراحة عن تعزيز ما أسماه بالدفاعات الإلكترونية. ومن ثم أوتي على التعاون في مجال الفضاء.

البندان الحادي عشر والثاني عشر خصصا لقضيتين عالميتين. أولاهما تخص معاهدة منع الانتشار النووي، بحيث تتعاون البلدان أكثر من أجل دعمها وتعزيزها في إطار السعي إلى الوصول هدف إخلاء العالم من الأسلحة النووية. وثانيتهما تتعلق بأجندة المرأة والسلام والأمن طبقاً لما قرره مجلس الأمن الدولي.

البند الثالث من الإعلان أظهر التداخل بين مختلف جوانب العلاقات بما في ذلك الأمنية، كما تحدث عن القيم المشتركة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والنظام الدولي القائم على القواعد. أما البند الرابع فقد أكد على أنه سيتم البناء على ما تحقق في ظل الإعلان الأمني الأول الموقع في العام 2007، والشراكة الاستراتيجية الخاصة الموقعة في عام 2014.

وبالنسبة لإعلان العام 2007، فإن مجالات التعاون الأمني التي حددت كان من بينها أمن الحدود، والأمن البحري والجوي، وعمليات الإغاثة الإنسانية، والتخطيط للطوارئ. ومما يلفت النظر أيضاً أن ذلك الإعلان كان قد ذكر صراحة القضايا المتعلقة بكوريا الشمالية بما فيها قضيتي الصواريخ والأسلحة النووية وقضية المخطوفين اليابانيين مؤكداً على ضرورة السعي لحل سلمي لتلك القضايا. واللافت أنها لم تذكر في الإعلان الجديد رغم سخونة الأوضاع، إلا أنها قد ذكرت في البيان المشترك لرئيسي وزراء البلدين، والذي تضمن تفصيلاً أكثر لقضايا ذكرت في الاتفاق الأمني.

الرسائل

هناك رسائل كثيرة يمكن قراءتها من هذا الإعلان ومضمونه. الرسالة الأولى تتمثل في أهمية الجوانب الأمنية في العلاقات اليابانية-الاسترالية. ليست مجرد أهمية عادية بل يمكن القول أن ذلك الجانب من العلاقات بات محورياً ويأتي على رأس الأولويات. وقد تجلى ذلك في تصدره لبنود البيان المشترك الصادر عن رئيسي وزراء البلدين والذي تضمن مختلف جوانب العلاقات.

الرسالة الثانية تقرأ من زاويتين. الزاوية الأولى تتعلق بشمولية الرؤية بالنسبة للتعاون الأمني، حبث أنه يضم قضايا الأمن التقليدية والقضايا غير التقليدية. أما الزاوية الثانية فإنها تتعلق بمستوى العمق في هذا التعاون،  والذي لم يعد يقف عند عمليات الإنقاذ وحفظ السلام ومحاربة تهريب المخدرات والتصدي للإرهاب.

ثالث الرسائل تصب في عدم اقتصار هذا التعاون على جوانب ثنائية، حيث لوحظ الاهتمام الكبير بالبيئة الأمنية الإقليمية وما تتضمنه من تحديات. كما حظي أمن المعلومات أو الأمن السيبراني باهتمام في هذا الاتفاق وتلك هي الرسالة الرابعة المهمة.

لم يقف الأمر عند مجرد القضايا الإقليمية وإنما حضرت قضايا عالمية تثيرها الولايات المتحدة قبل كل من الصين وروسيا وهي المتعلقة بالمحافظة على النظام الدولي القائم على القواعد.

وبعيداً عما هو دائر من جدل ساخن بين واشنطن من ناحية وكل من بكين وموسكو من ناحية أخرى حول هذه القضية وغيرها من القضايا فإن الملاحظ أن طوكيو وكانبيرا تنحازان إلى الرؤية الأمريكية.

هذا الانحياز من بين ما يؤدي إلى توترات في علاقات بكين بكل من كانبيرا وطوكيو من آن إلى آخر. وقد جاء رد الفعل الصيني المباشر على هذا الاتفاق الأمني متمثلاً في ضرورة أن لا تستهدف مثل هذه الاتفاقات أطرافاً ثالثة بحيث تؤثر سلباً على مصالحها، مع التأكيد على أن منطقة آسيا والمحيط الهادي لا تحتاج إلى تكتلات عسكرية، ولا مواجهات، ولا حرب باردة حديدة. وأن شعوب المنطقة ضد كل ما من شأنه تقويض السلام والاستقرار الإقليميين، ويسبب ضرراً للتعاون والتضامن الإقليميين أيضاً، وهو تقريباً نفس الرد الذي توجهه الصين للولايات المتحدة.

وبعد أيام من الاتفاق كانت هناك قضيتان استدعتا رداً صينياً مباشراً، وهما ليستا ببعيد عن السياق الأمني. أولاهما تمثلث في تصريحات رسمية استرالية بخصوص الموارد النادرة. وثانيتهما تتعلق بما ذكر حول إرسال الولايات المتحدة قاذفات استراتيجية بي 52 إلى استراليا. وقد جاء الرد الصيني في الحالة الأولى مؤكداً على ما يجب أن تتحلى به الدول التي تنتج تلك الموارد من مسئوليات لضمان الإمدادات، إلا أنها في ذات الوقت طالبت بعدم استخدام الاقتصاد كسلاح سياسي. وهنا لا تخفى العلاقة بين هذا وما ذكر في الاتفاق الأمني بخصوص الأمن الاقتصادي، وبين كل ذلك وما توجهه الولايات المتحدة من اتهامات متوالية للصين حول قضايا البنية الأساسية والقروض وغيرها من القضايا ذات الشق الاقتصادي. بينما تمثل  الرد الصيني في الحالة الثانية في اعتبار الأمر تصعيداً للتوترات الإقليمية، وتقويضاً خطيراً للسلام والاستقرار الإقليميين. ليس هذا فحسب بل إنها قد تؤدي إلى سباق تسلح في المنطقة، مطالبة بالتخلي عن عقلية المباراة الصفرية للحرب الباردة والعقلية الاستراتيجية الضيقة.

خامس الرسائل تتعلق بالمسميات ذات الدلالات الاستراتيجية في هذا الإعلان الأمني الجديد بين اليابان واستراليا. والمقصود بالأساس هنا مصطلح منطقة المحيطين الهندي والهادي، والذي بات المستخدم من قبل واشنطن وحلفائها. بينما ما تزال كل من بكين وموسكو ومعهما بيونج يانج تستخدمان مصطلح آسيا والمحيط الهادي. والأمر ليس مجرد اختلاف في المصطلحات التي تصف منطقة جغرافية بعينها. وإنما في دلالات هذا الاختلاف. وما يستتبعه من ترتيبات واتفاقات قد تلغي أو تجب أو تهمش اتفاقات وترتيبات سابقة.

الرسالة السادسة تتعلق بمنطقة جنوبي المحيط الهادي. والتي باتت موضع اهتمام وجدل واسع خاصة بعد الخطوات التي قطعتها الدبلوماسية الصينية في تلك المنطقة. ومن ذلك الاختراق الذي تمثل في الاتفاق الأمني الذي وقعته مع جزر سليمان. ومن ثم كانت التحركات الأمريكية المكثفة تجاه المنطقة وهي التحركات المتناغمة مع نظيرتيها الاسترالية واليابانية.

سابع الرسائل تتمثل في استمرار الدعم الاسترالي لقيام اليابان بدور خارجي أوسع، بما في ذلك الدور العسكري، وإلا ما كان مثل هذا الإعلان. وقد تضمن البيان المشترك الشامل بين رئيسي وزراء البلدين تأييداً استرالياً واضحاً للرؤية اليابانية بخصوص تقوية القدرات الدفاعية بما في ذلك زيادة الميزانية العسكرية في السنوات الخمس القادمة. والجدير بالذكر أن إعلان العام 2007 كان قد تضمن تأييد استراليا لحصول اليابان على مقعد دائم في مجلس الأمن في إطار عملية إصلاح للأمم المتحدة.

في الختام، من الواضح أن الشق الأمني في العلاقات اليابانية-الاسترالية آخذ في التزايد. ومن الواضح أن ذلك التعاون ما كان ليكون لولا أن هناك تشجيعاً أمريكياً. كما أن هذا التعاون لا يمكن النظر إليه بمعزل عن شبكة التفاعلات والترتيبات الأمنية التي ترعاها الولايات المتحدة في المنطقة التي بات عنوانها الرئيسي المحيطين الهندي والهادي بديلاً عن آسيا والمحيط الهادي. كما أن الولايات المتحدة وحلفائها لم يعودوا يخفون أن الصين واحدة من أهدافهم، حيث أنهم يتخوفون من سلوكياتها، ومن ثم فالاستراتيجية الأمريكية تتحدث بكل وضوح عن سعي صيني لتغيير النظام الدولي، بما يمثل تحدياً للولايات المتحدة وحلفائها بما في ذلك اليابان واستراليا، وهذا ما اتضح في الاتفاق الأمني، حتى وإن كانت الصين لم تذكر فيه صراحة. في مثل هذه الأجواء لا يتوقع أن تظل الصين في موقف المراقب فقط لمثل هذه التحركات. ومن ثم فإن البيئة الأمنية في المنطقة قد تكون مقبلة على تعقيدات أشد وتوترات أعلى. فبينما تتحدث كل الأطراف عن أن هدفها النهائي السلام والاستقرار، إلا أن التصرفات تكاد تصل إلى حد التناقض. وهذا منطقي في ظل التضارب في الإدراكات فيما يتعلق بالمصالح الوطنية وسبل حماية الأمن القومي وحدود هذا الأمن، ومن ثم الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك. وهذا ما يتجلى بصورة واضحة تماماً في شبه الجزيرة الكورية هذه الأيام.