لم يشأ الرئيس اللبناني السابق ميشال عون أن يرحل عن القصر الرئاسي بهدوء، بل أصر على أن يزرع آخر لغم كي يفجر ما تبقى من استقرار لبنان الذي عرف حالة من التأزم العميق خلال سنوات عهده الستة. انتخب ميشال عون رئيساً للبنان عقب تسوية سياسية شهيرة بين تياره وتيار المستقبل التابع لسعد الحريري، أصبح بموجبها عون رئيساً في مقابل تولي الحريري رئاسة الحكومة.
وكانت التسوية التي أفضت إلى انتخاب عون وعقدت بين الرجلين في أكتوبر 2016، هي الباب الأخير الذي أمكن من خلاله الخروج من فراغ رئاسي استمر نحو سنتين وخمسة أشهر إثر إصرار حزب الله على عدم انتخاب أي رئيس آخر سوى عون حليفه الوثيق[1]. وفيما يُذكِّر انتهاء عهد عون بالفراغ الذي جاء ليشغله في أكتوبر 2016، فهو يُذكِّر أيضاً بعهده السابق على رأس حكومة عسكرية لمدة امتدت لنحو عامين بين سبتمبر 1988 وأكتوبر 1990 كان قد عينها الرئيس الأسبق أمين جميّل بعد انتهاء رئاسته دون انتخاب خلف له أيضاً.
ولكن حكومة عون العسكرية آنذاك فقدت شرعيتها منذ نشأتها نظراً لرفض نصفها من الضباط المسلمين مهامهم فأصبحت حكومة مكونة فقط من ضباط مسيحيين، ومع ذلك فقد رفضت هذه الحكومة الاعتراف باتفاق الطائف وقامت بحل البرلمان لإجهاض التصديق على الاتفاق فيه ثم رفض رئيسها عون مغادرة قصر الرئاسة مما اضطر الجيشين اللبناني والسوري إلى اقتحام القصر فهرب عون إلى السفارة الفرنسية ثم إلى منفاه في باريس حتى عام 2005.
جدل دستوري ومخاطر الشلل والفراغ السياسي
بالنظر للتاريخ السابق لميشال عون في قصر بعبداً بين عامي 1988 و1990 وبالنظر إلى رفضه الدائم لاتفاق الطائف ورغبته طوال فترة حكمه في توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية على غير ما نص هذا الاتفاق، فقد تنبأ الجميع ألا تكون مغادرته للقصر الرئاسي سلسلة، حيث كانت التكهنات تدور حول رفضه تسليم السلطة حتى انتخاب خلف له، ولكن فعلياً عون خرج من القصر الرئاسي دون أن يسلم السلطة لخلفه ولا حتى لحكومة كاملة الصلاحيات.
إذ يشغل نجيب ميقاتي موقع رئاسة حكومة تصريف الأعمال القائمة حالياً وهو أيضاً الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة المنبثقة عن برلمان مايو 2022، ولكن حالت التعقيدات السياسية دون تشكيلها حتى اليوم. ويعود ذلك في قسم كبير منه إلى رغبة عون المتكررة في فرض معايير جامدة لتشكيل الحكومات في عهده، وهو ما اعتبره تأكيداً لصلاحيات الرئيس في تشكيل الحكومات، واعتبره خصومه تعنتاً سياسياً يتعدى على صلاحيات رئيس الحكومة.
وتكررت صعوبات تشكيل الحكومات طوال عهد عون مع سعد الحريري ومصطفى أديب وأخيراً نجيب ميقاتي، إذ عادة ما تتصادم مع رغبة فريق عون في إحراز ثلث معطل فضلاً عن توزير فريقه في وزارات بعينها، وهي مطالب سياسية مشروعة عادةً ما كان يتم التنازع عليها ولكنها لم تصل إلى هذه الدرجة من التعطيل من قبل.
ولذا فالعداء المتنامي بين الرجلين، عون وميقاتي، على خلفية الفشل في تشكيل الحكومة قد أدى بالأول إلى عدم تسليم السلطة للثاني باعتباره رئيس الحكومة القائمة، وإن كانت محدودة الصلاحيات بتسيير الأعمال، بل على العكس فقد وقع مرسوم استقالة هذه الحكومة لكي يصبح الفراغ السياسي مزدوجاً: فراغ رئاسي وفراغ حكومي.
أضاف هذا الأمر المزيد من التعقيد إلى المشهد اللبناني، فالدستور اللبناني ينص في مادته 62 على أنه في حال خلو منصب رئيس الجمهورية لأي علة فإن صلاحياته الرئاسية تحال بالوكالة إلى مجلس الوزراء[2]. ولكن الدستور لم يتوقع أن تكون الحكومة القائمة حكومة تسيير أعمال هي في حكم المستقيلة منذ انتخاب مجلس نواب جديد، وهي أيضاً لم تنل ثقة المجلس الحالي، بينما رئيسها نفسه نال الثقة والتكليف لتشكيل حكومة جديدة. ولكن هذه الحكومة الجديدة لم تر النور وليست بوارد أن تتشكل إلا بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لأنه لابد أن يوقع الرئيس مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة.
ومن هنا يبدو أن ما أقدم عليه عون من قبول استقالة الحكومة يعد سابقة لم تحدث من قبل، إذ قرر أن يُسقط الحكومة مع رحيله فلا تتمكن من ممارسة صلاحيات الرئيس المحالة إليها بحكم خلو المنصب بعد رحيله. ولكن في نفس الوقت هناك من يرى أن قبول الاستقالة ذاك ليس له أي أثر دستوري، لأن هذا المرسوم لا يصدر عادةً إلا مصاحباً لمرسوم تشكيل حكومة جديدة، وبالتالي فليس لهذه الخطوة أية مفاعيل دستورية وتصبح هي والعدم سواء.
ولأن الدستور لم يحدد هوية الحكومة التي تتسلم صلاحيات رئيس الجمهورية عند خلو المنصب، فهناك من يرى أن مجلس الوزراء القائم وإن كان لتسيير الأعمال فقط هو حكم له أن يمارس صلاحيات الرئيس عند الضرورة. وفي المقابل هناك من يرى أن سكوت الدستور عن ذكر حالة تزامن مجلس وزراء تسيير أعمال وخلو منصب الرئاسة يجعل من الحالة الراهنة بمثابة "فوضى دستورية" تلقي بلبنان إلى المجهول.
انعكس هذا الجدل الدستوري من خلال وصول خطابين إلى مجلس النواب يوم 30 اكتوبر 2022، أحدهما من ميشال عون الرئيس المنتهية ولايته والثاني من نجيب ميقاتي رئيس الحكومة المكلف ورئيس حكومة تصريف الأعمال[3]. إذ طالب عون في رسالته إلى مجلس النواب بعقد جلسة سريعة للبرلمان لنزع التكليف من رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي وتسمية رئيس آخر نظراً لما اعتبره تقاعص ميقاتي عن تشكيل الحكومة خلال فترة ما قبل شغور منصب الرئاسة، حيث حمّل عون ميقاتي كامل المسئولية في عرقلة تشكيل الحكومة بسبب عدم "رغبته" في تشكيلها وعدم "حماسه" للاستمرار على رأسها. كما رفض عون أن يُسمح لهذه الحكومة منقوصة الصلاحيات والتي لم تحصل على ثقة البرلمان بممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية حال شغور المنصب[4].
وكان عون يستهدف من هذا الخطاب أن يتم تشكيل حكومة أخرى برئيس حكومة آخر في آخر 48 ساعة من عهده وهو أمر شبه مستحيل خاصة مع تجاهل رئيس مجلس النواب لهذا المطلب وعدم دعوته لانعقاد المجلس لهذا الغرض.
في المقابل، لم يتأخر ميقاتي في إرسال خطاب إلى مجلس النواب يرد فيه على مزاعم عون، إذ تعهد بأن الحكومة التي يرأسها ستتابع مهامها في تصريف الأعمال وفق ما يقتضيه الدستور ولوائح تنظيم عمل مجلس الوزراء، معتبراً أن توقيع عون لمرسوم استقالة الحكومة لا يحمل أي صفة دستورية وهو إعلاني وليس إنشائي لكون الحكومة مستقيلة بالفعل منذ انتخاب مجلس نواب جديد ولا تباشر إلا تصريف الأعمال.
ورفض ميقاتي محاولات شل المؤسسات والتحلل من المسئوليات الدستورية وما يعتريه ذلك من خطر إسقاط النظام أو وضع البلاد على طريق المجهول. كما اختتم ميقاتي خطابه بوضع حكومته تحت تصرف مجلس النواب مؤكداً أنها تباشر مهامها ما لم يرى مجلس النواب خلافاً لذلك[5]. وفي تصريحات إعلامية لاحقة، أعلن ميقاتي أنه سيدعو مجلس الوزراء للانعقاد متى وجد ضرورة لذلك لاتخاذ قرارات هامة تمس حياة اللبنانيين سواء في شأن الاقتصاد أو الصحة أو التربية والتعليم ولن يستسلم لشل حركة البلاد.
فيما لوح فريق عون بأنه في حالة دعوة مجلس الوزراء للانعقاد فإن الوزراء التابعين للتيار الوطني الحر، وربما أيضا يؤازرهم وزراء حزب الله، سيمتنعون عن تلبية الدعوة أو ربما يستقيلون مما يسقط الحكومة بالكلية ويفقدها الشرعية والميثاقية.
يذكر أن الأسبوع الأخير من ولاية عون قد شهد خلافاً شديداً بين نجيب ميقاتي من جهة وبين ميشال عون وجبران باسيل من جهة أخرى، لرغبة الأخيرين في تمرير بعض الإجراءات والشروط التي يجب أن يلتزم بها ميقاتي كي يوافق الرئيس عون على تشكيل حكومة جديدة. إذ كان الهدف تشكيل حكومة جديدة أو إضافة 6 وزراء جدد إلى الحكومة الحالية ومثولها لنيل الثقة أمام البرلمان، ولكن اشترط فريق عون أن يكون الوزراء الجدد من الحزبيين المقربين للتيار الوطني الحر كي تكون بصمة فريق الرئيس واضحة على هذه الحكومة الجديدة.
من جهة ثانية، حدد باسيل عدة شروط لتمرير موافقة الرئيس على الحكومة الجديدة منها تعيين وزراء حزبيين وتعهد ميقاتي بإقالة حاكم مصرف لبنان وترقية ضباط جيش محسوبين على عون فضلاً عن إقرار مجموعة من التعيينات الإدارية لمجموعة من المحسوبين على فريق عون. كما تضمنت الشروط أيضاً توقيع ميقاتي ووزير الداخلية على مرسوم بمنح الجنسية البنانية لعدد كبير من العرب والأجانب دون إجراء التدقيق اللازم لهذه الأسماء.
غير أن ميقاتي رفض الموافقة على هذه الشروط مؤثراً الانتظار حتى انتهاء العهد الرئاسي الحالي لحين تبين كيفية رسم ميزان القوى الجديد بعد غياب عون من المشهد. وكان من شأن تنفيذ هذه الشروط أن يستمر إرث عون في مختلف مرافق الدولة سواء الجيش أو الإدارة بما يجعل للتيار الوطني الحر مراكز قوى كامنة داخل الدولة بعد رحيل عون من الرئاسة[6]. ولعل هاجس استمرار قوة عون في الدولة بعد رحيله من الرئاسة مازال مسيطراً على التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، حيث لا يمتلك تيار عون سوى 20 نائباً مضافاً إليهم نواب حزب الله، ثم نواب حركة أمل متى قرر نبيه بري مؤازرة باسيل.
ولكن العلاقة بين الرجلين ليست في أحسن أحوالها، خاصة بعد رفض عون لدعوة نبيه بري للحوار حول اسم الرئيس القادم معتبراً أن بري ليس من صلاحياته توجيه هكذا دعوة، بما قد يشير إلى إمكانية كسر بعض التحالفات القائمة وبناء تحالفات أخرى من أجل العبور بلبنان من أزمته الحالية.
عوامل وسيناريوهات الخروج من الأزمة
لا يمكن التكهن بدقة بمآل الأزمة اللبنانية الحالية، فبعد أن كانت الأزمة اقتصادية/مالية، مالبثت أن تحولت إلى أزمة سياسية بفشل مجلس النواب أربعة مرات في انتخاب رئيس جديد ومن قبلها الفشل في تشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات مجلس النواب في مايو 2022. ثم أخيراً تحولت الأزمة إلى أزمة دستورية بعد خلو منصب الرئيس وعدم الإجماع على نقل صلاحياته لحكومة تصريف الأعمال القائمة. ومن ثم يمكن القول أن تطور الأحداث في لبنان يتوقف بشكل كبير على أكثر من عامل:
أولاً: عامل قوة التحالفات القائمة أو هشاشتها، فالخريطة الحالية للتحالفات أثمرت نوعاً من الشلل السياسي، وبالتالي فإن الانفراجة السياسية معقودة بالأساس على تغيير خريطة التحالفات، إما بكسر بعض حلقاتها أو تكوين حلقات جديدة. ومن ضمن الحلقات المرشحة للكسر التحالف بين حركة أمل والتيار الوطني الحر عبر الحليف المشترك حزب الله. فهذا التحالف القهري[7] الذي لا يريده الطرفان استمر منذ عام 2006 برعاية حزب الله من أجل تكوين جبهة داخلية تدعم المقاومة، وقد تجلى بشكل استثنائي خلال مرحلة التفاوض على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل عبر الوسيط الأمريكي وصولاً إلى التوقيع الفعلي للاتفاق في 27 أكتوبر الماضي.
ورغم ذلك فإن هذا التحالف لم ينعكس بشكل مثمر فيما يخص الأمور الداخلية، فالتيار الوطني الحر مناصر لإطلاق حرية القضاء في التحقيق في انفجار مرفأ بيروت ولكن حركة أمل بزعامة نبيه بري لا تشاطره الرأي خاصة أن أحد وزرائها السابقين تم استدعائه للتحقيق أكثر من مرة خلال العامين الماضيين. من جهة ثانية، يريد التيار الوطني الحر ترشيح رئيسه جبران باسيل للرئاسة ولكن نبيه بري يميل إلى ترشيح سليمان فرنجية، وبالتالي فالكتلة الصلبة المقربة من حزب الله التي اقترعت بأوراق بيضاء بمقدار 63 صوتاً في أول جولة ثم 55 صوتاً وبعدها 50 صوتاً في الجولات التالية ربما ستكون مرشحة للانقسام في أي جولة قادمة.
وهنا تكمن معضلة حزب الله في التوفيق بين حليفيه بري وباسيل، فالحزب يحتاج حركة أمل لتعزيز التحالف الشيعي-الشيعي وضمان احتكار التمثيل الشيعي كله لصالح المقاومة. ومن جهة ثانية هو يحتاج إلى ظهير مسيحي واسع كالتيار الوطني الحر لمواجهة أي مطالب في المرحلة القادمة بنزع سلاح حزب الله خاصة بعد اتمام اتفاق الحدود البحرية مع اسرائيل وإرساء قدر من الهدوء النسبي على الحدود الجنوبية وبالتالي انتفاء الحاجة لهذا السلاح خارج أطر الدولة اللبنانية.
من جهة ثانية، يبدو أن هناك تحالفات جديدة بصدد التكون داخل البرلمان، فخلال جولات التصويت الأربعة لانتخاب رئيس الجمهورية (29 سبتمبر-13 أكتوبر-20 أكتوبر-24 أكتوبر) والتي باءت جميعها بالفشل، بدا أن بعض الكتل تريد أن تميّز ثقلها التصويتي ثم ما لبثت أن انصهرت وتوسعت أو تقلصت. فالكتلة التي آزرت ميشال معوض بحوالي 36 صوتاً ما لبثت أن توسعت إلى 42 صوتاً ثم عادت للانكماش إلى 39 صوتاً. أما كتلة المقربين من حزب الله فاقترعت بأوراق بيضاء بحوالي 63 صوتاً ثم تقلصت إلى 55 وصولاً إلى 50 صوتاً.
وفي المقابل، تأرجحت اختيارات التغييريين وكتلة الاعتدال، ففي البداية انتخب التغييرون سليم إدة بحوالي 11 صوتاً واختار المعتدلون "لبنان" بعشرة أصوات. ثم في الجلسة التالية (وهي الجلسة الثالثة لأن الثانية لم ينعقد نصابها) تداخلت أصوات التغييريين مع أصوات المعتدلين للاقتراع لـ"لبنان الجديد" بحوالي 17 صوتاً بينما اختار آخرون التصويت لميشال معوض. فيما وصلت هذه الكتلة في الجولة الأخيرة إلى 13 صوتاً اختارت "لبنان الجديد" مع جنوح بعضها إلى اختيار عصام خليفة مرشحاً بحوالي 10 أصوات[8].
ويوحي ذلك بأن هاتين الكتلتين مرشحتان بقوة للانصهار أو على الأقل للاتفاق على بعض العناوين المشتركة وخاصة في انتخابات رئاسة الجمهورية، ومن ثم استقطاب بعض الأصوات من الكتل الأخرى وخاصة كتلة المقربين من حزب الله وكتلة المعارضة (السياديون). وإذا ما نجحت هاتان الكتلتان في ذلك فإن هذا كفيل بتغيير توازن القوى القائم حالياً بين الكتل وقد يسمح بعزل إحدى مكونات الكتل الأخرى التي كانت متماسكة فيما مضى.
وهنا تبرز إمكانية عقد بعض الصفقات المزدوجة مثل ترشيح سليمان فرنجية للرئاسة في مقابل مرشح تغييري لرئاسة الوزراء كنواف سلام، وأيضاً تم تداول اسم قائد الجيش للرئاسة إذا ما ساءت الأوضاع الأمنية للغاية، ولكن هذا يتطلب بالضرورة إجراء تعديل دستوري للسماح له بالترشح، وهذا إجراء يعارضه التغييريون بشدة، ولكنه قد يكون الملجأ الأخير للطبقة السياسية لإنقاذ مصيرها وإيضاً للافلات من خيار جبران باسيل الذي استعدى أغلب الطبقة السياسية ضده خلال سنوات رئاسة عون.
فيما يرى آخرون أن الاتجاه لاختيار مرشح رئاسي توافقي يقبل به حزب الله ولا يرفضه حزب القوات اللبنانية قد يكون هو الحل التوافقي الأمثل ومثل هذه الأسماء يمكن ترشيحها من كتلتي التغيير والاعتدال والبناء عليها ولكنها ستواجه بطبيعة الحال بمعارضة شديدة من التيار الوطني الحر الذي يتمسك برئيس له شعبية أو بالأحرى برئيس تابع له ينحصر في اسم جبران باسيل، وهو ما بدا مما تسرب من أخبار لقائه بالأمين العام لحزب الله حسن نصرالله الذي حاول إقناع باسيل بالتراجع لصالح فرنجية ولكن باسيل تمسك بترشحه، فيما تداول ميشال عون صراحةً خيار انتخاب باسيل لرفع العقوبات الأمريكية عنه بدلاً من انتظار رفع العقوبات عنه كي يتم انتخابه.
فيما يبقى احتمال تمديد الفراغ قائماً أيضاً- إذا لم تتدهور الأوضاع الأمنية بشكل ملحوظ-، فحزب الله يقع حالياً بين فكي مطرقة بين عدد من الحلفاء، سليمان فرنجية الذي وافق في عام 2016 على انتخاب عون بفرض أن تكون له فرصة حقيقية في انتخابات 2022، ومن جهة ثانية نبيه بري الذي لن يقبل بتكرار سيناريو التعامل الصعب مع التيار الوطني الحر طوال السنوات الست الماضية، وهو الذي توافق بشكل ملحوظ مع ميقاتي لتمرير الأيام الأخيرة من عهد عون دون تشكيل حكومة كي لا يضطر إلى التعامل مع "إرث" عون بعد رحيله من الرئاسة.
أما التيار الوطني الحر، فقد استعرض قوته الشعبية مع خروج رئيسه من قصر الرئاسة إلى محل إقامته الجديد في صحبة مظاهرات ومسيرات سيارة للتدليل على أن شعبية عون ستظل مستمرة رغم انتهاء ولايته الرئاسية. ومن ثم تم الإعلان عن جبران باسيل كمرشح رئاسي لأول مرة بشكل رسمي في نفس اليوم للاستفادة من استعراض القوة الشعبية تلك لصالح باسيل وتأطيره كوريث سياسي لعون.
ورغم أن العقوبات الأمريكية بحقه قد تحول فعلياً دون توليه الرئاسة في الوقت الحالي، فهو مستعد للتمادي في ممارسة التعطيل والإبقاء على الفراغ لحين رفع العقوبات ومن ثم الدفع بقوة لانتخابه، وهو في ذلك يعول على الحصول على الرئاسة كجائزة من الأمريكيين لجهوده في إنجاح اتفاق ترسيم الحدود مع اسرائيل، إذ ينسب لنفسه الفضل في النجاح بإدخال لبنان إلى مصاف الدول النفطية وفتح الطريق أمام عقود التنقيب.
ثانياً: عامل الاهتمام الإقليمي والدولي، إذ يعتبر العامل الخارجي في انتخاب الرئيس اللبناني حاسماً للغاية، فالرئيس لابد أن يحظى بدعم مباشر من الأمريكيين والفرنسيين وأيضاً الدول العربية وخاصة السعودية ومصر بالإضافة إلى موافقة إيران بحكم الفيتو الذي يضعه حزب الله بحزم ضد أي شخصية لا تتماشى مع خطه السياسي.
ولكن هذا الأمر متوقف بالأساس على مدى توافر الاهتمام الدولي بتنفيذ صفقة متكاملة فيما يخص الشأن اللبناني، فالأمر ليس فقط اختيار اسم مرشح وطرحه للانتخاب في مجلس النواب، بل يرتبط أيضاً بجملة من الملفات الأخرى التي لابد من حسمها مع اسم المرشح، ومنها مثلاً اسم رئيس الحكومة وتفاصيل خطة التعافي الاقتصادي وما يتخللها من قوانين لإصلاح خلل الموازنة وخلل النظام المصرفي فضلاً عن خطط إصلاح مرافق الطاقة والبنية التحتية.
ومؤخراً بعد إبرام اتفاق الحدود البحرية مع إسرائيل، فإن إدارة الثروة النفطية تصبح هي الأخرى على جدول المساومات التي لابد أن تشملها الصفقة. ومن ثم فإن إجراء حوار عميق بين الفرقاء اللبنانيين حول هذه الملفات لابد أن يكون برعاية قوة إقليمية أو دولية كي تجبر كل الأطراف على الاجتماع والتوافق، نظراً لأن الدعوات المحلية للحوار والتي وجهها ميشال عون في بداية العام أو تلك التي وجهها نبيه بري للكتل المختلفة قبل أيام للتوافق على اسم رئيس، لم تلق آذاناً صاغية من بقية الفرقاء.
يتم تداول فكرة المؤتمر التأسيسي حول لبنان منذ عدة شهور وكانت حينها محاولة لتفادي سيناريو الفراغ الراهن[9]، ولكن اشتعال الملفات الدولية الأخرى كالحرب الأوكرانية وتعثر الاقتصاد الأوروبي وارتفاع أسعار الطاقة العالمية وانتخابات التجديد النصفي للكونجرس ثم اندلاع الاحتجاجات الإيرانية، قد أخّر تركيز الاهتمام الدولي والإقليمي على لبنان.
ولكن مع ذلك تبقى بعض هذه الأفكار قائمة، إذ روج البعض لاهتمام فرنسي خاص بعقد مؤتمر تأسيسي للبنان برعاية فرنسية مباشرة أو سعودية مشتركة من أجل التوافق بين الكتل البرلمانية المختلفة على جملة من الملفات وأهمها أسماء شاغلي المناصب العليا كالرئيس ورئيس الحكومة وحاكم مصرف لبنان، فضلاً عن حزمة القوانين الإصلاحية التي لا يمكن بدونها تسليم لبنان قروض صندوق النقد الدولي وحزمة المساعدات الخليجية الموعودة.
وهنا يتنازع هذا المؤتمر ثلاثة اتجاهات بالأساس: الأول تدعمه السعودية وتحاول استقطاب الدعم له بين الكتل البرلمانية القريبة منها وخاصة كتلة القوات اللبنانية وكتلة الاعتدال ويتضمن تأكيداً على مبادىء اتفاق الطائف وتمديد تقاسم السلطة بالشكل المكرس حالياً.
أما الاتجاه الآخر فيحركه بالأساس التيار الوطني الحر ويحاول تكريسه عبر الفرنسيين ويدفع باتجاه مراجعة اتفاق الطائف والاتجاه لتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية وتقليص صلاحيات مجلس الوزراء كما كان الوضع قبل إنهاء الحرب الأهلية، وهو احتمال ضئيل ليس من المتوقع أن يحظى بدعم كبير بين رعاة لبنان الإقليميين والدوليين.
أما الاتجاه الثالث فيسعى بالأساس إلى تقليص مظاهر النظام الطائفي وتوسيع بعض مظاهر الدولة المدنية وهو اتجاه تسعى له كتلة التغييريين وقد تتلاقى بشأنه أيضاً مع كتلة الاعتدال ومن خلفها السعودية إذا ما اتخذ شكل تفعيل البنود التي لم تفعل من اتفاق الطائف مثل إنشاء هيئة للبحث في إنهاء الطائفية السياسية. وهنا قد يتلاقى الاتجاهان الأول والثالث بشأن المؤتمر التأسيسي المحتمل للإبقاء على الطائف من باب تنفيذ بنوده التي لم تنفذ وإصلاح النظام اللبناني بشكل تدريجي توافقي بدلاً من إصلاحه بشكل راديكالي صادم.
ثالثاً: عامل التدهور أو الاستقرار الأمني، فمن المتوقع أن يقدم مصرف لبنان على تبني سعر موحد للصرف من أجل إنهاء فوضى أسعار الصرف المختلفة، ومن شأن ذلك أن يكرس فكرة تحميل اللبنانين من صغار المودعين لخسائر النظام المصرفي، وهي خطوة قد تؤدي إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية وعودة الغاضبين إلى الشوارع مع مطلب إسقاط النخبة السياسية والاقتصادية والإصلاح الجذري للنظام اللبناني. وفي ظل خلو منصب الرئاسة ومحدودية صلاحيات الحكومة القائمة يصبح الوضع ضبابياً مما يعني أن الأمور قد تصبح مرشحة للتصعيد في الشارع وعودة الروح إلى الانتفاضة الشعبية لعام 2019.
في سياق هذا المشهد، يكتسب النواب التغييريون سلطة استثنائية ربما قد تفوق حجمهم داخل البرلمان الذي لا يزيد عن 10% ويصبح له قدرة أكبر على التفاوض مع الكتل الممثلة للطبقة السياسية التقليدية بما يعدل من بعض قواعد وملامح النظام القائم. ولكن من جهة أخرى، إذا تطور الوضع الأمني لجهة اشتباكات وصدامات ذات طابع طائفي وليس ذات طابع احتجاجي مدني، فهنا سيكون للطبقة السياسية التقليدية ذات التمثيل الطائفي قدرة أكبر على السيطرة على المشهد ومن ثم إملاء شروطها على طريقة واتجاه الخروج من الأزمة وربما تغيير شكل الحكم.
وهنا يعود بنا الطرح إما بالاتجاه لمؤتمر تأسيسي على شاكلة اتفاق الدوحة لعام 2008 يعني بتحديد اسم الرئيس ورئيس الحكومة وحاكم مصرف لبنان وربما بعض القوانين المحورية أو الاتجاه لاتفاق تأسيسي يشبه الطائف أو يعدل بعض بنوده أو يفعل بعض البنود الي كانت مهملة كما سبق أن وضحنا.
والخلاصة، أنه ورغم تعدد العوامل التي تؤثر في طرق الخروج من الأزمة، فإن أهم عامل فيهم هو عامل الاستقرار أو التدهور الأمني ومدى صمود الوضع الداخلي رغم التدهور المرتقب في الأوضاع الاقتصادية بتحريك السعر الرسمي للعملة اللبنانية إلى جانب ضبابية الوضع السياسي الحالي. وتدهور الوضع الأمني من شأنه أن يسرع باتخاذ الاجراءات اللازمة لإنقاذ لبنان ويسلط الاهتمام الدولي عليه ويستنفر كل القوى الداعمة سواء على المستوى الاقليمي والدولي.
ولكن في المقابل، فإن إبقاء الوضع الأمني تحت السيطرة يعني إمكانية تمديد الفراغ القائم لحين الاتفاق بين الفرقاء السياسيين على مخرج مناسب للأزمة بانتخاب رئيس وتشكيل حكومة. وفي هذا الإطار يختلف أثر التدهور الأمني على مجمل النفوذ التي تتمتع به القوى السياسية المختلفة، فالاشتباكات الطائفية قد تعلي من نفوذ القوى الطائفية، والاحتجاجات الشعبية قد تعلي من نفوذ قوى التغيير والمعتدلين. بينما أي تدهور في الوضع الأمني الحدودي أو أي تهديد من جانب حكومة إسرائيل الجديدة لحُجية اتفاق ترسيم الحدود، فإن هذا من شأنه أن يرفع من حظوظ حزب الله في التأثير على الاتجاه الذي سيسلكه حل الأزمة ومن ثم سيدفعه إلى تحصين وضعه الداخلي بتعزيز تحالفاته وإرضاء حلفائه وإقصاء خصومه ومن ثم التأكيد على خيارات حليفه الأساسي- التيار الوطني الحر- والذي ستكون حينها حظوظه أكبر في الوصول للرئاسة. بينما إذا كان الوضع الأمني مستقراً حدودياً وداخلياً، وحزب الله لا يشعر بالتهديد الوشيك، حينها سيكون أكثر مرونة للاستماع لكل الأطراف وإفساح المجال لخيارات كل الحلفاء والقبول ببعض الحلول التي قد لا تتطابق بالضرورة مع خطه السياسي ولكنها ليست على النقيض منه.
بعبارة أخرى، إن قبول حزب الله بمرشحين من المعارضة أو السياديين ربما قد يكون مستحيلاً ولكن قبوله بتقاسم المرشحين من التغييرين أو المعتدلين سواء في الرئاسة أو رئاسة الحكومة قد يكون ممكناً بشرط الإبقاء على الوضع الأمني هادئاً وعدم شعوره بالتهديد المباشر على نفوذه المحلي والإقليمي.
[2] الدستور اللبناني (1926) المعدل بموجب اتفاق الطائف في عام 1990، المادة 62، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/8SqI1
[4] جريدة النهار، "عون يوجه كتاباً إلى مجلس النواب بعد توقيع مرسوم قبول الاستقالة: لنزع التكليف عن الحكومة"، 30-10-2022، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/Eb4Iv
[5] جريدة النهار، "ميقاتي يرد على عون: الحكومة ستتابع تصريف الأعمال والتوقيع إعلاني يفتقر لأي قيمة دستورية"، 30-10-2022، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/I1VBB
[6] محمد شقير، "عون ينأى بنفسه عن مشاوارت تأليف الحكومة ووميقاتي لن يستسلم لشروط باسيل"، الشرق الأوسط، 21-10-2022، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/dANlV
[7] سابين عويس، "عون-بري والكيمياء المفقودة حتى آخر العهد"، جريدة النهار، 31-10-2022، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/kBGAK.
[8] هنادي السمرا، "الجلسة الرابعة لانتخاب رئيس الجمهورية بلا رئيس"، جريدة اللواء، 25-10-2022، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/iPWnT
[9] محمد شقير، "تعذر تشكيل الحكومة يستنفر المجتمع الدولي لإنهاء الشغور الرئاسي"، الشرق الأوسط، 25-10-2022، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/b2DLX