على الرغم من تولي معارض تشادي عتيد الحكومة الانتقالية الجديدة في تشاد كنتيجة لحوار وطني ممتد، إلا أن ردود الفعل على تشكيل هذه الحكومة كانت رافضة لها إلى حد اندلاع مظاهرات أودت بحياة 50 شخصاً وإعلان حالة الطواريء طبقاً لتقديرات حكومية، بينما يتضاعف هذا العدد عند الأطراف التشادية المعارضة.
وتبعاً لتقديرات متعددة، فإن تشكيل الحكومة التشادية قد يكون فصلاً من مشاهد الأزمة التشادية الممتدة وليس مقدمة لاستقرار سياسي، وذلك لأسباب متعلقة بمعطيات المعادلة الداخلية والإقليمية، بينما ينعكس التنافس الدولي في منطقة الساحل الإفريقي على المشهد التشادي ليكون أحد أسباب عدم استقراره أيضاً.
اتجاهات المعادلة الداخلية
لم ينجح الحوار الوطني التشادي في كل من الدوحة وانجمينا على مدى ستة أشهر تقريباً في بلورة مؤشرات للاستقرار السياسي في تشاد، وذلك على الرغم من المجهود الكبير الذي بذلته فرنسا والاتحاد الأفريقي، حيث تمت هندسة الحوار ليكون على مرحلتين: الأولى في الدوحة لتهيئة البيئة السياسية لضمان نجاح الحوار، والثانية في انجمينا بتشاد، إذ دعيت إلى محطة الدوحة 52 حركة، أهمها على الإطلاق حركة "فاكت" (الوفاق من أجل التغيير)، فضلاً عن 200 حزب سياسي وتجمع مدني من الداخل والشتات، بعدد يصل إلى 300 شخص، كما تم تعيين الرئيس التشادي الأسبق جوكوني وداي على رأس اللجنة المعنية بالاتصال بالحركات العسكرية.
مخرجات مؤتمر الدوحة لم ترتفع لمستوى الآمال المعلقة عليه، إذ لم تشارك حركة "فاكت" الرئيسية في التوقيع على الاتفاق، لكن بنوده كانت إلى حد بعيد ممهدة لأجواء مؤتمر انجمينا، حيث تبلورت نقاط الاتفاق في وقف الأعمال العدائية بصورة تامة ونهائية، وذلك بالتزام الأطراف الموقعة بعدم استهداف بعضها في الداخل أو الخارج.
وفيما يخص الترتيبات الأمنية، تم الاتفاق على أن تكون على مرحلتين، وتتعهد فيها الحركات المسلحة بنزع سلاحها مقابل عمليات مرتبة من الدمج أو التسريح للعناصر المقاتلة، وأن يتعهد المجلس العسكري التشادي بضمان أمن هذه العناصر وضمان حرية تنقلاتهم، وكذلك حرية تكوين الأحزاب السياسية.
وطبقاً لاتفاق الدوحة، فإن بنود مؤتمر انجمينا للحوار الوطني تضمن 20 بنداً، أبرزها الإصلاح الجذري للجيش، ومراجعة ميثاق الفترة الانتقالية، مع عدم جواز ترشح أعضاء الأجهزة الانتقالية في أول انتخابات، حيث يتم تتويج هذه الإجراءات بتشكيل حكومة مصالحة وطنية بعد اختتام مؤتمر انجمينا.
وتبلورت آليات المتابعة لاتفاق الدوحة في تشكيل لجنة من تسعة موزعين على طرفي النزاع، إضافة إلى ثلاثة جهات دولية للمتابعة والمراقبة والإشراف على الترتيبات الأمنية.
وقد تضمن الاتفاق آليات معقولة لفض النزاعات الداخلية على المستوى الإقليمي والدولي، وعلى الرغم من ذلك، فإن 19 حركة رفضت التوقيع، وفي مقدمتها حركة "فاكت" كبرى الحركات المتمردة، بسبب فقدان الثقة في المجلس العسكري، والمراوغة من جانبه في تنفيذ ثلاث نقاط هي: عدم جواز ترشح الفواعل السياسية خلال الفترة الانتقالية في الانتخابات اللاحقة لها، وكذلك إلغاء لجنة تنظيم الحوار الوطني المتضمنة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، فضلاً عن التوزيع المتساوي للمندوبين الممثلين لأطراف الحوار.
عدم ترشح محمد إدريس ديبي للانتخابات بعد الفترة الانتقالية هدف لم تستطع الحصول عليه المعارضة التشادية ولا الحركات العسكرية في محطة حوار انجمينا الذي امتد لمدة شهر وانتهى مؤخراً، وذلك على الرغم من تقديم المعارضة العديد من التنازلات السياسية منها مثلاً عدم مساءلة ديبي الابن عن الانقلاب العسكري الذي قام به بعد مقتل والده أو فتح ملفات فترة حكم والده، وذلك مع تكريمه بشكل لائق يضمن له مكانة اجتماعية مرموقة.
وفي هذا السياق، لا يبدو أن مطالب المعارضة بـ"تغيير" الجيش التشادي وضمان تأسيس جيش قومي، كانت مقبولة نظراً لأنها تسعى لأن يكون الجيش تعبيراً صحيحاً عن الوزن النسبي لكل المكونات القبلية والاجتماعية التشادية من دون سيادة لقبيلة الزغاوة المسيطرة حالياً، وهو الأمر الذي لا يتحقق سلمياً غالباً في الدول الأفريقية نظراً للحجم الكبير للمصالح المفقودة ولعل إثيوبيا نموذج إضافي لهذه الحالة.
طبيعة التفاعلات الإقليمية
يحظى نظام حكم أسرة ديبي بدعم فرنسي كبير إلى درجة قبول انقلاب الابن محمد إدريس ديبي العسكري في إبريل 2021 بعد مقتل والده، بينما تم رفض قبول انقلاب مالي في مفارقة مشهودة عن طبيعة المحددات الفرنسية المعمول بها في منطقة دول الساحل، ومدى ارتباطها بخطاب باريس المعلن بشأن رفض الانقلابات العسكرية ودعم النظم الديمقراطية.
ويعود السبب الرئيسي لدعم أسرة ديبي فرنسياً إلى أنها تقوم بالتدخل بالوكالة في عدد من الصراعات الداخلية الأفريقية خصوصاً في أفريقيا الوسطى، حيث بدأت أدوارها العسكرية هناك عام 1996، ولم تنقطع، بعد أن ساندت الرئيس بويزيزي للوصول إلى السلطة عام 2003، ثم ناصرت معارضيه عام 2013.
كان لتشاد أيضاً حضور عسكري في أزمة الصراع على السلطة في ساحل العاج عام 2011 بين الحسن وتارا وغريمه، وكذلك لتشاد حضور في أزمتى ليبيا والسودان حالياً على المستويين السياسي والعسكري، إذ تملك علاقات مميزة بالجماعات القبلية المتداخلة مع تشاد في الجنوب الليبي والغرب السوداني، ولعل ذلك ما جعل الاتهامات حاضرة لها في السودان على خلفية ما تم تداوله من دعم تشادي للمحاولة الانقلابية ضد البشير التي شنت من دارفور عام 2008، ودحرت في مايو من العام نفسه على أبواب أم درمان، كما تكثر التكهنات حالياً حول طبيعة علاقاتها بقادة القبائل الدارفورية خصوصاً خلال مطلع 2019 بعد الإطاحة بالبشير.
وإلى جانب هذا الحضور السياسي لتشاد في الإقليم، فإن هناك حضوراً عسكرياً للجيش التشادي يسجل من أفريقيا الوسطى وحتى مالي، وهذا الحضور يأتي تحت عنوان مكافحة الإرهاب، حيث يتم اتهام تشاد أحياناً بشن حروب بالوكالة لصالح فرنسا، ويذكر في هذا السياق أن الانقلاب الفرنسي على الرئيس بوزيزي في إفريقيا الوسطى جاء بعد استعانة الأخير بشركات جنوب أفريقية في مجالات التنقيب عن الموارد الطبيعية خصوصاً النفط.
ونظراً للقدرات العسكرية لتشاد غير المتكررة في المنطقة، حيث تملك قوات تناهز الخمسين ألف مقاتل حالياً، فإنها تشارك في تحالفات عسكرية إقليمية على مستويين: الأول القوة المشتركة المشكلة عام 2015 مع الدول الثلاث الأخرى المطلة على البحيرة (نيجيريا، والكاميرون، والنيجر)، والثاني ضمن تحالف دول الساحل الخمس ضد الجهاديين الذين يستهدفون مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتعتبر بناءً على ذلك حليفاً مهماً لعملية برخان الفرنسية في المنطقة، حيث نشط الجيش التشادي منذ 2015 لمقاتلة حركة بوكو حرام التي وسعت أنشطتها حتى بحيرة تشاد على الحدود مع النيجير والكاميرون، وتم دعم القوات التشادية في مثلث بوركينا فاسو والنيجر ومالي بحوالي 500 عنصر عسكري إضافي في 2017 بعد تفاهم تشادي-فرنسي في قمة "بو" بفرنسا. كما تشارك في قوة الدول الخمس لمنطقة الساحل مع بوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا، بينما انسحبت منها مالي.
حالة التنافس الدولي على المشهد التشادي
تملك تشاد أهمية خاصة للاستراتيجية الفرنسية في الساحل الأفريقي، حيث تعد انجمينا مقر القيادة المركزية لعمليات فرنسا في الساحل لمكافحة الإرهاب، وهو ما يفسر الدعم الواسع الذي يحظى به النظام القائم في انجمينا، سواء في فترة إدريس ديبي الأب، أو حتى ما قبله، حيث تدخلت باريس في عدة مرات لإنقاذ نظام إدريس ديبي من السقوط، وهو الأمر الذي يستمر حالياً مع ديبي الابن، ولذلك اتجهت باريس لدعم نقل السلطة للابن بشكل غير دستوري.
في هذا السياق، ربما يكون من اللافت للانتباه المظاهرات التي شهدتها العاصمة التشادية انجمينا وعدة مدن أخرى في 14 مايو 2022، التي تم فيها اتهام باريس بدعم المجلس العسكري الانتقالي الحاكم، برئاسة محمد إدريس ديبي، وهي الاحتجاجات التي نظمتها تنسيقية منصة المجتمع المدني "واكيت تاما"، فضلاً عن مشاركة عدد من النقابات والجمعيات والأحزاب المعارضة وكذا طلاب المدارس والجامعات. وكان من اللافت أن المتظاهرين رفعوا العلم الروسي، وحرقوا العلم الفرنسي، وهو المشهد الذي تكرر في احتجاجات الشهر الماضي رغم الإعلان عن تشكيل الحكومة الانتقالية.
سيناريوهات محتملة
تحت مظلة تصاعد الاحتقان السياسي في تشاد، فإنها لا تملك فرصة كبيرة لتحقيق الاستقرار في الفترة المقبلة طبقاً للمعطيات التالية:
1- إن إستمرار الحركات المسلحة في مناوئة ديبي الابن سيناريو قائم، حيث تتوافر لها إمكانية التمويل والتسليح عبر علاقات وميادين مفتوحة في كل من السودان وليبيا، فضلاً عما قد يشكله أي دعم روسي من إمكانية في تحقيق هذه الحركات لهدفها الرئيسي وهو إزاحة ديبي الابن.
2- يشكل عامل الفقر محركاً رئيسياً للاحتجاجات، ووقوداً لا ينضب للحركات المسلحة، حيث تتمتع تشاد بثروات نفطية كبيرة تصل إلى حوالي 50 مليون برميل نفط سنوياً، غير أن الأوضاع المعيشية تعاني تدهوراً حاداً، حيث بلغ نسبة المواطنين تحت مستوى خط الفقر نحو 86% من إجمالي عدد السكان المقدرين بـ18 مليون نسمة، منهم حوالي 63% يعانون الفقر المدقع، وهو ما يعزز معتقدات الشباب التشادي بأن فقر الشعب هو بسبب استغلال فرنسا لثرواتهم.
3- يلعب انقسام النخبة الحاكمة بين كل من باريس وموسكو دوراً في عدم الاستقرار التشادي، حيث تواجه فرنسا موقفاً صعباً في تشاد، ذلك أن تيمان إرديمي، ابن عم رئيس المجلس العسكري الحاكم، محمد إدريس، طلب دعماً مباشراً من قبل عناصر شركة فاجنر الروسية في فبراير الماضي، وذلك للتخلص من نظام ديبي الابن حليف فرنسا.
إجمالاً، يرتبط عدم الاستقرار السياسي التشادي بذات الحالة في دول جوارها المباشر، وهى ليبيا والسودان، فيما يشكل جوارها من الغرب تحدياً رئيسياً، وذلك مع اتساع حجم وتأثير التنظيمات الجهادية المسلحة الممارسة للإرهاب في هذه المنطقة، وهو الأمر الذي يفرض ضغوطاً كبيرة على حالة الاستقرار الإقليمي.