بعد سنوات من انتشار مقولة (صنع فى العالم) التى تحث الدول على الانخراط فى سلاسل الإمداد العالمية دون حاجة لسياسات صناعية وطنية، عاد من جديد الاهتمام بتجارب الدول التنموية وسياسات التعميق الصناعى، تلك الخبرات التى نجحت قبل عدة عقود فى النهوض بالدول التى طبقتها بنجاح إلى مصاف الدول المتقدمة، وانتشال الملايين من مواطنيها من حالة العوز والفقر، من خلال سياسات صناعية نشطة لعبت الدولة فيها دورا أساسيا.
وعلى خلاف ما تقدمه تلك التجارب من خبرات، فقد ساد المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية، خطاب يتجاهل قضية التصنيع، ويقدم نصائح للدول النامية وروشتات إصلاحية تركز على تحسين بيئة الأعمال، ورفع الحواجز والقيود الجمركية، وفتح الأسواق المحلية أمام التجارة الدولية والاستثمار الأجنبى، فى سبيل الاندماج فى سلاسل القيمة العالمية، بدلا من الاعتماد على السياسة الصناعية.
ومع الأزمات المتعاقبة، وتعرض سلاسل الإمداد للانقطاع والاضطراب سواء فى ظل جائحة كورونا أو الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وكذلك فى ظل عجز نمط النشاط الاقتصادى الذى لا يولى أهمية للسياسة الصناعية عن إحداث نقلة تنموية مستدامة فى أغلب الدول، أصبح الحديث عن أهمية السياسة الصناعية، ضرورة أملتها الظروف وأيدتها الشواهد.
ومع التجدد المستحق للاهتمام بقضايا الصناعة والإنتاج فى مصر، فهناك العديد من الملاحظات المهمة التى تحملها لنا الدروس التى ما زالت صالحة من تجارب الدولة التنموية، لعل أهمها أولوية الصناعة كقطاع حاكم فى التنمية. فأى من هذه التجارب، ومن حذا حذوها فى مراحل لاحقة، لم يفرط فى الاهتمام بالأنشطة المالية والخدمية، لكن يحذر منظرو الدولة التنموية، من اعتماد الدول النامية على ما يسمى اقتصاد النار (فاير) أو الاقتصاد القائم على أنشطة المال والتأمين وبعض القطاعات الأخرى، بسبب السيولة والتقلبات التى قد تتعرض لها الدول المعتمدة بشكل أساسى على تلك الأنشطة، فضلا عن التحذير من تدفقات الأموال الساخنة وتأثيراتها السلبية.
ومن الدروس المهمة كذلك، أن الاعتماد الحصرى على وصايا المؤسسات المالية الدولية لم يكن السياسة المتبعة فى معظم الدول الحديثة التصنيع، التى لجأ معظمها إلى تصميم سياساته التنموية باستقلال عن المؤسسات الدولية، أو باتباع انتقائى لها، أو حتى بالمخالفة الصريحة لنصائحها فى بعض الأمثلة.
اللافت كذلك فى تجارب الدول التنموية وتجارب التصنيع المتأخر، أن معظم هذه الدول خاصة فى موجاتها الأولى، لم تعتمد على الاستثمار الأجنبى المباشر كوسيلة رئيسية لتمويل التنمية، بل كان ترحيبها به مشروطا بمقدار ما يقدمه من قيمة مضافة للاقتصاد الوطنى من زاوية توطين التكنولوجيا أو توفير الوظائف أو غيرها من شروط التعاقدات التى عرفت بها تلك الفترة، فقد كانت سياسات تشجيع القطاع الخاص الصناعى فى جزء معتبر منها تقوم على توفير التمويل عادة عن طريق البنوك المملوكة للدولة آنذاك.
كذلك لم تلجأ الدولة فى معظم تلك التجارب إلى الملكية المباشرة، ولا إلى الإدارة المباشرة للمشروعات الصناعية، وإنما اتخذت علاقتها مع القطاع الخاص شكلا عرف بالمبادلة، حيث كانت الدولة توفر الحوافز فى صناعات بعينها، فيما سمى استراتيجية اختيار الرابحين. وقامت هذه الصيغة على توفير الدولة لحزم وأدوات من الدعم للقطاع الخاص للانخراط فى الصناعات المستهدفة والواعدة، بينما التزم القطاع الخاص بالإنجاز التنموى متمثلا فى توطين التكنولوجيا، والتصدير، وخلق الوظائف. فلم يكن دعم القطاع الخاص الصناعى مطلقا أو غير مشروط، وإنما قام على مبادلة الحوافز بالإنجاز. كما تولى الإشراف على تلك العلاقة التفاعلية بين الدولة والقطاع الخاص الصناعى، بيروقراطية تنموية قامت بدور المايسترو الذى ينسق التفاعل بين أطراف السياسة الصناعية وفاعليها المختلفين.
وأخيرا، لم تتعامل أى من هذه التجارب، مع قضايا التعليم والبحث العلمى، والإنفاق على الابتكار والتطوير باعتبارها ترفا أو قضايا آجلة يمكن الاهتمام به فى مراحل لاحقة حين تتوافر لها الموارد، بل كان الاستثمار فى التعليم والبحث والتطوير فى قلب سياساتها التنموية، وإحدى أدواتها المتكاملة.
هناك بطبيعة الحال الكثير من التفاصيل والاختلافات التى لا يتسع لها المقال، فما اتبعته كوريا الجنوبية وتايوان فى السبعينيات يختلف عما طبقته تايلاند فى أواخر الثمانينيات، وفيتنام فى التسعينيات، ولكن من المهم إعادة الاعتبار إلى الإرث الذى تقدمه تجارب الدول الحديثة التصنيع والتنمية اللاحقة، والاهتمام بالقراءة الصحيحة لما يناسبنا من دروسها وعناصر نجاحها.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 2 نوفمبر 2022.