د. طه عبد العليم

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

مقدمة

لن تصبح مصر دولة متقدمة بمجرد تحقيق معدل مرتفع للنمو الاقتصادى؛ وإنما يتحقق تقدم مصر فقط بتحولها إلى دولة صناعية. باختصار، لأن التقدم منذ فجر الثورة الصناعية وحتى عصر العولمة الاقتصادية لم يتحقق في أى مكان بغير التصنيع؛ رافعة النمو المتواصل للإنتاجية والتصدير والتشغيل. ولهذا فإن الدول الصناعية هى التي تصنف- دون غيرها- باعتبارها الدول المتقدمة، بل وتعد الدول الصناعية - الجديدة والصاعدة- أكثر تقدما بالمقارنة مع الدول الغنية المصدرة للبترول، مهما تفوق معدل نمو وتضاعف الناتج القومى وارتفع دخل الفرد في الأخيرة.

والدول الصناعية الجديدة والصاعدة- خاصة الآسيوية- هى التي تمكنت دون غيرها من أن تفرض نفسها شريكا مؤثرا في إدارة العولمة، أى في مواجهة انفراد الدول الصناعية المتقدمة بالقوة الاقتصادية والصناعية التكنولوجية والشاملة التي تمكنها من الانفراد بإدارة شئون العالم الاقتصادية وغير الاقتصادية في اتجاهات تتوافق مع مصالحها وقيمها! وبفضل التصنيع بمفهومه الواسع- أى تعميق وارتقاء الصناعة التحويلية ونشر ثمار التحديث الصناعى التكنولوجى في بقية قطاعات الاقتصاد- لا تُعد الدول الصناعية المصدر الأهم فقط للسلع المصنعة، وبالذات منتجاتها ومكوناتها ذات المحتوى المعرفى الأرقى والقيمة المضافة الأعلى، بل صارت المصدر الرئيسى للمعرفة والتكنولوجيا والخدمات والغذاء والاستثمار!

وينبغى أن تكون مواجهة تحدى التصنيع على رأس جدول أعمال مصر والمصريين في الحوار الوطنى الذي دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى حتى يكتمل مشروعه لنهضة مصر والمصريين، وهو التحدى الذي مثلت مواجهته أهم روافع زيادة الإنتاج في مشروعات النهضة بمصر الحديثة بقيادة محمد على وطلعت حرب وجمال عبد الناصر.

ومجابهة تحدى تصنيع مصر، بتكاليفه الاجتماعية- في مصر كما في كل مكان أيضا- يتطلب بناء توافق وطنى للأمة. ولن تنجح الأمة في مجابهة هذا التحدى، بل ولن تنطلق هذه المجابهة- في مصر كما في كل مكان- بغير إرادة سياسية. وهذه الإرادة السياسية تنطلق من دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تنمية وتعميق الصناعة المصرية لمضاعفة إنتاجها وتعزيز الاعتماد على الذات وتقليص الاعتماد على الخارج.

ويتوجب أن ترتكز الارادة السياسية إلى "وثيقة تصنيع مصر"؛ التي أقترح أن تصدر عن أطراف الحوار الوطنى، الذي دعا إليه الرئيس عبد الفتاح السيسى. وأتصور أنه ينبغى أن تسترشد وثيقة تصنيع مصر بخبرة مصر والعالم، وأن تنطلق من الإنجازات الكبرى للبنية الأساسية الإنتاجية ومن حالة الاقتصاد والصناعة في مصر، وأن تحدد غاية وخيارات استراتيجية التصنيع في سياق ثورة المعرفة ومعطى العولمة، وأن تعلن أهداف ووسائل السياسة الصناعية التي تنطلق من الواقع وتتطلع إلى المنشود.

وفى ورقة السياسات هذه أوجز عددا من قضايا تصنيع مصر، الذي ينبغى أن يكون موضوعا رئيسيا على رأس جدول أعمال القضايا الاقتصادية للحوار الوطنى؛ إذا أردنا أن تشغل مصر مكانة مرموقة مستحقة، وأن تتوافر للمصريين حياة كريمة لائقة.

(1)

مفهوم ومؤشرات التصنيع

لا أقصد بتصنيع مصر مجرد تأسيس للمصانع أو نمو للصناعة أو حتى تنمية صناعية، وإنما أقصد تحول مصر من حال إلى حال؛ بتصفية التخلف الموروث وتحقيق التقدم الشامل واقتلاع أسباب الفقر. ويتطلب هذا إسراع الخطى نحو اللحاق بأرقى إنجازات البلدان الصناعية- الصاعدة ثم المتقدمة- بمنح الأسبقية للاستثمار في الصناعة التحويلية، شاملة الصناعات راقية ومتوسطة ومنخفضة التكنولوجيا، والمصانع الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، في سياق يعمق تكاملها الانتاجى. والشرط الأول والحاسم لهذا التحول التاريخى، الذي تستحقه وتستطيعه مصر أم الدنيا؛ لتغدو "قد الدنيا" هو تبنى القيادة السياسية مواجهة تحدى التصنيع بعد ثورة البنية الأساسية الانتاجية؛ باعتباره هدفاً موجِها ومحدِدا لإستراتيجية التنمية ولسياسة صناعية تعززها سياسات الاستثمار والتعليم والتدريب والبحث والتطوير والابتكار وغيرها من السياسات المحفِزة.

وأسجل أولا: أنه ينبغى استيعاب حتمية تصنيع مصر بالتعلم الإيجابى من خبرة الدول الصناعية المتقدمة والجديدة والصاعدة، وتعيين المقصود بتصنيع مصر في ضوء وثائق منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) والفكر الاقتصادى العالمى، وتحديد أهم مؤشرات تأخر تصنيع مصر: مساهمة القيمة المضافة للصناعة التحويلية إلى الناتج المحلى الإجمالى، ونصيب الصناعة التحويلية من الاستثمار القومى، ونصيب صادرات السلع المصنعة في إجمالى الصادرات، ونصيب المنتجات المصنعه ذات القيمة المضافة الأعلى والمحتوى التكنولوجى والمعرفى الأرقى خاصة وزن صناعة الآلات والمعدات في الإنتاج الصناعى وفى الصادرات الصناعية، ونسبة تغطية الصادرات للواردات من السلع المصنعة.

ثانيا: أن الارتقاء بالتصنيع يتطلب الجمع بين المشروعات الصناعية من شتى الأحجام -كبيرة ومتوسطة وصغيرة، والإرتقاء بالصناعة التحويلية في شتى الفروع الصناعية- راقية ومتوسطة ومنخفضة التقنية، وإدراك أن مفهوم التصنيع مرادف للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومحفز للتنمية الشاملة والمستدامة في قطاعات الزراعة والرى والبترول والغاز الطبيعى والكهرباء، وفى قطاعات النقل والتجارة والمال وغيرها من الخدمات الإنتاجية، وفى قطاعات التعليم والصحة والإسكان وغيرها من قطاعات التنمية البشرية الاجتماعية. ولأن عوامل النجاح في مواجهة تحديات التنمية الاقتصادية واحدة فإن الدول التي تنفرد بالحصة الأهم من إنتاج وصادرات العالم من السلع المصنعة، هى ذاتها التي تشغل المراكز الأولى في إنتاج وصادرات العالم من السلع الزراعية والخدمات.

ثالثا: أن القراءة الموضوعية النقدية للتاريخ تثبت أن مصر قادرة على مجابهة تحدى التصنيع كما تكشف إنجازاته ورغم إخفاقاته خلال القرنين الماضيين، وتدحض زيف الوهم أو الزعم بأن مصر عاجزة عن خوض ماراثون التصنيع واللحاق بنادى الدول الصناعية المتقدمة الغنية، وتكشف تهافت دعاوى الفكر الاقتصادى الاستعمارى والمصرى المناوئ لتصنيع مصر، وتبين أن وأد مشروع تصنيع مصر في سياق سياسة الانفتاح الاقتصادى- الريعى والمنفلت والجشع- لم يثمر سوى تعميق الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك وبين الاستثمار والإدخار وبين الصادرات والواردات، وتكريس اختلالات موازنة الدولة والميزان التجارى.

رابعا: أن الارتقاء بتصنيع مصر ينطلق من إنجازات ثورة النقل وثورة الكهرباء وغيرهما من جوانب ثورة البنية الأساسية في عهد السيسى، ويقتضى تعيين خيارات استراتيجية التصنيع ومرتكزات السياسة الصناعية، واقتراح أهم مشروعات وفروع الصناعة التحويلية التي ينبغى أن تكون لها الأسبقية في التحفيز والاستثمار. وتكشف قصص نجاح التصنيع في العالم ضرورات تكامل استراتيجية التصنيع والسياسة الصناعية وسياسة الاستثمار مع غيرها من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة سياسات التعليم والتدريب المهنى، وسياسات البحث والتطوير والابتكار، والسياسات التجارية والمالية والنقدية وغيرها من السياسات الاقتصادية.

كما تكشف قصص نجاح التصنيع في العالم أن إنجازات التصنيع لا تتحقق بغير ضمان أسبقية الاستثمار في الصناعة التحويلية - لتسريع تنميتها وتعميقها وارتقائها- بتوجيه نسبة متزايدة من الاستثمار القومى العام والخاص للاستثمار في الصناعة التحويلية، وتوفير حوافز جاذبة للاستثمار الأجنبى المباشر في الصناعة التحويلية. ولا غنى عن أسبقية هذا الاستثمار الصناعى وفق خطة وبرامج ومشروعات التصنيع في إطار خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة؛ إذا أردنا إعادة بناء مصر على صورة البلدان الصناعية المتقدمة والغنية، التي تبهرنا انجازاتها.

خامسا: أن تعظيم فرص وتقليص قيود عملية تصنيع مصر- في ظل المعطيات والمتغيرات العالمية والإقليمية والوطنية - يتطلب الاعتماد على الذات بالأساس، بالارتكاز إلى تكامل أدوار قطاع الأعمال الصناعى الوطنى: الخاص والعام والعسكرى. وعلينا استيعاب الفرص، التي ترتبت على التحول من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلام بفضل انتصارنا في حرب أكتوبر المجيدة، وتدفع نحو التحول من اقتصاد أوامر مركزى إلى اقتصاد سوق اجتماعى منضبط، ونحو التحول من اقتصاد حمائى إلى اقتصاد تنافسى في عصر العولمة واقتصاد المعرفة.

وفى سياق الالتزام بالدور الواجب للدولة في تسريع عملية التصنيع بمفهومها الشامل، فإن عليها أن تضع سياسة صناعية وطنية تتحدد أهدافها وأدواتها في إطار استراتيجية لتصنيع مصر، وأن تعزز دور قطاع الأعمال الصناعى العام- المدنى والحربى- بأدوارهما التي لا بديل لها ولا غنى عنها، وفى ذات الوقت فإنه ينبغى أن تلتزم الرأسمالية المصرية بتعزيز مسئولياتها التنموية والاجتماعية والوطنية للنهوض بدورها في بناء دولة المواطنة. ويبقى التصنيع أهم روافع بناء دولة المواطنة، دولة مواطنيها ذات السيادة، دولة كل مواطنيها دون تمييز أو تهميش، التي توجب التوازن بين السعى المشروع للمستثمرين إلى الربح الخاص، من جهة، والحق المشروع للمجتمع في احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، من جهة ثانية، والإلتزام الواجب بتعزيز السيادة الاقتصادية الوطنية والأمن القومى بمفهومه الشامل، من جهة ثالثة. 

سادسا: أنه توجد فرص سانحة رغم قيود ظاهرة تبين أنه يمكن تسريع تنمية وتعميق الصناعة التحويلية المصرية بالاستفادة من الاستثمار الأجنبى المباشر- تمويلا وتقنية وخبرة- بتيسير الإجراءات وتطوير التشريعات وبناء المؤسسات وتحسين مناخ الاستثمار، بما في ذلك الارتباط الضرورى والآمن بسلاسل الإنتاج العالمية في إطار استراتيجية التصنيع الوطنية وبما لا يهدد الأمن الاقتصادى القومى والسيادة الاقتصادية الوطنية. كما توجد فرص سانحة رغم قيود ظاهرة لتعزيز علاقات التعاون والشراكة المصرية مع دول أوروبا وأمريكا وروسيا والصين وكوريا الجنوبية وغيرها من البلدان المتقدمة، وبناء التكامل الاقتصادى والصناعى العربى، وتعزيز التعاون والشراكة مع الدول الإفريقية.

سابعا: أن مكاسب تصنيع مصر واعدة من منظور: تعظيم مكاسب الاستثمار غير المسبوق في الارتقاء بالبنية الأساسية، وتسريع التنمية الإنتاجية والشاملة والمستدامة، وتصفية الاختلالات الاقتصادية والمالية والنقدية المزمنة، واستهداف تحقيق غايات التقدم الشامل الذي لا يهدر أيا من قيمه الإنسانية، وحماية دولة المواطنة - دولة كل مواطنيها، وتفعيل جميع حقوق المواطنة أى حقوق الإنسان في وطنه، وتعزيز الأمن القومى الشامل لمصر، وتوفير الموارد اللازمة لتعزيز الأمن الإنسانى للمصريين، وترسيخ ركائز السيادة الاقتصادية الوطنية، وبناء التكافؤ في الاعتماد العالمى المتبادل في عصر المعرفة ومُعطى العولمة.

ثامنا، أن سبق مصر على طريق التصنيع، مقارنة بجميع البلدان النامية وبعض البلدان المتقدمة، حقيقة تثبتها إنجازات محاولاتها الطموح للتصنيع طوال القرنين الماضيين. فبإنجازاتها- ورغم إخفاقاتها- أثبتت مصر مجددا ما كشفت عنه طوال تاريخها الألفى: أنه كلما بدت وكأنها لن تقوم لها قائمة، تنهض عفية جبارة قادرة على الريادة! وتتأكد حتمية إعادة الاعتبار للمشروع الوطنى بتصنيع مصر إذا سلمنا بحقائق قيود المياه والأرض على فرص التنمية الزراعية الأفقية واستحالة رفع إنتاجية الزراعة المصرية بغير مدخلات التقدم الصناعى التكنولوجى، وإذا أدركنا حدود ومخاطر الاعتماد على مصادر الدخل الريعية المتقلبة مثل العوائد البترولية أو إيراد قناة السويس أو الدخل السياحى أو تحويلات المهاجرين...إلخ.

وأخيرا إذا انطلقنا من بديهية أن تعظيم القيمة المضافة في شتى قطاعات الاقتصاد مرهون بما يتيحه التصنيع من إنتاج محلى لكل مستلزماتها من المدخلات المصنعة والتكنولوجية.. إلخ، ولن يتحقق تقدم مصر بجسارة على طريق التصنيع بغير أن تثق- قيادة وأمة- في قدرتها على أن تصبح دولة صناعية، وأن تدرك أن محاولاتها للتصنيع على مدى القرنين الماضيين، رغم ما تعرضت له من إخفاقات، تؤكد ولا تنفى هذه القدرة (انظر مقالي في مواجهة تحدي تصنيع مصر، جريدة الأهرام، 10 أغسطس 2008).

(2)

ثورة البنية الأساسية رافعة لتصنيع مصر

شهدت مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسى استثمارات واسعة في فروع الصناعة التحويلية لإنتاج: مواد البناء، والأسمدة ووسائل الرى والزراعة، والأدوية والمستلزمات الصيدلانية، وتكرير البترول والبتروكيمايات، وصناعات حلج القطن والغزل والنسيج، والسكر وغيرها. لكن اختار الرئيس عبد الفتاح السيسى في مشروعه للنهضة الطريق الأصعب لبناء مصر المستقبل، الذي يؤتى ثماره في تسريع التصنيع وتحقيق الرفاهية على مدى زمنى أطول، وهو الارتقاء بالبنية الأساسية الإنتاجية ومضاعفة المعمور بتوسيع العمران في صحراء مصر.

وأسجل، أولا: أن مصر قد شهدت قفزة تاريخية غير مسبوقة في الاستثمار العام الجديد لتنفيذ المشروعات الكبرى لثورة البنية الأساسية؛ رغم تكاليف محاربة الإرهاب وجائحة كورونا والأزمة الأوكرانية. وكان الإنفاق العام الهائل، الذي قدر بنحو (400 – 500) مليار دولار، سبيلا لا غنى لتقليص البطالة بتوفير فرص عمل للملايين من الباحثين عن فرص عمل، والوافدين الجدد إلى سوق العمل، من جهة، ولتجاوز الركود الاقتصادى الموروث قبل ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وهو الركود الذي تفاقم في أعقاب الثورة المصرية كما هو الحال في أعقاب كل الثورات عبر الزمان والمكان. ويجد هذا الانفاق سنده الفكرى في النظرية الكينزية، التي تنطلق من التسليم باخفاقات آليات السوق عن مواجهة أزمات البطالة والركود والإفقار، كما يتوافق مع نظريات التصنيع، التي تنطلق من أن الدفعة القوية للتصنيع قد تبدأ من الاستثمار في الطاقة والنقل وغيرها من مشروعات البنية الأساسية لتوفير الطلب على منتجات الصناعة التحويلية وبناء روافع الارتقاء بالتصنيع.

ثانيا: أن مشروعات الارتقاء بالبنية الأساسية الإنتاجية، ومشروعات مضاعفة المعمور ببناء المدن الجديدة في الصحراء- وخاصة مشروعات قطاعى النقل والكهرباء- تمثل روافع لا غنى عنها لتسريع عملية تصنيع مصر، بجانب مساهمتها الهامة في تطوير الصناعات التحويلية المنتجة للمهمات والمستلزمات والمعدات اللازمة لتنفيذ وتشغيل مشروعات البنية الأساسية. وقد ارتبطت ثورة الكهرباء الأولى في سياق مشروع ثورة 23 يوليو لنهضة مصر ببناء أهم المحطات الكهرومائية في مصر لتوفير الطاقة اللازمة لتأسيس الصناعات التحويلية الثقيلة كثيفة الاستهلاك للطاقة الكهربائية. ومع ثورة الكهرباء الثانية في سياق مشروع السيسي لنهضة مصر توفرت الطاقة الكهربائية اللازمة لتلبية احتياجات المشروعات الجارى والمستهدف تنفيذها في ميدان التنمية، وتمثل ثورة الكهرباء دون جدال رافعة لا غنى عنها لتوفير الطاقة اللازمة لتسريع وتعميق التصنيع.

ثالثا: أن ثورة الكهرباء قد ساهمت بذاتها في تنمية وتعميق الصناعة التحويلية؛ حيث جسد التصنيع المحلى لمعدات ومهمات ومستلزمات انتاج ونقل وتوزيع الكهرباء أحد أهم روافع تنمية وتعميق الصناعة التحويلية. وعلى سبيل المثال، فقد تم تأسيس عديد من المصانع التي تقوم بتصـنيع نسب مهمة من مكونــات محطات التوليد، ومحطات المحولات، والخطوط والكابلات، وغيرها من مكونات مهمات الشبكة الكهربائية. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة التصنيع المحلىبلغت100% لمهمات شبكات نقل وتوزيع الكهرباء حتى جهد 66 ك.ف، و80% لمهمات شبكات نقل الكهرباء حتى جهد 220 ك.ف، و42 % لمعدات محطات توليد الكهرباء. وبجانب تعميق التصنيع المحلى لمهمات محطات محولات القدرة والقياس والعازلات والمكثفات ومانعات الصواعق وأجهزة الوقاية والتحكم والاتصالات حتى جهد 220 ك.ف، تم إنشاء أول مصنع من نوعه في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا لإنتاج مهمات محطات محولات القوى حتى جهد 500 ك.ف. أضف إلى ما سبق تصنيع لمبات الإضاءة عالية الكفاءة، وتصنيع الاحتياجات من العدادات الإلكترونية مسبقة الدفع. والأهم، أن هذا التصنيع المحلى لمعدات ومهمات ومستلزمات انتاج ونقل وتوزيع الكهرباء يتم طبقاً للمواصفات العالمية وبأعلى مستوى من الجودة، وأثبت كفاءة يعتمد عليها سواء بتشغيلها في مصر أو بتصديرها إلى الخارج. ووفرت هذه الصناعات فرصاً لتشغيل أكثر من 250 ألف عامل، وأسهمت في توطين التكنولوجيا وزيادة نسبة المشاركة المحلية في تصميم وتصنيع محطات القوى الكهربية وتنمية تكنولوجيات الطاقة المتجددة وتطبيقاتها.

رابعا: أن ثورة النقل تمثل بدورها رافعة لتسريع وتعميق الصناعة التحويلية المصرية، على الطريق الشاق-ولكن الواعد- نحو الارتقاء المنشود بتصنيع مصر إلى مصاف الدول الصناعية الغنية. أن ثورة النقل تضمنت انجازات كبرى، أهمها، وأولها، مضاعفة وتطوير شبكة محاور الطرق المرصوفة الرئيسية، التي تربط أربعة أركان مصر وربوعها، وتوفر مرتكزات تصنيع واستزراع الصحراء لمضاعفة المعمور على حساب المهجور، وبناء المحاور والكبارى التي تحقق الربط الضرورى بين ضفاف نهر النيل وفروعه في الصعيد والدلتا. كما ربطت شبكة محاور الطرق المرصوفة العاصمة الادارية الجديدة والقاهرة عاصمة مصر العريقة وكل محافظات مصر والمدن الجديدة والوادي والدلتا، واقيمت شبكة محاور طرق مرصوفة تيسر النقل داخل القاهرة والاسكندرية والجيزة وداخل وبين شتى المحافظات. وثانيها، تحديث ومضاعفة قدرات كامل منظومة السكك الحديدية وإدخال خطوط الجر الكهربائي الأحدث اليها، بجانب توسيع شبكة مترو الأنفاق بالقاهرة، وإقامة مترو الأنفاق بالإسكندرية. وثالثها، شق قناة السويس الجديدة، التي ضاعفت قدرتها وعززت تنافسيتها، والارتقاء بالبنية الأساسية للمنطقة الاقتصادية الصناعية في اقليم قناة السويس بما يضاعف العائد الاقتصادي للاستثمار الواجب في موقع مصر. ورابعها، حفر أنفاق قناة السويس، التي تنهى عزلة سيناء وتربط أرجاءها بشبكة طرق تعزز تنميتها، وتحديث وتوسيع الموانئ البحرية المصرية لمضاعفة قدراتها اللوجستية.

وخامسا: أن ثورة النقل قد ساهمت بذاتها في تنمية وتعميق الصناعة التحويلية، حيث ارتبطت بتنمية صناعات قائمة وتوطين صناعات جديدة لمعدات ومستلزمات السكك الحديدية؛ شاملة قطارات الديزل والجر الكهربائي ومترو الأنفاق؛ وتوسيع فرص تعميق الصناعة التحويلية والارتقاء بها إلى طوابق أعلى للتصنيع؛ تتسم بارتفاع المحتوى التكنولوجي والقيمة المضافة، من جهة. وجسد الجديد في هذا الفرع المهم من الصناعات الثقيلة الفرص الواسعة لتحقيق التكامل الضروري بين أدوار الشركات الوطنية في قطاع الأعمال الصناعى العام، وقطاع الأعمال الصناعى الخاص، وقطاع الأعمال الصناعي العسكري، وفرص التعاون مع الشركات الصناعية العالمية ـــ الأوروبية والأمريكية والروسية والكورية والصينية ـــ في تصنيع وتوريد وصيانة وتجديد القطارات والمهمات، من جهة ثانية.

سادسا: أن العصر الجديد للسكك الحديدية- وهو من أهم مكونات مشروع السيسى لنهضة مصر- يستهدف إنشاء خطوط جديدة وتجديد خطوط قائمة؛ تمثل أكثر من 34% من الشبكة الرئيسية القائمة، وهو ما يوسع سوق عمالة ومدخلات ومخرجات الصناعة وغيرها من قطاعات الاقتصاد؛ مع مضاعفة حجم كفاءة وسرعة وسلامة نقل الركاب والبضائع عبر شتى ربوع مصر. وفى سياق حماية وتنمية الأصول الصناعية المملوكة للدولة جرت إعادة الاعتبار لمصنع «سيماف» لتصنيع مهمات السكك الحديدية، الذي يعد إحدى قلاع الصناعة المصرية الثقيلة الرائدة في إنتاج عربات ومستلزمات السكك الحديدية، وبلغت نسبة مساهمته80% في إنتاج عربات نقل البضائع، و65% في إنتاج عربات الركاب. وتعاقدت هيئة السكك الحديدية مع مصنع سيماف على توريد ألف عربة بضائع من أنواع مختلفة، منها 300 عربة كشف قلاب وهى نوعية جديدة تدخل الخدمة لأول مرة بسكك حديد مصر. كما تم التعاقد مع مصنع «سيماف» على تصنيع 200 عربة نوم بأحدث المواصفات العالمية، وبنسبة تصنيع محلي لا تقل عن 40% بالتعاون مع الصين، وتصنيع 212 عربة توفر 25 قطارا مكيفا.

سابعا: أنه في سياق حماية الأصول العامة والثروة الوطنية جرى منح أهمية قصوى لأعمال الصيانة والإحلال والتجديد لأصول السكك الحديدية. كما تقرر إنشاء مصنع جديد لإنتاج مركبات السكك الحديدية ومستلزماتها في مجمع صناعى بشرق بورسعيد، وذلك بالتعاون مع شركات عالمية تملك التكنولوجيا الأحدث لتصنيع القطارات، ويبدأ الإنتاج بتصنيع 150 عربة سكك حديد سنويا، ويصل خلال 6 سنوات إلى ألف عربة سنويا. والمخطط أن تصل نسبة المكون المحلى في المصنع إلى 25% خلال عامين من بداية إنتاج المصنع، و50% خلال 4 أعوام، و75% خلال 6 أعوام. ويضم مشروع الشركة الوطنية المصرية لصناعات السكك الحديدية (نيرك) المنفذة والمالكة لأسهم المشروع مصانع للصناعات المغذية، وتسهم هذه الصناعة كثيفة العمالة وكثيفة التكنولوجيا في ارتقاء التصنيع وتوسيع فرص العمل مرتفع الانتاجية وزيادة الدخل القومى وتقليص الواردات، وزيادة التصدير.

(3)

مؤشرات التصنيع المقارنة بين مصر وكوريا الجنوبية

تظهر عواقب وأد مشروع تصنيع مصر من المقارنة بين مؤشرات التصنيع في كل من مصر وكوريا الجنوبية. فقد بدأ البلدان عملية التصنيع مع مطلع الستينيات من نقاط انطلاق متقاربة في مستوى التنمية وعدد السكان، وفى مطلع السبعينيات صنفت التقارير الدولية البلدين بين خمسة بلدان نامية اعتبرت الأكثر تصنيعا في الجنوب! وفى السبعينيات بينما تسارع ارتقاء تصنيع كوريا وكان رافعة إنجازها التنموى الكبير، أضحى تراجع تصنيع مصر سببا لمأزقها التنموى؛ وهو ما تكشفه الهوة بين مؤشرات التصنيع في البلدين!

وأسجل أولا: أن القيمة المضافة للصناعة التحويلية في مصر قد تفوقت على مقابلها الكورى في بداية الستينيات، وتساوت القيمتان تقريبا في منتصف الستينيات. ورغم مأزق تمويل التصنيع وأعباء الدفاع فإن القيمة المضافة للصناعة التحويلية في مصر استمرت تمثل نحو 78 % من مقابلها الكورى في 1970، ومع وأد مشروع تصنيع مصر وتبنى سياسة الانفتاح الاستهلاكى المنفلت، الذي استبعد التصنيع من قاموسه، تدهورت إلى 8 % فقط من مقابلها الكورى في 1990! (أنظر مقالى: دروس نجاح التصنيع الكورى، جريدة الأهرام 30 ديسمبر 2007).

وفى عام 2011وفقا لتقرير اليونيدو عن التنمية الصناعية في العالم لعام 2013، بلغ نصيب الفرد من القيمة المضافة للصناعة التحويلية في كوريا أكثر من 25 مثل نظيره في مصر، ووصل نصيب الفرد من صادرات الصناعة التحويلية في كوريا أكثر من 46 مثل نظيره في مصر، وبلغت حصة كوريا من الإجمالى العالمى للقيمة المضافة للصناعة التحويلية نحو 15 مرة حصة مصر، ووصلت حصة كوريا من الإجمالى العالمى لصادرات الصناعة نحو 27 مرة حصة مصر..إلخ.أنظر مقالى: تحدى التصنيع في عهد الرئيس الجديد، جريدة الأهرام 22 يونيو 2014).

ثانيا: أن مؤشرات تصنيع مصر بالمقارنة مع تصنيع دول ذات مستوى دخل متوسط مقارب لمصر، أو تمثل منافسا إقليميا أو عالميا للاقتصاد المصرى قد نشرها تقرير مهم أصدرته وزارة التجارة والصناعة في 2006، يبين مدى اخفاق ويبرز حجم تحدى تصنيع مصر بعد نحو 25 عاما من عهد مبارك. ويسجل التقرير أن مؤشر كثافة التصنيع، الذي بلغ 81٪ في ماليزيا، لم يتعد 48٪ في مصر، وهو ما يقل عن نظيره في سبع من دول المقارنة. وشغلت مصر المركز قبل الأخير وفق مؤشر تنافسية الأداء الصناعى، الذي يدمج مؤشرات نصيب الفرد من القيمة المضافة الصناعية ونصيب الفرد من الصادرات الصناعية وكثافة التصنيع وجودة صادرات السلع المصنعة. ومن مؤشرات القدرة التنافسية للصناعة المصرية يسجل التقرير أن نسبة الصادرات الصناعية إلى القيمة المضافة الصناعية في مصر لم تتجاوز5%، وهى نسبة متواضعة وتقل بدرجة هائلة عن جميع دول المقارنة. ولم تتعد الصادرات المصرية راقية التكنولوجيا 0.5% من إجمالى صادراتنا من السلع المصنعة، وكانت الأدنى مقارنة بجميع دول المقارنة، حيث وصلت إلى 58٪ في ماليزيا، مثلا. وأما مؤشر التكنولوجيا، الذي يعبر عن مستوى الإبتكار وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فقد كان في مصر أقل من نظيره في ثمان من دول المقارنة.

ثالثا: أن تطور توزيع الاستثمار القومى الإجمالى- كما كشفته سلسلة بيانات أساسية نشرتها وزارة التنمية الاقتصادية عن خطط التنمية الخمسية خلال 25 عاما من عهد مبارك- يبين تواضع وتراجع معدلات الاستثمار في التصنيع. فقد تراجعت وبشكل متواصل نسبة الاستخدامات الاستثمارية المنفذة في الصناعة والتعدين (عدا البترول) من 23.6% في الخطة الأولى إلى 12.3% في الخطة الخامسة!! ووصل الاستثمار في البناء العقارى إلى 11.7% مقابل 10.7% للاستثمار الصناعى خلال الخطة الرابعة!! مع ملاحظة أن معدل الاستثمار القومى قد هبط وبشكل متواصل من 30.2% من إجمالى استخدامات الناتج القومى الإجمالى في عام1981/1982 إلى 15.8٪ في عام 2006/2007!! ومن منظور ارتقاء التصنيع- على أساس تعظيم المحتوى التكنولوجى الوطنى، ومن ثم القيمة المضافة للإنتاج الصناعى- يسجل تقرير التنمية البشرية في العالم 2007/2008 أن عدد العاملين في البحث والتطوير قد بلغ 493 لكل مليون نسمة في مصر خلال الفترة 1990- 2005، وهو ما زاد على نظيره في سبع من الدول التي اختارتها وزارة الصناعة والتجارة المصرية للمقارنة وكان القيد الأساسى على تعظيم عائد هذا التفوق المصرى يكمن في أن معدل الإنفاق على البحث والتطوير لم يتعد في مصر 0.2% من الناتج المحلى الإجمالى؛ وهو ما قل عن مثيله في جميع بلدان المقارنة باستثناء أندونيسيا خلال الفترة 2000- 2005؛ مع ملاحظة أن هذا المعدل في ذات الفترة بلغ 2.3٪ في العالم، و2.6٪ في كوريا، و4.5٪ في اسرائيل. وكان الحصاد منطقيا؛ إذ بينما لم يتعد عدد براءات الاختراع الممنوحة للمقيمين في مصر براءة واحدة لكل مليون نسمة، مقابل 48 براءة في اسرائيل!.

رابعا: أن تراجع تصنيع مصر كان نتيجة مريرة لوأده بقصد في سياق سياسة الانفتاح غير الانتاجى، واستمرار التصنيع فريضة غائبة عن جدول أعمال حكومات مصر المتعاقبة. وكان الإخفاق في مواجهة تحدى التصنيع حصاد وأد فرصه الواعدة؛ بعد التحول من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلام، والاستثمارات الواسعة في البنية الأساسية التي مكنت بناء المدن الصناعية الرأسمالية الجديدة في مدن أكتوبر والعاشر من رمضان وبرج العرب وغيرها، والاصلاح المالى والنقدى وتقليص عبء مديونيتها الخارجية وإلغاء الديون العسكرية الأمريكية عقب المشاركة في حرب تحرير الكويت، والتحول من اقتصاد الأوامر إلى اقتصاد السوق، والبناء غير المسبوق للمدارس بدعم خليجى عقب زلزال 1992، وغير ذلك مما دفع بالمنظمات الاقتصادية الدولية إلى تصنيف الاقتصاد المصرى باعتبارها واحدا من ستة اقتصادات صاعدة واعدة في عام 1996. وتمثلت الأسباب الأهم لوأد فرص التصنيع في غلبة لوبى المتربحين من الاستيراد على المستثمرين في الصناعة، واستمرار إضعاف القطاع العام الصناعى وفساد خصخصته، وتحول رواد التصنيع الرأسمالى من الاستثمار الصناعى إلى الاستثمار العقارى المضارِب، وصعود ثم رسوخ نظام الفساد المنظم والجشع المنفلت بتحالف السلطة والثروة؛ فأشعل ثورة 25 يناير 2011، التي اختطفتها الفاشية التكفيرية، فهدد وجود مصر ذاته- دولة ووطنا وأمة وهوية، حتى انفجرت ثورة 30 يونيو/ 3 يوليو، التي حملت وعدا جديدا بتصنيع مصر.

(4)

مؤشرات التصنيع والتنمية المقارنة بين مصر ودول مجموعة العشرين

من حق مصر أن تسعى إلى تحقيق الحُلم، المشروع والمُستَحق والمُستًطاع، بأن تعود إلى موقع الريادة في العالم، لكن هذا مشروط بمجابهة تحديات جِسام، في مقدمتها إدراك حجم تحدى تصنيع مصر؛ الذي تكشفه المؤشرات المقارنة للصناعة التحويلية. ويكشف التحليل المقارن التاريخى والدولى لهذه المؤشرات مدى وعواقب تراجع تصنيع مصر بعد خمسين عاما من تبنى سياسة الانفتاح الاقتصادى المناوئة للتصنيع، من جهة، وحجم وأبعاد تحدى الارتقاء بالتصنيع الذي تستحقه وتستطيعه مصر في سياق مشروع السيسى للنهضة، من جهة ثانية.

واستنادا إلى قاعدة بيانات البنك الدولى، أوجز هنا أهم مؤشرات تصنيع مصر بالمقارنة مع عشر دول، هى: كوريا الجنوبية والبرازيل والمكسيك والأرجنتين وإندونيسيا وتركيا والسعودية وجنوب إفريقيا، وهى من أعضاء مجموعة العشرين ذات الاقتصادات الأكبر في العالم، بالإضافة إلى ماليزيا وإسرائيل من خارج المجموعة. وأما مؤشرات التصنيع فإن هذه المقارنة تتناول: القيمة المضافة للصناعة التحويلية، ونصيب الفرد من القيمة المضافة للصناعة التحويلية، ونسبة القيمة المضافة للصناعات متوسطة وراقية التكنولوجيا إلى اجمالى القيمة المضافة للصناعة التحويلية، ومساهمة صادرات الصناعة التحويلية في إجمالى الصادرات السلعية، ونسبة الصادرات من السلع المصنعة متوسطة وراقية التكنولوجيا إلى صادرات الصناعة التحويلية، بجانب المؤشرات التي تبين أثر مستوى التصنيع على الناتج المحلى الإجمالى، ومستوى التنمية البشرية.

وأسجل، أولا: أن مصر قد شغلت المركز الـ 42 في ترتيب دول العالم حسب الناتج المحلى الإجمالى وفق بيانات صندوق النقد الدولى؛ وكان حجم ناتج الصناعة التحويلية سببا حاسما في هذا الترتيب. ففى 2019، لم تتعد القيمة المضافة للصناعة التحويلية في مصر نحو 48 مليار دولار، بينما بلغت نحو 417 مليار دولار في كوريا الجنوبية؛ أى نحو 9 مرات نظيرها في مصر. وبينما لم تتعد مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلى الإجمالى نحو16% في مصر، فقد مثلت نحو 25% في كوريا الجنوبية، 22% في ماليزيا،20% في اندونيسيا، 19% في تركيا. والنسبة المصرية لا تتناسب مع مستوى التصنيع في مصر، بل وتجسد ما تصفه منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية بالتراجع المبكر للتصنيع؛ بعواقبه السلبية على متطلبات التنمية الاقتصادية؛ باعتبارها ارتقاءً ببنية الاقتصاد نحو القطاعات والفروع الأعلى إنتاجية والأرقى تكنولوجيا وذات القيمة المضافة الأعلى، وهو ما يقتضيه ضمان أسبقية تسريع تنمية وتعميق الصناعة التحويلية!!

ثانيا: أن القيمة المضافة للصناعة التحويلية ومتوسط نصيب الفرد منها كان الأقل في مصر عن نظيره في جميع دول المقارنة. وبينما لم تتعد القيمة المضافة للصناعات متوسطة وراقية التكنولوجيا في مصر 21% من اجمالى القيمة المضافة للصناعة التحويلية في 2019، وفى المقابل بلغت هذه النسبة في ذات العام نحو 64% في كوريا الجنوبية، وكانت القيمة المضافة للصناعات متوسطة وراقية التكنولوجيا في مصر هى الأدنى مع بقية دول المقارنة.

ثالثا: أن صادرات مصر من منتجات الصناعة التحويلية قد مثلت نحو 48% من إجمالى الصادرات السلعية، وبلغت قيمتها نحو 13 مليار دولار في 2020، ويبين المؤشران ما يحمله تصنيع مصر من وعد بمضاعفة صادرات الصناعة التحويلية وتقليص العجز المزمن في الميزان التجارى. لكن ضخامة التحدى الذي يواجه مصر توضحه المؤشرات المناظرة في بلدان المقارنة؛ حيث مثلت قيمة صادرات كوريا الجنوبية من منتجات الصناعة التحويلية نحو 90% من إجمالى الصادرات السلعية وبلغت نحو 458 مليار دولار في ذات العام. وفى المكسيك مثلت نحو 79% وبلغت نحو 331 مليار دولار، وفى ماليزيا مثلت نحو 73% وبلغت نحو 171 مليار دولار، وفى اسرائيل مثلت نحو 92% وبلغت نحو 46 مليار دولار، وفى تركيا مثلت نحو 78 % وبلغت نحو 133 مليار دولار. وقد زادت قيمة صادرات بقية دول المقارنة من منتجات الصناعة التحويلية على نظيرتها المصرية؛ حتى حين قلت نسب مساهماتها- قليلا أو كثيرا- عن النسبة المصرية.

رابعا: أن تراجع تصنيع مصر قد انعكس سلبا على حجم الدخل المحلى الاجمالى لمصر، من جهة، وعلى مستوى التنمية البشرية للمصريين، من جهة ثانية. وهكذا، رغم إنجازات تنموية كبرى تحققت في عهد الرئيس السيسى، فإن الناتج المحلى الاجمالى في مصر رغم تضاعفه لم يتعد نحو365 مليار دولار في عام 2020، وكان يقل عن جميع دول المقارنة. فقد تجاوز الناتج المحلى الاجمالى التريليون دولار في كوريا الجنوبية (1638 مليار دولار)، البرازيل (1449 مليار دولار)، المكسيك (1058 مليار دولار)، إندونيسيا (1059 مليار دولار). وفى تركيا(720 مليار دولار)، والسعودية (703 مليارات دولار).

خامسا: أن مصر في عام 2019 تم تصنيفها وفقا للبرنامج الانمائى للأمم المتحدة ضمن مجموعة الدول ذات التنمية البشرية العالية، لكنها شغلت المركز الـ 116فى ترتيب دول العالم حسب مستوى التنمية البشرية. وفى المقابل وفى العام نفسه، تم تصنيف 6 من دول المقارنة ضمن مجموعة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة للغاية، وهى: إسرائيل (المركز19)، كوريا (23)، والسعودية (40)، الأرجنتين (46)، تركيا (54)، ماليزيا(62). وتم تصنيف 4 من دول المقارنة ضمن مجموعة الدول ذات التنمية البشرية العالية مثل مصر، وهى: المكسيك (المركز 74)، البرازيل (84)، إندونيسيا (107)، جنوب إفريقيا (114)؛ أى أن جميعها شغل مركزا أفضل مقارنة بمصر.

ورغم ما سجلته، فإن يقينى لا يتزعزع في قدرة مصر على خوض ماراثون الارتقاء بالتصنيع للحاق بمجموعة العشرين، وهو ما يستحق تناولا لاحقا.

(5)

مفهوم وضرورة تصنيع مصر في ضوء تقارير منظمة اليونيدو

يمثل التصنيع، أى تسريع تنمية وتعميق الصناعة التحويلية أهم رافعة للتنمية الاقتصادية بل وتجسد غاية هذه التنمية، لأن التصنيع سبيل مضاعفة الإنتاج وتعظيم الانتاجية ومضاعفة معدل النمو الاقتصادى، وهو رافعة توفير فرص عمل متزايدة ومستدامة وعالية الانتاجية والدخل وتقليص البطالة والفقر، وهذا ما تؤكده دراسات تجريبية موثوقة ومؤشرات دولية مقارنة نشرتها منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) في تقاريرها عن التنمية الصناعية في العالم.

وأسجل، أولا: أن تقارير اليونيدو تنطلق من أن مفهوم التنمية الاقتصادية يرتبط ارتباطاً وثيقا بتغيير هيكل الاقتصاد، أى الارتقاء بالتركيب القطاعى للناتج المحلى الإجمالى. وتوضح اليونيدو أن التنمية الاقتصادية في جوهرها هى عملية تغيير في هيكل الاقتصاد يترتب على التحول من الأنشطة منخفضة الإنتاجية ذات الفرص المحدودة لتعظيم القيمة المضافة، إلى الأنشطة المرتفعة الإنتاجية ذات الفرص الأكبر للابتكار وتسريع التغير التكنولوجى والإرتقاء بالمحتوى المعرفى للمنتجات. وترصد اليونيدو التغير في أوزان مساهمة قطاعات الاقتصاد في الناتج المحلى الإجمالى في نقاط زمنية مختلفة لبلدان مختلفة، وتخلص إلى أن التنمية الاقتصادية تقترن ببلوغ حصة الصناعة التحويلية في الناتج المحلى نحو ثلاثة أمثالها تقريبا قبل أن تبدأ في الانخفاض، بينما تتجه حصة الخدمات المتصلة بالتصنيع إلى الارتفاع.

ثانيا: أن تقارير اليونيدو تسجل أن التصنيع ينطوى على تحويل للموارد إلى الصناعة التحويلية، وهو ما يوصف بأنه تغيير هيكلى معزز للنمو. وتوضح اليونيدو أن ما يميز الصناعة التحويلية عن القطاعات الأخرى هو قدرتها على توليد عائدات متزايدة وإنتاجية أعلى؛ نتيجة للتحسينات في تقسيم العمل والتغير التكنولوجى ووفورات الحجم. وللتصنيع آثار رئيسية على باقى الاقتصاد؛ حيث يحفز زيادة الطلب على المواد الخام المنتجة في قطاعى الزراعة والتعدين، كما يحفز زيادة الطلب على الأعمال المصرفية والتأمين والاتصالات والتجارة والنقل والطاقة وغيرها من قطاعات الاقتصاد، وتولد الصناعة التحويلية مكاسب حاسمة للقدرة التنافسية في السوق الداحلية والعالمية، وهى مكاسب تنتشر إلى غيرها من القطاعات عبر دور الصناعة التحويلية في تطوير التكنولوجيا وخلق المهارات والتعلم.

ثالثا: أن تقارير اليونيدو تبرز مجموعة كبيرة من الدراسات التجريبية أثبتت الارتباط الإيجابى الوثيق بين النمو الاقتصادى والتغيير الهيكلى في الصناعة التحويلية. وتوضح اليونيدو أن مجموعات البلدان التي حققت أسرع نمو خلال الفترة 1970- 2007 هى تلك التي تحولت نحو التصنيع، بما في ذلك أول الاقتصادات الآسيوية الحديثة التصنيع في جنوب شرق آسيا والصين، وعلى النقيض وفى الفترة ذاتها فإن البلدان التي شهدت تراجعا مبكرا للتصنيع حققت نموا متواضعا جدا لنصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى، وهو ما أكدته دراسة استقصائية اقتصادية واجتماعية عالمية للأمم المتحدة صدرت عام 2006. وبين 13 اقتصادا واصلت النمو السريع جداً بمعدل 7٪ على الأقل لمدة 25 سنة بعد الحرب العالمية الثانية، شملت اقتصادات تفاوتت وبشدة من حيث مواردها الطبيعية وكثافتها السكانية، أظهرت الصناعة التحويلية النمو الأسرع في 8 اقتصادات، كما بين تقرير للبنك الدولى.

رابعا: تقارير اليونيدو تعلن أن فرص العمل لا تتساقط من السماء وإنما تنشأ عن التنمية الاقتصادية، وأن خلق فرص عمل متزايدة ومستدامة يتطلب تغيير هيكل الاقتصاد؛ أى تعزيز قدرة الاقتصاد على أن يولد وبشكل متواصل أنشطة جديدة سريعة النمو؛ تتميز بارتفاع الإنتاجية والقيمة المضافة والمحتوى المعرفى. وتوضح اليونيدو أن الصناعة التحويلية قدمت فرصا أوسع لتحقيق تراكم رأس المال والاستفادة من وفورات الحجم وإدخال التكنولوجيات الجديدة.

خامسا: أن تقارير اليونيدو تسجل أن الاستيعاب المباشر للعمالة في الصناعة التحويلية بلغ نحو 388 مليون فرصة عمل في جميع أنحاء العالم في عام 2009، مقارنة بنحو 211 مليون مشتغل فقط في عام 1970. وتضيف اليونيدو، أن عدد المشتغلين في الصناعة التحويلية بتعريفها الواسع- الشامل للخدمات المرتبطة بالتصنيع- قد زادت إلى 470 مليون مشتغل، أو نحو 16 في المائة من القوى العاملة في العالم في عام 2009، وأن الصناعة التحويلية والخدمات المرتبطة بها قد وفرت أكثر من نصف مليار فرصة عمل في عام 2013، وهى أرقام أعلى بكثير مما توقعه كثيرون. وتشير الأدلة إلى أن كل فرصة عمل يتم إيجادها في الصناعة التحويلية يتم إيجاد فرصتى عمل أو ثلاث فرص عمل خارجها. ولا يقتصر التصنيع على الاستيعاب الكبير للعمالة؛ وإنما أيضا يعزز نوعيتها وانتاجيتها ودخلها.

سادسا: أن تقارير اليونيدو تؤكد أن ارتقاء التصنيع يتطلب أن تضع الدولة وتنفذ سياسةً صناعيةً تحفز الاستثمار في الصناعة التحويلية، وتتصدى لإخفاقات السوق في تخصيص الموارد المتاحة، وتؤمن التوازن بين حافز الربح الفردى وضمان ربحية المجتمع. وتوضح اليونيدو أن دور الدولة هذا لم يغب في أى مرحلة من مراحل التنمية، وقد نهضت به باعتبارها: جهة صانعة للسياسات العامة ومُنَظِمة تضع التعريفات الجمركية وتوفر حوافز الاستثمار الصناعى؛ وجهة ممولة تؤثر على سوق الائتمان وتخصيص الموارد المالية العامة والخاصة للمشروعات الصناعية؛ وجهة مُنتِجة تشارك المؤسسات المملوكة لها في النشاط الاقتصادى والصناعى، وجهة مستهلكة تضمن سوقا للصناعات التحويلية الاستراتيجية من خلال المشتريات العامة. وقد نهضت الدولة في عهد السيسى بدور لا سابق له ولا غنى عنه بالاستثمار في الارتقاء بالبنية الأساسية الانتاجية اللازمة لانطلاق عملية التصنيع، فأثبتت قدرة مصر على مواجهة تحدى التصنيع.

(6)

ضرورة وسياسة تصنيع مصر في تقرير لجنة التجارة والصناعة عام 1917

أوضحت أن تقارير اليونيدو تسجل أن دور الدولة في التصنيع لم يغب في أى مرحلة من مراحل التنمية بوضع وتنفيذ سياسةً صناعيةً لمواجهة إخفاقات السوق في تخصيص الموارد، وأن دور الدولة قد تجسد في كونها صانعة للسياسات العامة ومُنَظِمة ومُموِلة ومُستهلِكة ومُنتِجة. وقد قامت الدولة في الارتقاء بتصنيع مصر إبان مشروعات النهضة الثلاثة الكبرى في تاريخها الحديث؛ بقيادة محمد على باشا في سياق بنائه للدولة الحديثة، وبقيادة طلعت حرب باشا في سياق ثورة 1919 الوطنية الديمقراطية، وبقيادة جمال عبد الناصر إبان صعود ثورة 1952 التحررية الاجتماعية.

وأسجل، أولا: أن الاستجابة لدعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى في مشروعه لنهضة مصر إلى تنمية وتعميق الصناعة التحويلية ينبغى أن تكون لها الأسبقية في سياسة الاستثمار وغيرها من السياسات العامة، ببساطة لأن الصناعة التحويلية تمثل رافعة تغيير هيكل الاقتصاد بمضاعفة الإنتاج والانتاجية، والقاطرة الأهم للتنمية الشاملة والمستدامة، وتعزيز الأمن القومى والإنسانى، وبناء الجمهورية الجديدة. ويتطلب تسريع تنمية وتعميق الصناعة التحويلية قرارا سياسيا تجسده وثيقة عن تصنيع مصر؛ تعلن الالتزام بإعطاء الأسبقية للاستثمار في الصناعة، وتبين غاية إستراتيجية التصنيع، وتحدد أهداف السياسة الصناعية، وتنطلق من تحديد فرص وقيود تصنيع مصر.

ثانيا: أن الواقع المتغير لا يسمح باستنساخ مشروع محمد على للتصنيع الحكومى شبه الاقطاعى، أو تجربة جمال عبد الناصر في التصنيع المستقل اشتراكى التوجه، أو مشروع بنك مصر للتصنيع الرأسمالى الوطنى بقيادة طلعت حرب. ورغم هذا، فإن الواقع المعاش محليا وعالميا يؤكد أن هناك الكثير الذي يمكن تعلمه من تقرير لجنة التجارة والصناعة الصادر في عام 1917، وهو التقرير الذي فرضته أزمة الحرب العالمية الأولى، ومثل نقطة انطلاق مشروع التصنيع الرأسمالى الوطنى. وقد بدأ التقرير بإبراز سبق الحضارة المصرية في ميلاد الصناعة في العالم، مشيرا إلى أن قدماء المصريين قد خلصوا إلى أسرار الصناعة وأحاطوا علما بمبادئها الكبيرة وأصولها، ورافضا الوهم الفاسد الذي يصور مصر في صورة بلد قُضى عليه بأن يظل على مدى الزمان ملجأ لشعب لا يحسن غير الفلاحة عملا ولا يعرف غير الزراعة مرتزقاً، وهو الوهم الذي صرف الأنظار عن التماس حل لمشكلتنا الاقتصادية في الصناعة. وشدد التقرير على حتمية الارتقاء بالصناعة التحويلية، وشخص نقاط ضعف وقوة الصناعة، وحدد فرص وقيود الارتقاء بالصناعة، وأبرز حتمية وضع سياسة صناعية، وعين المطلوب من الدولة لتسريع التصنيع، وأبرز دور الدولة في التصنيع كما تبين الخبرة العالمية. ويكتسب التقرير أهميته من أنه كان أساس التعديل اللاحق للسياسات الاقتصادية بما يتوافق مع احتياجات تصنيع مصر وإن تدريجيا جزئيا في سياق ما وفرته ثورة 1919 من زخم للنضال الوطنى المصرى من أجل الاستقلال السياسى والاقتصادى. ومن التقرير انطلق- وإن تطلع إلى تخطى سقفه- مشروع بنك مصر للتصنيع الرأسمالى الوطنى بقيادة طلعت حرب، عضو لجنة التجارة والصناعة التي ترأسها إسماعيل صدقى باشا.

ثالثا: أن قرار مجلس الوزراء في 8 مارس سنة 1916 بتشكيل اللجنة قد حدد أهم مهامها من منظور التصنيع في: الوقوف على مبلغ تأثير الحرب الحاضرة في صناعة البلاد وتجارتها، والنظر في استبدال الأصناف التي انقطع ورودها بغيرها من الأصناف المصنوعة في الديار المصرية، وحتمية إجراء البحوث والدراسات المتعلقة بأمر ترقية الصناعة والتجارة في مصر. وأوضح قرار تشكيل اللجنة أنه من الواجب أن تقوم بمثل هذا المبحث لجنة خاصة تكون لها سلطة إجراء جميع الدراسات التي يقتضيها إتمام مهمتها، وضمت اللجنة مصريين وأجانب، وصناعيين وتجارا، وخبراء ومسئولين في مجالات التعليم الفنى والصناعى والتجارى، والإحصاء والمالية، والخدمات البلدية. ونقرأ في التقرير أن اللجنة قد زارت العديد من المصانع الكبيرة والصغيرة للوقوف على حالة الصناعة، وتباحث مع كبار التجار والصناع، وتلقت تقارير وملاحظات من التجار والصناع، وزارت مدارس المهندسخانة والفنون والصناعات والتجارة، وأصدرت تقريرين: أحدهما خاص بتأثير الحرب على التجارة، والآخر خاص بتأثير الحرب في الصناعة بمصر، ثم أصدرت تقريرين تاليين: يختص أحدهما بالرقى التجارى والآخر بالرقى الصناعى في مصر.

رابعا: أن اللجنة سجلت في تقريرها المؤرخ 5 نوفمبر سنة 1917 أن إنماء مقدرتنا على الإنتاج أمر واجب لابد منه، وليس ذلك فقط للسير في طريق التقدّم والفلاح بوجه عام، بل أيضا لأسباب أهمها تجزئة الأخطار بألا نجعل ثروة البلاد رهينة مصدر واحد من مصادر الإيراد، وجعل بلادنا مستقلة عن الأجانب من جهة تموينها، وسدّ حاجات السكان الآخذين في الزيادة بشكل استثنائى. ويبرز التقرير مشروعية تطلع الفلاح إلى نصيبه من رفاهية المدنية الراقية المحيطة به، ويؤكد ضرورة إنشاء المدارس والطرق والمستشفيات وغيرها مما يلزم لأمة متمدّنة؛ ويوضح ما يستلزمه هذا من تمويل تقدمه الحكومة لا يتيسر الحصول عليه إلا بزيادة ثروة البلاد، ثم يعلن التقرير أنه لا سبيل إلى زيادة ثروة البلاد إلا بالإكثار من إنتاج بلادنا، وأن زيادة الإنتاج تقتضى توسيع نطاق مدارسنا وطرقنا ومستشفياتنا ووسائلنا الاقتصادية المؤدّية إلى زيادة رفاهية البلاد، وأن زيادة الإنتاج ضرورة كى يكون في استطاعتنا الحصول من الخارج على الخامات والمعدات اللازمة لرقينا الاقتصادى مما ليس في وسع بلادنا أن تمدنا بها، ثم يعلن التقرير باستقامة أن الصناعة والزراعة هما الكفيلتان بإجابتنا إلى ما نبتغيه من التوسع في الإنتاج. وفى مطلع تناول التقرير سبل تقليص القيود وتعظيم الفرص أمام التصنيع، يسجل أن كل خطوة تخطوها الصناعة الأوروبية إلى الأمام تقابل خطوة من الصناعة المصرية إلى الوراء!! ويستنكر وأد الصناعة الوطنية لمصلحة استيراد المصنوعات؛ مشيرا إلى أن الصناع المصريين قد كفوا عن الاشتغال حتى بأحقر المصنوعات، وأن البضائع الوطنية قضى عليها بالبوار بعد أن أخلت مكانها للسلع الأجنبية حتى في "أوضع" البيوت!!

(7)

نحو استراتيجية تصنيع وسياسة صناعية في مصر

ليس كافيا لتحقيق التقدم الاقتصادى مجرد ارتفاع معدل النمو الاقتصادى، وهو ما أبرزه- وبحق- تقرير لصندوق النقد الدولى، ولا مجرد الالتزام بسياسات التحرير الاقتصادى، كما أبرز- وبحق أيضا- تقرير للبنك الدولى؛ فالأمر يتوقف علي مصادر ونتائج وآثار النمو الاقتصادى. وباختصار فإن النمو الاقتصادى المستدام؛ أى القادر على الاستمرار بالإعتماد على الذات، يتمثل شرطه الحاسم في التقدم الصناعى التكنولوجى، وسبيله- كما تكشف الخبرة العالمية- هو وضع وتنفيذ سياسة صناعية تستهدف تغيير هيكل الاقتصاد لصالح الصناعة التحويلية، وخاصة فروعها عالية الإنتاجية والتنافسية.

والإرتقاء بتصنيع مصر قرار سياسى في المقام الأول، وهو خيار لا بديل له إذا أردنا اللحاق بالبلدان الصناعية المتقدمة والصاعدة وتعزيز ركائز الأمن القومى والإنسانى، وتحقيق التقدم الشامل والتمتع بثماره من تنمية مستدامة ورفاهة مجتمعية وديموقراطية سياسية وثقافة راقية، وتعزيز السيادة الاقتصادية الوطنية والأمن الاقتصادى القومى لمصر، ورفع مستوى معيشة وتعزيز الأمن الإنسانى للمصريين.

وأسجل، أولا: أن وضع وتنفيذ سياسة صناعية- تستجيب لمتطلبات تحقيق أهداف وبلوغ غاية استراتيجية التصنيع- سبيل لا بديل له ولا غنى عنه لإنهاء تراجع وتأخر تصنيع مصر. وتؤكد ورقة تفكير هامة قدمت إلى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية على ضرورة رد الاعتبار للسياسة الصناعية لتحفيز وتسريعالتنمية الصناعية، وتدعو لإعادة التفكير في مضمونها في ظل متغيرات العولمة. فقد تغير وبعمق سياق صنع السياسة الصناعية في ظل قواعد منظمة التجارة العالمية متزايدة الصرامة، وتعاظم نفوذ الشركات الدولية العملاقة المقيدة لفرصوصول المشروعات الصناعية الصغيرة والمتوسطة إلى السوق العالمى، وتكامل سلاسل الإنتاج وشبكات التسويق التي تربط شتى الاقتصادات، وغير هذا من جوانب العولمة الاقتصادية.

ثانيا: أن مسألة السياسة الصناعية تثار تقليديا في سياق مجابهة إخفاقات السوق، لكن هذا الاخفاق ليس أساسا كافيا لطرح المسألة، وإنما يلزم تعيين مجالات السياسة الصناعية في البيئة العالمية الجديدة، وخاصة بالنسبة للبلدان المتأخرة صناعيا. ولأن ظروف هذه البلدان تتباين بشكل واسع فليس ثمة وصفة جاهزة ومخطط بسيطة لصنع السياسة الصناعية يمكن أن تتبناها شتى البلدان. وبايجاز، فإن السياق التاريخى العالمى لصنع وعمل السياسة الصناعية قد تغير، لكن وجود هذه السياسة لم تقل حتميته لإنهاء التحلف والتأخر الصناعى التكنولوجى. وهكذا، على سبيل المثال، فإن واضع السياسة الصناعية عليه مراعاة تحفيز الإبداع والابتكار والتجديد باعتباره ضرورة لبلوغ غاية وأهداف التصنيع في ظل ثورة واقتصاد المعرفة، من جهة، ومراعاة وضع السياسة الصناعية على نحو يستهدف بلوغ غاية وأهداف التصنيع في سياق عولمة الإنتاج وانفتاح الأسواق. 

ثالثا: أن التقارير الاقتصادية الدولية- وخاصة الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وعن البرنامج الانمائى للأمم المتحدة- تساعدنا على الإجابة عن السؤال: لماذا أخفقت اقتصادات أمريكا اللاتينينة، كما تكشف حالة المكسيك مثلا؟ ولماذا نجحت اقتصادات شرق آسيا، كما تبين حالة كوريا مثلا؟ والإجابة باختصار، لأن الأولى قد نفذت إملاءات صندوق النقد الدولى والبنك الدولى بتحقيق النمو عبر إطلاق قوى السوق الحرة وفق الوصفة الجاهزة لليبرالية الجديدة المعادية للسياسة الصناعية، بينما أصرت الثانية على تدخل للدولة في الاقتصاد من أجل الإرتقاء بالتصنيع؛ وخاصة بوضع الدولة وتنفيذها سياسة صناعية. وهكذا، نجحت النمور الآسيوية في الارتقاء بصناعاتها التحويلية عبر تأسيس الطوابق العليا للبناء الصناعى التكنولوجى، بتلبية ما تحتاجه هذه العملية من انفاق حكومى واسع للارتقاء بجودة التعليم والتدريب والبحث والتطوير؛ وهو ما مكنها من تقديم منتج تنافسى يتسم بارتفاع القيمة المضافة والمحتوى التكنولوجى.

رابعا: أنه على الدولة وضع وتنفيذ سياسة صناعية تستهدف تغيير هيكل الاقتصاد لصالح قطاعات وفروع الصناعة التحويلية، وخاصة الأعلى إنتاجية؛ عن طريق إزالة العقبات وتصحيح إخفاقات السوق في كل مرحلة من مراحل التنمية. وتنهض الدولة بمهمة تحفيز وتسريع التصنيع باعتبارها: جهة منظمة تضع التعريفات الجمركية والحوافز المالية أو الإعانات؛ وجهة ممولة تؤثر على سوق الائتمان وتخصيص الموارد المالية العامة والخاصة للمشاريع الصناعية؛ وجهة منتجة تشارك مباشرة في النشاط الانتاجى من خلال المؤسسات المملوكة للدولة، وجهة مستهلكة تضمن سوقا للصناعات الإستراتيجية من خلال المشتريات العامة. كما يتوجب على الدولة ضمان التنسيق الوثيق بين السياسة الصناعية والسياسات الأخرى، التي يمكن أن تقوض أهداف السياسة الصناعية إذا لم تكن في توافق معها، وحتى تكون السياسة الصناعية فعالة، فإن عملية صنعها يجب ألا تقل أهمية عن محتواها.

خامسا: أن الدولة- سعيا لتحقيق أهداف التنمية- لعبت تاريخيا دورا رئيسيا في عملية التصنيع؛ باعتبارها مُنتِجا بإنشاء صناعات يعجز أو يُحجم القطاع الخاص عن تأسيسها لكنها ضرورية لتحقيق أهداف اجتماعية أو تنموية أو مالية أو لتعزيز الأمن القومي الاقتصادي والإنساني. وكانت الصناعات المملوكة للدولة بمثابة حاضنة للمهارات الفنية والمواهب الإدارية، التي اعتمد عليها كثير من مشروعات القطاع الخاص الصناعى المحلى والأجنبى. وباعتبارها مُستهلِكا، فإن الدولة، التي تمثل المشترى الأكبر للمصنوعات، يمكنها استخدام قوتها الشرائية لتحفيز النشاط الصناعي والابتكار وحماية الصناعة الوطنية من المنافسة الأجنبية وتحسين القدرة التنافسية لبعض القطاعات الصناعية ومعالجة الفوارق الإقليمية في التصنيع. أضف إلى هذا ما تنهض به الدولة من دور حاسم في الاستثمار في الارتقاء بالبنية الأساسية الانتاجية، وخاصة في قطاعى النقل والطاقة، وهو دور أقول مرة أخرى أنه لا غنى عنه ولا بديل له لبناء روافع التصنيع. 

سادسا، أنه عُرضة للإخفاق -دون ريب- الاعتماد على السوق والاستثمار الخاص لتحقيق غايات الارتقاء برأس المال البشرى، أى المحرك الأهم لتسريع تنمية وتعميق وارتقاء الصناعة التحويلية. ومن هنا كان دور الدولة في الإنفاق على التعليم والإرتقاء بجودته في كل مراحله لتعويض نقص العمالة المتعلمة والماهرة؛ وجاء دور الدولة في تحفيز والابداع والإبتكار، وتمويل البحث العلمى والبحث والتطوير وانتاج المعرفة والتجديد التكنولوجى. ومن هنا أيضا تبرز حتمية التنسيق بين السياسة الصناعية وسياسات التعليم والتدريب والبحث لتوفير المهارات الصناعية التقنية والمهنية والمعرفية وغيرها مما يلبى الاحتياجات قصيرة الأجل وطويلة الأجل لسوق العمل في سياق ارتقاء التصنيع.