بلغ الأثر الاقتصادى العالمى للعنف حوالى 16.5 تريليون دولار فى عام 2021، وفقاً لمؤشرات GLOBAL PEACE INDEX لعام 2022، أى ما يعادل 10.9% من الناتج الإجمالى العالمى بزيادة 1.8 تريليون دولار بنسبة 12.4% عن عام 2020. ويعود هذا الارتفاع إلى تنامى مستويات الإنفاق العسكرى لـ132 دولة بمقدار 7.7 تريليون دولار. كما زاد الأثر الاقتصادى للنزاع المسلح بمقدار559.3 مليار دولار، وتداعياته على عمليات زيادة عدد اللاجئين والنازحين وكلفاتها الخاصة بعامل الأمن الإنسانى. وكان نصيب الشرق الأوسط من هذه الزيادة، إلى جانب شمال أفريقيا وروسيا وأوراسيا، هو الأعلى فى العالم. كما تعد سوريا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى أعلى دول العالم التى تتكبد تكلفة اقتصادية مقابل العنف.
ووفقاً لتوقعات المؤشر المرتقب إعلانها خلال النصف الأول من عام 2023، ربما ستتحول المؤشرات باتجاه تداعيات كلفة الحرب الروسية- الأوكرانية على الاقتصاد العالمى، والكلفة التصاعدية لاستدامة الصراعات والنزاعات فى الشرق الأوسط. والأصعب من ذلك، هو أنه من المرجح نمو هذه المؤشرات بمعدل ثلاثة أمثال الكلفة الإجمالية مقارنة بالعام السابق للحرب. وبالنسبة للشرق الأوسط، من المتوقع أن تحل اليمن محل سوريا فى صدارة هذا المؤشر، يليها السودان، كما ستعاود ليبيا الظهور مرة أخرى على خلفية التوترات الأمنية التى شهدتها عام 2022 فى ظل فشل مرحلة الانتقال السياسى، بالإضافة إلى تراجع المؤشر الخاص بالعراق أيضاً فى ظل الاضطرابات التى شهدتها فى العام نفسه. بل قد يكون السيناريو الأسوأ هو اتساع رقعة الحرب التى تتطور مرحلياً.
على هذا النحو، تبدو المؤشرات الخاصة بالشرق الأوسط مهمة فى قياس الانعكاسات على مصر، لاسيما من الناحية الاقتصادية، وبالتبعية كلفة الأمن المطلوبة لبناء الردع الاستراتيجى لمواجهة تمدد الظواهر الناجمة عن الفوضى الاقليمية المستدامة. وهنا يمكن الإشارة إلى نظرية الاقتصادى العالمى محمد العريان «الحى والبيت»، وأن البيت مهما كان آمناً يتأثر بالفوضى التى يشهدها الحى.
بصيغة أخرى، ما يتعين علينا استيعابه الآن أن الحرب الروسية- الأوكرانية ضاعفت من حجم الآثار التى كافحت مصر من أجل الحد من تداعياتها جراء الفوضى التى شهدتها المنطقة خلال العقد الماضى، حيث كانت حسابات مقاربة الأمن والاقتصاد بالنسبة لمصر مرتبطة بكلفة المخاطر والمهددات لدول الجوار المتوتر، أو حتى جوار الجوار. لكن فى المرحلة اللاحقة للحرب، أصبحت كلفة الأمن على الاقتصاد والتنمية أكثر تأثراً فى ظل لحظة أكثر اضطراباً ويغلب عليها «اللايقين» فى النظامين الدولى والإقليمى معاً.
فى هذا السياق، أشار الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى جانب من السياسات أو الإجراءات المصرية الهامة كعائد ترسيم الحدود البحرية لمصر. وبخلاف كلفة البنية والتشغيل الهائلة لهذه العوائد فى السنوات الأولى، هناك كلفة الأصول الأمنية المطلوبة فى إطار السياسات الدفاعية المطلوبة لتأمين الثورة الاقتصادية البحرية. لكن فى الوقت نفسه، وكأحد أبعاد الإستراتيجية المصرية، من الأهمية بمكان الأخذ فى الاعتبار أن هذه التكلفة الخاصة بالأصول حققت عائداً للتنمية، وأهّلت مصر لتنمية نوعية، تمثلت فى محاور التنمية على سواحل البحرين الأحمر والمتوسط. مثال آخر هام، وهو مؤشر التنمية فى سيناء، كمقاربة مهمة فى حالة مصر والإقليم ومقاربة الأمن والاقتصاد، حيث بلغ حجم خطة التنمية 700 مليار جنيه وفق إستراتيجية متكاملة الأبعاد، ومن المؤكد أنها خطة عمل تاريخية غير مسبوقة غيرت وجه الحياة فى سيناء بالكامل. وتكاد تكون مصر الحالة الاستثنائية الوحيدة فى الإقليم كنموذج لدولة خاضت معركتين فى الوقت نفسه: معركة مكافحة الإرهاب ومعركة التنمية، بينما الدول التى مرت بظروف مشابهة لا تزال تؤجل عملية التنمية فى انتظار مشروعات إعادة الإعمار، التى ربما ستتأجل هى الأخرى على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية.
الداخل أولا
وفقاً لهذا السياق، يمكن تصور أن مصر طورت باستمرار إستراتيجيات لمواجهة التهديدات الناجمة عن الفوضى الإقليمية وتداعياتها على استقرار الدولة، بدأتها من اعتماد استراتيجية «الداخل أولاً»، حيث بلورت استراتيجية دفاعية لمكافحة الإرهاب، وتعزيز أمن الحدود، بالتوازى مع طفرة تسلح نوعية، تواكب حالة التحديث العام التى شهدها الجيش المصرى فى العقد الأخير. كما أطلقت مشروعات تنمية كبرى لمكافحة الإرهاب فى إطار عملية مواجهة المهددات من جهة، وكجزء من التأسيس لمشروع نهضة جديدة للدولة المصرية بشكل عام.
ويمكن القول إن استراتيجية «الداخل أولاً» التى اتبعتها مصر شكلت نموذجاً فريداً فى تقويض المهددات الرئيسية التى واجهتها مصر فى مرحلة الفوضى الإقليمية. وكنتيجة أوّلية لهذه الاستراتيجية، تفادت مصر مصير الدول التى تعرضت لعاصفة الانتفاضات العربية التى لا تزال آثارها ممتدة حتى الآن فى العديد من الدول المحيطة بالدائرة الإقليمية الرئيسية لمصر، والتى تشكل الدائرة الاستراتيجية الأولى لحزام أمنها القومى. وفى مرحلة تالية، لجنى ثمار المرحلة الأولى، بدأت مصر تسلك مسار «الانخراط التدريجى» فى قضايا الأمن الإقليمى، وفق حسابات الأولويات التى شكل منظور أمنها القومى المحدد الرئيسى لها، وكرمزية سياسية لإعادة الاعتبار لدورها الإقليمى، وهو دور تاريخى معروف.
التنمية الإقليمية
لم تختلف الرؤية الاستراتيجية للمنظور المصرى، فى سياق إعادة إحياء مصر لدورها الإقليمى، عن منظور رؤية «الداخل أولاً». فالمعادلة المصرية تقوم على عاملين: صناعة النموذج المصرى المختلف عن باقى النماذج الإقليمية، من حيث رفض اتجاه «عسكرة السياسة الخارجية» التى تنتهجها بعض القوى الإقليمية، واستبدالها باتجاه التنمية الإقليمية. ويمكن النظر إلى هذا البديل التنموى أيضاً على أنه أحد أوجه القوة الناعمة المصرية حالياً. وتقوم هذه الفكرة على أن تستبدل مصر بطوق التهديد الإقليمى لها طوقاً تنموياً، يشكل عامل استقطاب مصرياً للقوى الإقليمية الساعية إلى الانخراط فى عملية تهدئة الصراعات.
وتعكس خريطة البنية العسكرية–التنموية الحديثة منظورا مهما لهذا النموذج، حيث بدأت مصر بإنشاء قاعدة «محمد نجيب» كقاعدة مركزية فى الساحل الشمالى، بالتوازى مع اكتشاف حقول الغاز فى المياه الاقتصادية المصرية، وهو ما يربط عامل التأمين بالبعد الاقتصادى، بالإضافة إلى أن مصر شرعت فى تنمية الساحل الشمالى، مع إنشاء مدن ساحلية، مثل «العلمين الجديدة»، ولاحقاً أنشأت قاعدة «برنيس» لتكون مقر الأسطول الجنوبى، وفق الإستراتيجية ذاتها، وهى تأمين العمق الجنوبى، بالإضافة إلى العامل التنموى، مع إنشاء محور جديد للتنمية فى الاتجاه الاستراتيجى الشرقى.
وعلى الجانب الآخر، فى الاتجاه الاستراتيجى الغربى، تم إنشاء قاعدة «3 يوليو»، فى أقصى غرب الساحل الشمالى المصرى، وعلى الأرجح جاء هذا التوجه بعد إعلان مصر عن الخط الأحمر فى ليبيا، بعد خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى فى المنطقة الغربية (يوليو 2020) لتأمين هذا الاتجاه، بالإضافة أيضاً إلى تأمين محور تنمية حدودى، يشكل بنية لوجيستية للعلاقات الاستراتيجية المصرية-الليبية.
ويتسع هذا الطوق الدفاعي–التنموى ليغطى دائرة الأمن القومى المصرى إقليمياً، من العراق إلى الأردن، حيث تشكلت الآلية الثلاثية (مصر- العراق– الأردن)، وتمثل علاقات ذات بعد اقتصادى وأمنى، امتدت إلى الشام، مع كل من سوريا ولبنان عبر دخول خط الغاز المصرى إلى لبنان عبر الأردن ومنه إلى سوريا ثم لبنان، وانخراط مصر كطرف رئيسى فى مشروع إعادة إعمار غزة، ويمتد هذا المسار من شرق المتوسط مع منتدى الغاز إلى ليبيا مع الربط بالطريق الدائرى الجديد الذى تقوم شركات مصرية بإنشائه ويربط (مصر– ليبيا– تونس). وجنوباً، هناك تنامٍ فى رفع مستوى الشراكة المصرية–السودانية فى السياق ذاته.
إن الاستنتاج الرئيسى لمحصلة الرؤية المصرية تجاه الأمن الاقليمى يعكس أن هذه المنطقة ستظل باستمرار قيد التشكل الأمنى، حيث تتفجر الصراعات والأزمات بشكل متسلسل، ولا يعتقد أن هذه الصراعات يمكن أن تنتهى فى المستقبل القريب، بقدر ما يمكن تصور أنه يمكن احتواؤها نسبياً أو التعاطى معها بمنطق إدارة الأزمة، وتقويض بعض مظاهرها، وأن الرؤية المصرية للتعامل مع هذا الوضع تشكلت فى إطار مسارين: الأول، تكتيكي؛ وتنتهج فيه مصر سياسة عدم الانخراط العسكرى، وتبنى سياسة لصيانة الأمن فى المنطقة، لاسيما الأمن القومى العربى، واعتماد بدائل التوازن الإستراتيجى للحيلولة دون التصادم مع القوى الإقليمية غير العربية. والثانى، إستراتيجى، ويعتمد على الانخراط المتدرج فى محور تنموى إقليمى فى حدود دائرة أمنها القومى، كمدخل لاستعادة الاستقرار الإقليمى، وتحييد الانخراط العسكرى للقوى الإقليمية غير العربية، والرهان على خفض مستوى التدخل الخارجى السلبى فى الإقليم بشكل عام.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 26 أكتوبر 2022.