أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

بالنسبة لمخططي الحرب لا يفترض أن يترك شيء للصدفة قدر الإمكان. ومع كل سيناريو محتمل يستعد الطرف الآخر لسيناريو الردع المضاد. وفى المرحلة الحالية التي تواكب النصف الثاني من العام الأول للحرب، طورت روسيا من تكتيكات العمليات العسكرية، مع التركيز على استهداف البنية التحتية في مختلف المناطق الأوكرانية، لاسيما العاصمة كييف باستخدام الطائرات من دون طيار والصواريخ.

وبالنسبة لموسكو، قد تكون هذه التكتيكات أكثر فاعلية من حشد القوات والمدرعات، بهدف تقليل الخسائر، وكلفة التعبئة والانتشار، وممارسة المزيد من الضغوط على القيادة الأوكرانية، للتراجع عن مسار الهجمات المرتدة، والضغط على القوى الغربية لوقف إمدادات الأسلحة النوعية، إضافة لإضعاف الروح المعنوية للأوكرانيين.

وفي واقع الأمر، لا يبدو هذا التكتيك طارئاً، فخلال شهري مايو ويونيو 2022، أشارت تقديرات الاستخبارات الأمريكية إلى أن موسكو بصدد إبرام صفقة (درونز) مع إيران، وربما أكدت على ذلك بعد الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران، كما رصدت تقارير لاحقة وجود نحو 50 عنصراً من الحرس الثوري في مناطق السيطرة الروسية في أوكرانيا لتدريب قوات روسية على تشغيل "الدرونز"، مع الأخذ في الاعتبار خبرة قائد الحرب الروسي الجديد في أوكرانيا، سيرغي سوروفيكين، لاسيما خبرته في سوريا، ساحة الحرب التي جمعت موسكو وطهران.

تكتيك جديد

جاء التوجه الروسي إذن في مايو الماضي لاعتماد هذا التكتيك بعد الانسحاب من العاصمة كييف، ما يؤكد على الفرضية السالف الإشارة إليها، بأن تعبئة قوات تقليدية قد لا يكون لصالح موسكو، بالإضافة إلى أن تغير التكتيك سيجبر الطرف الآخر على الحاجة إلى منظومات الدفاع المضادة الجديدة، وهي آليات مكلفة، وتحتاج لفترة من التدريب، فضلاً عن عملية التشبيك فيما بين تلك المنظومات المختلفة الأنواع والمديات، حتى وإن كان معظمها من إنتاج دول "الناتو"، ما يعني القدرة على إدماجها مع بعضها البعض، لكن سيستغرق ذلك بعض الوقت، بينما لن تكلف "الدرونز" موسكو الكثير، كما توفر البديل لاستخدام قدر أكبر من الصواريخ الاستراتيجية التي قد تحتاج إليها روسيا. جانب آخر من تلك التكتيكات، يتمثل في دفع روسيا نحو 9 آلاف مقاتل على الجبهة في بيلاروسيا، رغم محاولات إبعاد الأخيرة عن مشهد الحرب.

دلالات عديدة

ثمة دلالات عديدة لهذه التطورات، منها، على سبيل المثال، إظهار روسيا القدرة على المناورة التكتيكية لإرباك الأطراف الأخرى، وتأكيد أنها يمكنها اللجوء إلى البدائل التي يمكن بها الرهان على الصمود في الحرب، مقابل رهان القوى الغربية على أن استمرار الحرب يستنزف تلك القدرات، بل ورفع الكلفة على الطرف الأخر، فبمجرد دخول "الدرونز" على خط المواجهة، بدأت الإعلانات تتوالى من الولايات المتحدة وألمانيا وقوى أوروبية أخرى لتقديم منظومات دفاع مناسبة للتعامل مع التهديد الجديد، أبرزها منظومة "آيرس- تي" الألمانية، حيث أعلن عن تسليم واحدة منها، بينما سيتم تسليم ثلاثة أخرى العام المقبل، وبالتالي تظل إمكانية الحد من أضرار "الدرونز" محدودة، أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن التصريحات الرسمية بشأن تسليم أوكرانيا منظومات "ناسامز" متضاربة.

يقود هذا التصور إلى فرضية أخرى، تتعلق بتنامي المخاوف من استخدام السلاح النووي، وفقاً لإشعارات النوايا الروسية، التي تجلت في إجراء تدريبات للقوات النووية الروسية (حوالي 60 ألفاً) بالتزامن من إشعار الأمر النووي الذي أصدره الرئيس بوتين في مرحلة مبكرة من الحرب، وهو إشعار يعني بالطبع جاهزية هذا الخيار على طاولة قيادة العمليات حينما تتطلب الحاجة إلى ذلك، بالإضافة إلى دفع الطرف الآخر لاتخاذ الاستعدادات المقابلة. إلى جانب ذلك، تم تحميل أسلحة تكتيكية جاهزة للإطلاق على منصات تحميل مختلفة وفي مواقع عدة، كما أجريت العديد من التجارب الصاروخية التي يمكنها حمل رؤوس نووية.

فى المقابل، نظرياً، قام حلف شمال الأطلنطي بتحديث استراتيجية الردع النووي، ضمن الاستراتيجية العامة للحلف التي أعلن عنها في المؤتمر العام (مدريد 2022)، ويعد العنوان الرئيسي في هذه الاستراتيجية هو تعزيز صورة الحلف كحلف نووي، بالإضافة إلى التأكيد على استراتيجية "الردع النووي"، بينما عملياً تقوم قوات الناتو النووية حالياً بإجراء مناورات فى أوروبا (17-30 أكتوبر الجاري) تشارك فيها 14 دولة من أعضاء الحلف. صحيح أن الحلف يؤكد على دورية تلك المناورات، وأن التخطيط لإجرائها يسبق الحرب، لكن من جهة أخرى، تترجم المناورات العملية الانتقال إلى حالة "التأهب"، والتي تنطوي على ترتيبات غير مسبوقة، على مستوى انتشار القدرات النووية التابعة للحلف في إطار مبدأ "الشراكة"، كما تم الإعلان عن توزيع أدوية وقائية على المواطنين في بعض الدول الأوروبية، وتختبر القوات النووية أيضاً استخدام الملاجىء.

يثير هذا السياق عدة مسائل ذات صلة، منها على سبيل المثال، أن إجراء المناورات بدون ذخائر نووية حية، لا يقلل من فرضية التأهب، لكنه في الوقت ذاته ينطوي على تأكيد الحلف على الالتزام بمبدأ عدم اللجوء إلى "الضربة الأولى". في المقابل بالنسبة لروسيا، قد يبدو الموقف مختلفاً، فقد تحللت روسيا من التزامات الاتحاد السوفيتي مع الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، بشكل نسبي، وتعكس الإشارات الروسية حالة من الغموض حيال المبدأ وبالتالي حيال الاستخدام، على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي.

المسألة الأخرى، أن الولايات المتحدة لديها أولوية في المرحلة الحالية بالاهتمام بالأسلحة التكتيكية، وفقاً لتقارير أمريكية، لكن ربما تأخذ واشنطن في اعتبارها عدم الإفصاح عن تطوير هذه القدرات.

في الأخير، يمكن القول إنه على الرغم من مرور فترة كافية لتقييم واقع الحرب الروسية–الأوكرانية، إلا أنه من الصعوبة بمكان التنبؤ بمآلات هذه الحرب، فالتطورات الأخيرة تعطي انطباعاً بقدرة روسيا على التنقل ما بين الخطط والتكتيكات المختلفة بهدف تقليل التكلفة والخسائر وضمان القدرة على القيادة والسيطرة. كما أن إحدى نقاط التقييم تشير إلى أن تعرض روسيا لإحباطات في هذه الحرب يزيد من رغبتها الانتقامية في أوكرانيا. وهذه النقطة قد تكون ذات دلالة في تجاوز الخطوط الحمراء التي لم يتجاوزها الأطراف بعد، وأن احتمالات خروج الحرب عن السيطرة تظل واردة، مع زيادة تبادلية الضربات الانتقامية بشكل تصاعدي، وانفعالي، وبمواكبة اتساع رقعة الحرب في أوكرانيا.