د. أيمن السيد عبد الوهاب

نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والخبير فى شئون المجتمع المدنى

 

سؤال الهُوية المصرية، لماذا الآن؟. هل يمثل طرحه أى جديد للنقاش أو الجدال الدائر حوله قديمًا وحديثًا، نخبويًّا ومجتمعيًّا، وهل الإجابات والمنظور المتعدد لها يمثل إجابة وحسما لقضية ترتبط بالإدراك والوعى بالذات جنبًا إلى جنب مع كونها قضية حية ترتبط بحركة المجتمع وعمقه الوجدانى وروافد تغذية عقله الجمعى. أم أن الطرح يعبر عن مأزق يزداد عمقا وشعورا بتنامى أزمة الهُوية ومحاولات استدعاء للحظات وتجارب ودروس قديمة مر بها المجتمع والدولة المصرية، أظهرت خصوصية وخبرات ترسيخ الهُوية رغم الاختلاف على أولويات الهويات التحتية أو الفرعية، ورغم ما أنتجته عمليات التكوين السياسى والاقتصادى والاجتماعى من تحديات مجتمعية، ورغم ما فرضه توالى الإمبراطوريات والسياسات الاستعمارية وعمليات التحديث من تطورات ومستجدات شملت الكثير من أوجه المعيشة والسلوكيات والقيم.

الحقيقة، إن طرح التساؤل الرئيس يرتبط باستكمال جملة التساؤلات التى أثارتها مجلة “أحوال مصرية” عبر أعداد عدة تناولت فيها ملامح الشخصية المصرية من زوايا ومحطات تاريخية تمتد لنحو مائتى عام وذلك فى محاولة للوقوف على العديد من المظاهر والتطورات التى أخذت سبيلها لهذه الملامح بدءا من فلسفة الحياة وعلاقتها بالسلطة والدين والعلم والمعرفة، ومرورا بتلك البصمات التى تركت أثرها على طبائع المصريين ووجدانهم وعقلهم الجمعى، وانتهاءً بمنظور التقدم ومعناه الجامع مابين امتلاك المعرفة والعلم والتكنولوجيا وبين مراعاة القيم والأخلاق والخصوصية الثقافية.

ولذا يكتسب تساؤل الهُوية أهمية محورية وسط هذه التساؤلات، خاصة مع ما يطرحه المنظور المسقبلى من متطلبات فلسفية وفكرية ومعرفية وتكنولوجية تتجاوز فى دلالاتها الكثير من المعانى والقيم الإنسانية وهو ما يلقى بالكثير من التحديات على مجتمعاتنا التى لم تتجاوز الطابع التقليدى ومنظومة قيمه، وأجيالنا القادمة التى تستشعر الكثير من الغربة وعدم التكيف مع واقع مجتمعى يحمل بين جوانبه الكثير من التناقضات التى فرضتها محاولة المزج بين مجتمع تقليدى تنازل عن الكثير من سماته (طوعا أو قسرا) وعمليات تحديث شكلية لم تمس عصب المجتمع، لنبدو أمام حالة جنينية مشوهة (ممتدة منذ عقود) أو حالة تناقض وتعارض واضحة بين كثير من المتناقضات الفكرية والقيمية التى يصعب قبولها بدرجة كبيرة من الرضا والتسامح، وإذا ما أضفنا ما نشهده من محاولات السيطرة على العقول، وغرس قيم هى مثار اختلاف وتباين فى الإدراكات، وعلى تجاوز مؤسسات التنشئة التقليدية (الأسرة، المدرسة، الجامع، الكنيسة) نكون أمام جملة من التحديات التى يلخصها بوضوح أهمية دراسة واقع الفجوة الجيلية الحالية وداخل نفس الجيل وخاصة جيلz  وجيل ألفا، وعلاقاتهم بالمجتمع والدولة، فى ظل واقع اجتماعى وثقافى واقتصادى وسياسى لا يمثل لقطاع كبير منهم واقعًا إيجابيًّا أو محفزًا وخاصة مع حالة تزايد الانبهار بالنموذج الغربى.

أولا: متلازمة روح الأمة والثقافة الوطنية

قد تبدو حالة التنبه، أو الدعوة إلى دراسات أعمق لحالة المجتمع المصرى والوقوف على حجم التغيير، أحد المداخل المهمة التى تسعى “مجلة أحوال مصرية” إلى طرحه، وإن محاولة استدعاء وقراءة بعض التجارب التاريخية التى جسدت روح الأمة، لا تعنى تقديم أحكام مسبقة أو تغليب انطباعات وأمان وصور للمجتمع بقدر ما تبدو أهمية الوقوف على عناصر تماسك هذه الأمة وإيضاح تلك العلاقة الارتباطية بين إعلاء روح الأمة وترسيخ الثقافة الوطنية، فهذه المتلازمة كانت ولا تزال تمثل حائط الصد أمام الكثير من المخاطر التى أحاطت بهوية وكيان هذا الشعب على مدار تاريخه، والتى هدفت إلى المساس ببوتقة الصهر المصرية ومرتكزات صياغة “السبيكة” المجتمعية التى ميزتها ومنحتها الصلابة والبريق.

فقد كانت الهُوية المصرية الجامعة بوتقة الصهر للكثير من الثقافات والعادات والأفكار الوافدة، وحاجزا أمام أى محاولات فرض بالقوة لأى من عناصر الهُوية سواء اللغة أو الدين أو الثقافة رغم كثرة المحاولات وامتداد الزمن، فالتجانس السكانى، وحركة الهجرة والسكان إلى مصر داخليا ووحدة الإقليم، تكامل معها أدوار، مثل: الكنيسة القبطية ومؤسسة الأزهر الشريف والجماعة الوطنية. وبالتالى لم تساهم دورات الصعود والهبوط والتغيير والتأثر في تغيير مفهوم الأمة المصرية وهويتها رغم تغيير اللغة والدين والكثير من العادات والتقاليد والقيم والثقافة، فقد كانت عمليات الصهر تتم بأدوات ورؤية تعبر عن حقيقية الوجدان والعقل الجمعى المصرى وليس على أسس من الانبهار أو التقليد أو فرض القوة، فكانت عمليات الصهر مصرية ووطنية فى معظمها، فبنظرة على حركة المواطنين ووعيهم الذاتى بهويتهم نجد أنها تجلت فى العديد من المحطات التاريخية المهمة، منها: حركة الفلاحين قبل الاحتلال الفرنسى وانتهاءً بالتصدى لحركة الإخوان وحكمهم فى 2013.

ثانيًا: بوتقة الصهر والوعى بالهُوية

حدود الصهر وحالة الاستقطاب والشد والجذب بين الروافد المتعددة التى ساهمت فى تحديد ملامح الهُوية المصرية، لم تنقطع عبر التاريخ، ولذا ما يطرح الآن من تحديات تتعلق بتماسك المجتمع ومواجهة اختلالاته البنيوية ويترجمها العديد من التفاعلات الاجتماعية يستشعر معها البعض حالة القلق أو الخوف، لا تمثل جديدًا ولكن ربما يكون الجديد ما يرتبط بعمق التغيير الذى يمس الأجيال القادمة. ورؤيتهم للوطن والدولة وقبل ذلك مدى إدراكهم وتعبيرهم عن الشعور بروح الأمة وتجسيدهم لها كسمة من سماتهم وليس مجرد رد فعل يتواكب مع استشعار الخطر على الدولة وهويتها كما حدث فى يناير 2011 ويونيه 2013، وربما يكون الجديد أيضا مرتبطًا بما أحدثه التعليم من تفاوتات اجتماعية واقتصادية وثقافية وقيمية، وتراجع دور مؤسسات التنشئة التقليدية بالقدر الذى طرح التساؤل حول من يربى أولادنا وعلى أى منظومة قيمية وأخلاقية سوف يربى هؤلاء النشء، هذه التحولات لا تعبر فقط عن مخاوف أو محاولة تفسير الواقع بل هى محاولة القفز للمستقبل، ومحاولة استعادة أو بناء مقومات صهر تتوافق مع التحولات والمتطلبات الجديدة ولا تضعف مقومات القوة التى ميزت الشخصية المصرية وهويتها عن محيطها الإقليمى وعن محتلها وعن إمبراطوريات كبرى ومتقدمة ارتبطت بها فترات طويلة.

ليبقى التساؤل عن دوافع ومبررات الانبهار الحالية، لاسيما لدى الشباب ومحاولات البعض الانسلاخ عن الواقع المجتمعى وهويته، وهل هى مشابه لتلك الحالة التى فرضت نفسها على الجماعة الوطنية والفكرية التى ارتحلت إلى الغرب واحتكت بعمليات التحديث والفكر الحداثى. وإن كان التشابه موجودًا إلى حد ما يبقى التساؤل قائما عن مبررات الخوف الحالية؟. هنا تبدو أهمية استخلاص الدورس والخبرات، فالحالة المصرية الراهنة -ولأسباب عديدة ليس هنا محل طرحها- تبدو بعيدة عن حالة الزخم الفكرى والثقافى التى ترجمتها محاولات ربط عمليات التحديث بالواقع المصرى وما شهدته مراحل سابقة من البحث حول أفكار وصيغ للتواصل والربط بين خصوصية الواقع المحلى وما يفرضه التفاعل مع العالم الخارجى، حيث شكلت هوية مصر وموقعها من الحداثة وما بعدها وعمليات التحديث قضية ملحة فرضت نفسها بقوة على الجماعة الوطنية والنخبة المصرية بكل توجهاتها الدينية والأيديولوجية والثقافية، أما الجديد اليوم فربما يرتبط بارتفاع وتيرة الانجذاب للثقافة العولمية وللأفكار الوافدة إقليميا ودوليا، وتنامى بعض الهويات الفرعية أو التحتية لتتساوى والهُوية الأم، وضعف المكون الثقافى والمعرفى كعامل رابط وصاهر لأفراد المجتمع، فضلا عن حالة السيولة المجتمعية وحالة الاستقطاب التى تعانى منها النخبة .

بمعنى أدق، إن مظاهر الخطر والتحدى التى تحيط بقضية الهُوية -والتى لا تمثل مصر استثناءً فيها- قد لا تكون جديدة فى مظاهرها، ولكن بالتأكيد هى تمس جوهر ووجدان وعقل قطاع كبير من المجتمع المصرى، وهو ما يتطلب بالتبعية جهودًا جماعية من الدولة ومؤسسات المجتمع والجماعة الوطنية لتنشيط الذاكرة الوطنية وتنمية الوعى بالذات وإظهار العمق الحضارى والقيمى، كمدخل للافتخار والاعتزاز بالهُوية المصرية الجامعة، وتفعيل مقومات الصهر المجتمعى كسبيل لإنتاج “سبيكة قادرة” على تغذية روح الأمة المصرية بروح عصرية. وهو أمر ليس بالسهولة بمكان رغم امتلاك الهُوية المصرية الكثير من مقومات التميز، حيث تظل معضلة الصهر قائمة على حدود الموازنة بين الروافد المغذية لتلك الهُوية وحدود التوافق الوطنى على الوزن النسبى لتلك الروافد.

واتساقًا مع هذه المعضلة، تبدو قضية الهُوية، أحد مفاتيح فهم الشخصية المصرية ومنظورها الوطنى وعلاقاتها بمفهوم الأمة، وفى نفس الوقت تمثل مرآة عاكسة لطبيعة التحولات المجتمعية وانعكاساتها على الوجدان والعقل الجمعى المصرى، الأمر الذى يجعل سؤال الهُوية مطروحا وقائما على أجندة الوطن والنخبة المصرية كجزء من الحوار أو الجدال حول المستقبل.