أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تؤكد الشواهد ما تنفيه رسمياً إيران وإسرائيل حول انخراطهما في الحرب الروسية-الأوكرانية، التي قد تكون ساحة جديدة لفائض التصعيد بينهما، حيث تخوضان باستمرار جولات متقطعة من التصعيد في الساحة السورية، كما خاضتا من قبل جولات معارك ناقلات النفط في بحر العرب. إلا أن حسابات الطرفين في الإعلان الصريح عن حدود انخراطهما قد تضع كلاً منهما في مأزق. فدعم إيران لروسيا فى هذه الحرب سيجلب لها المزيد من العقوبات الغربية، ويضفي تعقيدات إضافية على مسار تسوية الاتفاق النووي المتعثر. وعلى الجانب الآخر، ربما سيقوض حركة إسرائيل فى استهداف التواجد الإيراني على الساحة السورية، إذا ما قررت روسيا اعتراض تحركاتها.

لكن هذه الحسابات التقليدية لن تدوم طويلاً، في ظل انكشاف طبيعة انخراط كلا الطرفين في الحرب. فعملياً، يمكن تصور أن إسهام إيران وإسرائيل مهماً لطرفي الحرب: روسيا وأوكرانيا. فقد منح الدعم الإيراني لروسيا بـ"الدرونز" ("شاهد 136" – "مهاجر 6") بديلاً أقل كلفة لاستهلاك قدر من المخزون الصاروخي الروسي خلال الأشهر الثمانية الماضية على نطاق واسع. وعوضاً عن حشد قواتها وآلياتها خارج مناطق السيطرة الرئيسية فى الشرق والجنوب. كما يتيح لها هامشاً زمنياً لإعادة تعبئة القوات التعويضية (الاحتياط) وتدريبها خلال فصل الشتاء، استعداداً لجولة قد تكون صعبة في الربيع المقبل. كذلك، فإن اصطفاف إيران إلى جانب روسيا فى معركتها الحالية، يشكل عامل دعم هاماً لموسكو في إطار فرزها للقوى الحليفة والقوى (غير الصديقة) بتعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. 

وبمجرد الظهور الإيراني على الساحة الأوكرانية، فمن المتوقع أن إسرائيل ستكون طرفاً على الساحة المقابلة. فوفقاً للعديد من التقارير والتصريحات الرسمية الإسرائيلية، فإن تل أبيب قدمت لأوكرانيا دعماً لوجستياً استخبارياً، كحد أدنى من الدعم خلال الفترة السابقة، بينما تلح كييف عليها في المرحلة الحالية لتقديم دعم دفاعي نوعي، كتقديم منظومة "القبة الحديدة"، أو بدائل أخرى تمكن القوات الأوكرانية من التصدي لتحدي "الدرونز". كما تتوقع كييف أن طهران قد تمد موسكو بصواريخ مثل "فاتح 110"، وبالتالي تحتاج إلى سد الاحتياجات الدفاعية بشكل عاجل لحين تسلم منظومات دفاع أمريكية وأوروبية تم الوعد بها موخراً.

انخراط اضطراري

وفقاً لهذا السياق، فإن الطرفين الإيراني والإسرائيلي مدعوان بشكل اضطراري أيضاً من طرفي الحرب (روسيا وأوكرانيا) للانخراط في مسار تغير معادلة الاشتباك في المرحلة الحالية من الحرب، مع الأخذ في الاعتبار أن لدى إسرائيل فرصة للمناورة نسبياً في تلبية المطالب الأوكرانية، على غرار ما تفعله القوى الغربية عموماً، حيث لا يتم تلبية المطالب الأوكرانية بمجرد الطلب، بقدر ما تخضع العملية لهندسة تسليح دفاعي حتى لا تخرج الحرب عن نطاق السيطرة، بينما على الأرجح لا يعتقد أن إيران تمتلك فرصة المناورة في عدم الاستجابة للطلب الروسي، لاعتبارات تتعلق بمستوى التعاون والمصالح والتي ترجمت في اتفاقيات تعاون دفاعي مشترك. 

وتتمكن الدرونز الإيرانية التي تنطلق بشكل أساسي من شبه جزيرة القرم إلى أغلب المواقع الأوكرانية، لاسيما العاصمة كييف ومناطق الشمال وصولاً إلى مواقع أخرى فى الغرب، من استهداف البنية التحتية المدنية على نطاق واسع. كما بثت قيادة العمليات الروسية صوراً لاستهداف الآليات العسكرية الأوكرانية الثابتة مثل بعض منظومات الدفاع، وربما يكون الواقع أكثر خطورة مع تطوير العمليات التكتيكية كما يلاحظ من استمرار تشغيل هذه الطائرات، حيث يتم إطلاق دفعات منها على التوالي إلى أهداف محددة، وبمجرد أن يتم التحرك إلى المواقع المستهدفة تلاحقهم أسراب أخرى من الطائرات ما يضاعف من حجم الخسائر. وخلال شهر تقريباً، خرجت ثلث تلك البنية من محطات الكهرباء والتدفئة عن الخدمة بالفعل، ويبدو أن هناك صعوبات في إعادة تشغيلها سريعاً.

حدود الفاعلية والتأثير

وفقاً للتقارير الأوكرانية، تم اعتراض نسبة كبيرة من تلك الطائرات بمرور الوقت. وتقريباً من بين كل 50 طائرة يمكن اعتراض وإسقاط 40 منها، حتى وإن كانت هناك مبالغة إلى حد ما في هذه التقديرات. لكن هناك ثغرات تم رصدها خلال تلك الهجمات، منها الصوت العالي أثناء حركة الطائرة ما يسهل إمكانية رصدها خاصة خلال فترة النهار. وربما يصعب ذلك ليلاً، حيث يصعب على أجهزة الرؤية اكتشافها بسبب جسمها الخارجي غير المعدني، إضافة إلى عامل بطء السرعة. لكن فى المقابل، تعتمد روسيا على كثافة الإطلاق، بالإضافة إلى تأثير العامل النفسي على الروح المعنوية للأوكرانيين الذين يضطرون إلى البقاء في الملاجىء لفترات طويلة، وهو عامل ضغط ترى روسيا أنه مهم لخطتها، فبعد استهداف أوكرانيا لجسر "كيرتش" وضعت روسيا في حسابتها السعى إلى إضعاف السلطة في كييف ووضعها تحت الضغط بشكل مستمر، بتحويل حياة المدنيين إلى جحيم ودفع الكثيرين إلى مغادرة البلاد.

من ناحية أخرى، يبدو أن الطائرة "مهاجر 6" تلعب دوراً أكثر فاعلية على المستوى التكتيكي، بالنظر لإمكانياتها، فهى تقوم بدور استطلاعي وهجومي في الوقت ذاته، حيث تستكشف بنك الأهداف التي يتم تحميلها على نظام (GPS) في طائرات "شاهد 136"، كما يمكن لـ"مهاجر 6" التحليق لاستكشاف أهداف ميدانية واستهدافها بالصواريخ التي تحملها. وكنتيجة أوّلية، فإنه بالإضافة إلى ما تشكله من تهديد في المرحلة الحالية كمعطى جديد في عملية التسليح ما يتطلب وجود وسائل اعتراض أكثر فعالية، سيرتفع التهديد في المرحلة المقبلة في ظل وجود منظومات الدفاع الغربية المعلن عنها. فواحدة من هذه الطائرات تمكنت من إعطاب بطارية لمنظومة "هيمارس" الأمريكية، وقد تكون منظومة "ايرس – تي" الألمانية مهمة في هذه الحالة، حيث تتعامل مع عشرات الأهداف قصيرة ومتوسطة المدى، لكن الإشكالية أن برلين لم تقدم سوى واحدة منها هذا العام، على الأغلب سيتم نشرها في موقع الحى الحكومي أو الدبلوماسي بعد أن اقتربت طائرة من قنصليتها في العاصمة.

تشكل هذه العوامل مصدر إلحاح كييف على الحصول على منظومات "القبة الحديدية" أو "باراك 8" وغيرها، فيما لا يعتقد أن إسرائيل ستسارع إلى إمداد أوكرانيا بتلك المنظومات، فوفقاً للرد الإسرائيلي، هناك صعوبات في تشغيل هذه المنظومات في الساحة الأوكرانية، وربما سيتطلب ذلك إرسال قوة إسرئيلية إلى أوكرانيا، ما يجعلها هدفاً لكل من روسيا وإيران، وهو ما تخشى منه إسرائيل، لكن في الوقت ذاته طلب وزير الدفاع بيني غانتس معلومات إضافية من كييف حول طبيعة الاحتياجات الدفاعية، بينما ستقرر إسرائيل بناءً على ذلك ما الذي يمكن إرساله، أو اعتماد بدائل أخرى لتطوير منظومة إنذار مبكر، وسيستغرق هذا السياق أيضاً المزيد من الوقت، بينما تراهن كييف على تل أبيب التي سبق واتهمتها بالتقاعس عن دعمها أو محاولة دعم روسيا، التي تحتاج إليها في الساحة السورية التي تشكل أولوية بالنسبة لإسرائيل إذا ما قورنت بأوكرانيا، وليس من مصلحة إسرائيل التضحية بهذه المصالح مرة واحدة بدون مقابل.

ربما سيتعين على إسرائيل تقييم الموقف من هذه الزاوية، وقد تضاعف واشنطن دعمها لـ"القبة الحديدة" كمقابل، ففي الفترة الأخيرة عمل الطرفان على تحويلها إلى منظومة متعددة الطبقات، وربما سيكون لانعكاس التقارب ما بين إسرائيل وتركيا دور أيضاً في هذا السياق، خاصة في ظل المتغيرات الراهنة على الساحة السورية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الساحة هي مسرح عمليات خلفي رئيسي لروسيا، حيث تنقل المزيد من الصواريخ الاستراتيجية إلى هناك.

السيناريو الآخر في هذا الصدد، هو عدم مغامرة إسرائيل بقلب هذه الموازين، بالاكتفاء بنقل خبرات دفاعية إلى أوكرانيا، خاصة منظومات التشويش الفعالة في مواجهة "شاهد 136" التي تحتاج إلى تفعيل نظام (GPS)، بالنظر إلى أن بعض التجارب العملية الميدانية الإسرائيلية تشير إلى أن إسرائيل عملت على السيطرة في المقام الأول على الدرونز التي تخترق المجال الإسرائيلي من لبنان أو الجولان، حيث تخترق أنظمة التشغيل الإلكترونية. هذا المنظور شكل دافعاً لدى إيران في رفض إمداد موسكو بأنواع أخرى من الطائرات التي تخشى من السيطرة عليها وفحصها. 

كيف يبرر الأطراف الدعم المتبادل؟

تطرح كل من طهران وتل أبيب صيغاً لتبرير طبيعة الدعم الذي تقدمه كل منهما لأطراف الحرب، تفادياً لعدم خلط الأوراق والحسابات الخاصة بكل منهما في الحاجة إلى الإبقاء على علاقات متوازنة مع كل من روسيا وأوكرانيا. لكن بمرور الوقت ستتعقد هذه العملية باتجاه الاستقطاب التدريجي والاضطراري. وفي واقع الأمر، هناك تلميحات واضحة من كلا البلدين فى هذا الاتجاه، فعلى سبيل المثال أشارت مصادر دبلوماسية إيرانية إلى أن إيران قد تكون معنية بالطرف الذي تبيع له "الدرونز"، لكنها ليست معنية أين وكيف يستخدمها، وتمثل هذه الصيغة نوعاً من "إخلاء المسئولية" وفقاً للرواية الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك، فإن موسكو غيرت من الشكل الخارجي للطائرات، كما أطلقت على الطائرة "شاهد 136" اسم "جيران-2" (Geran-2).

لم تكن الرواية مقنعة، فوفقاً لتقارير البنتاجون، هناك تواجد لعناصر من الحرس الثوري في القرم- مركز العمليات الرئيسي للدرونز- كما أن تلك الطائرات تنفجر بمجرد اصطدامها بالهدف، وبالتالي من السهولة بمكان التعرف على محتوياتها، وبالفعل فإن محتوياتها تتطابق بما لا يدع مجالاً للشك مع الطائرة الإيرانية، لذا قامت الولايات المتحدة ثم بريطانيا بفرض عقوبات على شركات الحرس الثورى المنتجة لها (بارافار بارس، التي تصمم وتصنع المحركات، وبهارستان كيش المسئولة عن الإنتاج والتطوير). 

على الجانب الآخر، فإن إسرائيل سعت في البداية إلى تقديم تبرير يستند إلى الدعم الإنساني، مؤكدة أن مواصلة الدعم يرتبط بتحسين قدرات الدفاع لدى الأوكرانيين. لكن يبدو أن الطلب على الدعم الدفاعي لمواجهة التهديدات التي تشكلها المنظومات الإيرانية لم يعد أوكرانياً فحسب، حيث كان بيني غانتس يتحدث عن تطوير الدعم في لقاء مع سفراء الاتحاد الأوروبي، ما يمكن التصور معه أن هناك طلباً أوروبياً أيضاً يدعم الموقف الأوكراني وربما محاولة لدفع الجانب الإسرائيلي إلى التجاوب السريع مع تلك المطالب.

عملياً، يمكن تصور أنه لم يكن هناك توجه إسرائيلي-إيراني للتصعيد بعيداً في أوكرانيا، لكن حتى لو لم تكن هذه الفرضية قائمة من قبل، إلا أنها أصبحت قائمة بغض النظر عن حقيقة التوجهات التي يتبناها كل طرف. وبالإضافة إلى ما يتعين على كل منهما تقديمه لطرفي الحرب، فإن كلاً منهما سيختبر أدواته الهجومية والدفاعية في ساحة حرب مفتوحة وطويلة الأمد، وبالتالي من المتوقع تطوير كل منهما لقدراته في هذه الحرب التي تعد ساحة تجارب للأسلحة والدفاعات.

لكن إجمالاً، ما يجب وضعه في الحسبان هو مدى تطور مشهد الحرب بشكل عام. فبالتدريج تجري عملية تشكيل مقاربات لفزر اصطفافات جديدة، بدأت تضم أطرافاً من الشرق الأوسط، بغض النظر عن موقفيهما الصراعي تجاه بعضمها البعض. وكانت الحروب العالمية السابقة تنطوي على مشاهد من هذا النوع، ومن ثم يخشى انفجار هذه الحرب واتساع دائرتها. وتشير التطورات الميدانية الراهنة إلى أن دائرة هذه الحرب قابلة لهذا السيناريو وفقاً للشواهد المرحلية أكثر من أي وقت مضي.