تحولت ظاهرة الإرهاب، في العقود الأخيرة، إلى واحدة من أهم وأعقد الظواهر التي تواجه المجتمعات، وقد سار تطور هذه الظاهرة وفق نمط يقوم على بروز العديد من الجماعات التي قد تختلف في منطلقاتها الفكرية، لكنها تتفق في أولوية استخدام العنف من أجل تحقيق الرؤى الأيديولوجية والسياسية. إن استمرار هذا النمط وتطور جماعات العنف بشكل عام، يخضع لبعض المحددات الرئيسية، التي يقع في القلب منها وجود سياقات محفزة لبروزها ونشاطها وفاعليتها، منها الحروب بشكل عام. إذ إن الحروب، سواءً التقليدية أو الأهلية أو الهجين، تخلق حالة من عدم الاستقرار والفوضى الأمنية، ويستفيد من هذه الحالة بشكل رئيسي الجماعات التي تنازع الدول في شرعيتها، وتوظف العنف من أجل تحقيق رؤاها “الفاعلون المسلحون دون الدول”. ومع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، وما صاحبها من تطورات، بدأت العديد من الدوائر الأمنية في طرح تساؤلات تحاول الوقوف على ارتدادات الحرب الأوكرانية المحتملة على ظاهرة الإرهاب في العالم، وكيف ستؤثر هذه الحرب فى نشاط جماعات العنف، ومحددات تعاطي هذه الجماعات مع الحرب، وكيف ستسعى إلى توظيفها.

تسعى هذه الدراسة للبحث في التأثيرات المحتملة للحرب الروسية - الأوكرانية على ظاهرة الإرهاب في العالم، انطلاقًا من بعض الفرضيات الرئيسية، وعلى رأسها وجود علاقة بين الحروب بشكل عام وظاهرة الإرهاب. كذلك، فإن اتخاذ ظاهرة الإرهاب، في العقود الماضية، وبالتحديد منذ حرب أفغانستان وما صاحبها بعد ذلك من تشكيل تنظيم القاعدة، مرورًا بهجمات 11 سبتمبر 2001، وصولًا إلى الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، لطابع “معولم” زاد من حجم الارتباط بين الظاهرة ومختلف الأحداث العالمية المهمة، بما في ذلك حرب روسيا وأوكرانيا، فضلًا عن أن العديد من الأدبيات السياسية ذهبت إلى أن الفاعلين المسلحين دون الدول، خصوصًا “الفاعلين الهوياتيين”، باتوا اليوم الفاعل الرئيسي المحدد لمسار العديد من التفاعلات في العالم.

انطلقت الدراسة، في محاولتها للوقوف على الارتدادات المحتملة للحرب الروسية - الأوكرانية على ظاهرة الإرهاب المعولم، من رصد بعض المؤشرات والتحركات التي صاحبت انطلاق الحرب في 24 فبراير 2022، وهي التحركات التي ربما تفتح الباب لاستثمار تنظيمات التطرف والإرهاب للحرب بما يخدم مشروعاتها الراديكالية. وكان من أبرز هذه المؤشرات ما عُرف بـ “ظاهرة المقاتلين الأجانب”، حيث توسعت الدولتان في توظيف المتطوعين والمرتزقة والمقاتلين الأجانب، حتى إن تقارير تحدثت عن توظيف عناصر منتمية لتنظيمات إرهابية في إطار الحرب، وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام العديد من التحديات، خصوصًا أن العالم سيواجه بهذا الشكل أزمة “عائدون” جدد. كذلك، كان تعاطي التنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية مع الحرب أحد المؤشرات الرئيسية التي عبرت عن احتمال تحول الحرب إلى نقطة انطلاق لموجة إرهاب جديدة، فضلًا عن توسع الدولتين في عمليات تسليح المدنيين وتجنيد المساجين بمختلف أنواعهم، بما ينطوي عليه هذا التوجه من تهديدات أمنية كبيرة.

أما المستوى الثاني من الدراسة فقد ركز على محاولة الوقوف على الانعكاسات المحتملة للحرب فى أوكرانيا على ظاهرة الإرهاب، من خلال رصد بعض الارتدادات، وعلى رأسها أن العالم سيواجه أزمة “عائدون” جدد، خصوصًا في ضوء الانخراط الكبير للمقاتلين الأجانب والمتطوعين والمرتزقة في الحرب، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول الجهة المقبلة لهؤلاء في مرحلة ما بعد الحرب، وحجم التهديد الذي يمثله هؤلاء. كذلك ستؤثر الحرب فى جهود مكافحة الإرهاب، وذلك في ضوء انشغال القوى الدولية الرئيسية بالحرب وتداعياتها، الأمر الذي جاء على حساب ملفات دولية مهمة كالإرهاب. ودون شك، كان الارتداد الأهم للحرب حتى الآن ذو طابع اقتصادي، وذلك في ضوء الأزمات الحادة التي يعيشها الاقتصاد العالمي بفعل الحرب، ما يعزز من قدرات تنظيمات العنف على ممارسة عمليات التجنيد، استغلالًا للأوضاع الاقتصادية المأزومة، خصوصًا في الدول النامية.

في السياق نفسه، ربما تدفع الحرب باتجاه زيادة اعتماد القوى الدولية على فكرة “الحرب بالوكالة” ما يعني إمكانية لجوء بعض الدول لتوظيف جماعات إرهابية من أجل تحقيق أهداف بعينها، أو ضرب مصالح الخصوم، خصوصًا مع تحول الحرب بالنسبة للمعسكر الغربي إلى “حرب استنزاف” يسعى فيها إلى تكبيد روسيا أكبر قدر ممكن من الخسائر، بعيدًا عن فكرة الانتصار أو الهزيمة. أيضًا، فإن الحرب الروسية - الأوكرانية وما صاحبها من موجات هجرة كبيرة، خصوصًا للقارة الأوروبية، تطرح تحديًا كبيرًا يتمثل في إمكانية انتقال العديد من المجموعات والعناصر الإرهابية إلى القارة الأوروبية، عبر التخفي في المهاجرين، الأمر الذي يزيد من التحديات التي تواجهها منظومة الأمن الأوروبي.

فيما يناقش المستوى الثالث والأخير من الدراسة بعض المحددات التي قد تحكم مسار وطبيعة “إرهاب” ما بعد الحرب الأوكرانية. من بين هذه المحددات المدى الزمني للحرب، حيث تجادل الدراسة بأنه كلما زاد المدى الزمني للحرب كلما زاد ذلك من قدرة تنظيمات العنف على إعادة بناء هياكلها وممارسة أنشطتها وزيادة فاعليتها. كذلك، فإن تعامل حكومات العالم، خصوصًا في الدول التي قد تكون وجهات محتملة للعائدين من أوكرانيا، مع مصادر التهديد التي رتبتها الحرب، سوف تكون أحد المحددات الحاكمة لطبيعة الإرهاب في مرحلة ما بعد الحرب، لاسيما فيما يتعلق بالوقوف على مصادر التهديد، وأوزانها النسبية، وسبل مواجهتها والتعاطي معها.

كذلك تربط الدراسة بين عودة بعض الدول، التي كانت تعاني أزمات خانقة منذ سنوات، مثل: العراق وليبيا واليمن وسوريا، إلى مربع عدم الاستقرار، وهو اعتبار يعزز من فرضية تنامي النشاط الإرهابي في المراحل المقبلة خصوصًا عقب انتهاء الحرب، فضلًا عن أن الدراسة تفترض أن الصيغة التي ستُحسم بها الحرب الروسية - الأوكرانية سوف تكون مؤثرة فى اتجاهات النشاط الإرهابي في مرحلة ما بعد الحرب. فلو انتهت الحرب لمصلحة انتصار عسكري كبير لروسيا، قد تُقدم بعض المجموعات الأوكرانية والأوروبية الموالية لأوكرانيا على تنفيذ العديد من العمليات التي تدخل في نطاق العنف والإرهاب.

أخيرًا، تذهب الدراسة إلى أن الحرب الروسية - الأوكرانية وما صاحبها من ارتدادات سوف تدفع باتجاه تنامي الأنشطة الإرهابية، وذلك في ضوء تعزيزها لحالة الاستقطاب والحرب الباردة التي تشهدها البيئة الدولية، وما يُعرف لدى تنظيمات العنف والإرهاب بـ”فقه استغلال الأزمات”، وتوجه العديد من التنظيمات إلى الاستفادة من الظروف التي خلفتها الحرب من أجل إعادة التموضع وتعزيز الحضور.