السيد صدقي عابدين

باحث في العلوم السياسية - متخصص في الشئون الآسيوية

 

تتوالى التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، وفي نفس الوقت تتكثف المناورات العسكرية التي تجريها الولايات المتحدة مع كوريا الجنوبية منفردة أو معها ومع اليابان مجتمعين. كلا الطرفين يقول إن ما يقوم به غرضه دفاعي. وكلا الطرفين يصف ما يقوم به الطرف الآخر على أنه استفزاز. والمتوالية مستمرة، وبدأت تأخذ أبعاداً أكثر خطورة في ظل ليس فقط الأحاديث عن الاستخدام الفعلي للسلاح النووي من قبل كوريا الشمالية، وإنما الإعلان عن تدريبات على هذا الاستخدام، وفي نفس الوقت تتعالى الأصوات في كوريا الجنوبية بالمزيد من الحماية النووية الأمريكية، بما في ذلك نشر ذلك النوع من الأسلحة على الأراضي الكورية الجنوبية. فإلى أي مدى يمكن أن تصل الأمور في تلك المنطقة الساخنة؟.

مؤشر متصاعد

بعد سنوات من التهدئة النسبية، عادت الأمور إلى التصعيد التدريجي، والذي وصل ذروته في هذه الأثناء، حيث بدأت التوصيفات تتغير، ومن ثم الترتيبات تتبدل. فكوريا الشمالية التي لم تعد عدواً في المنظور الكوري الجنوبي زمن إدارة مون جي ـ إن (مايو 2017 - مايو 2022) عادت لتوصف بالعدو في ظل إدارة يون سيوك ـ يول، مع كل ما يترتب على مثل هذا التوصيف من استعدات وتجهيزات سواء على الصعيد الوطني أو بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من القوى، وكذلك التحرك على الصعيد الدولي.

وفي المقابل، لا يمكن توقع صمت كوريا الشمالية أمام ذلك الذي يحدث في الجنوب، وهي التي دائماً ما تؤكد على أنها مستهدفة، وأن التحالف الأمريكي الكوري الجنوبي موجه ضدها. وعقيدتها تلك لم تتغير حتى في فترة التهدئة في السنوات الماضية. وحتى بعدما توقف الحوار الأمريكي - الكوري الشمالي، ظلت بيونج يانج ترفض الاستجابة لعروض الحوار من قبل واشنطن، سواء في ظل إدارة ترامب أو إدارة بايدن، والتي ظلت تؤكد على استعداها للحوار مع بيونج يانج دون أية شروط، وإن كانت تسعى في ذات الوقت لفرض المزيد من العقوبات على الأخيرة، ولا تصمت أو تقلل مما تقوم به كوريا الشمالية كما كانت تفعل إدارة بايدن أحياناً.

 كما لم تستجب كوريا الشمالية لنداءات إدارة مون جي ـ إن بعدما كانت قد عقدت أكثر من قمة بين الجانبين وتم التوصل لبعض الاتفاقيات المهمة. بل إنها قامت بإجراءات تدل على مدى الغضب الذي وصلت إليه من قبيل تفجير مكتب الاتصال بين الجانبين في مدينة كايسونج، وشروعها في تفكيك بعض المنشآت في أحد المشاريع السياحية المشتركة على أراضيها. وحتى إدارة يون سيوك ـ يول وإن كانت قد رفعت من سقف لهجتها تجاه كوريا الشمالية إلا أنها لم تغلق باب الحوار، وقد أطلق الرئيس مبادرة خاصة بتخلي كوريا الشمالية عن أسلحتها النووية مقابل تقديم مساعدات لها. وكان الرد الكوري الشمالي على هذه المبادرة قاسياً لفظياً، وتبعه إقرار القانون الذي يوضح عقيدتها النووية، والحالات التي تستخدم فيها.

في هذا الجو المشحون بالمفردات الحادة، تتابعت التجارب الصاروخية الكورية الشمالية لتتجاوز منذ بداية العام وحتى الثاني عشر من شهر أكتوبر الحالي (2022) الأربعين تجربة صاروخية حسب المصادر الكورية الجنوبية. وقد شملت هذه التجارب كل أنواع الصواريخ تقريباً، القصيرة والمتوسطة والعابرة للقارات. بعضها أعلنت عنها بيونج يانج صراحة وتباهت بها واعتبرتها حقاً أصيلاً ومشروعاً لها في إطار دفاعها عن النفس، وأنها لا تشكل أي تهديد للجيران. ومؤخراً كان من بين ما أعلن عنه تجارب صاروخية تحاكي استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، وهي التجارب التي قيل إن كيم جونج ـ أون قد أشرف عليها بنفسه.

إذا كانت بيونج يانج لا تفصل فيما تعلنه عن تجاربها الصاروخية بينها وبين المناورات التي تقوم بها واشنطن وسول وطوكيو، فإن هذه الأطراف في المقابل تربط بين ما تقوم به وسلوك كوريا الشمالية، وتذهب كما تذهب كوريا الشمالية إلى أن مناوراتها دفاعية، وأنها لا تستهدف بيونج يانج كما تقول الأخيرة. وإذا كانت بيونج يانج تسمي ما تقوم به تلك الأطراف بأنه استفزاز، فإن تلك الأطراف تصف سلوك بيونج يانج بأنه استفزاز. وتصبح المعضلة في تلك المتوالية من الذي يستفز من؟ وكيف لمقترحات الحوار أن تجد قبولاً في هذا الجو؟.

واقع معقد

الأمور في شبه الجزيرة الكورية وحولها وصلت إلى درجة عالية من التعقيد ليس فقط في ظل متوالية التصعيد تلك، وإنما في ظل حالة عامة من التوتر الدولي. فالعلاقات الأمريكية-الروسية في أدنى درجاتها منذ نهاية الحرب الباردة على خلفية النزاع في أوكرانيا. وعلاقات واشنطن مع بكين تراجعت كثيراً وتوترت كثيراً أيضاً على خلفية قضايا كثيرة من بينها قضية تايوان. وعلى الرغم من سخونة الموقف مع موسكو أكثر، فإن واشنطن تعتبر بكين هي التهديد الأكبر لها. وفي هذا السياق، تنحاز بيونج يانج بشكل واضح وصريح إلى جبهتي موسكو وبكين. والأخيرتان تذهبان منذ فترة إلى أنه من المهم مراعاة مخاوف كوريا الشمالية، وتقديم بعض المحفزات لها، ومن بينها تخفيض العقوبات. وهذا نهج مخالف تماماً لما تنادي به واشنطن وحلفائها.

التعقيد تزداد خطورته في ظل الوصول إلى حالة إجراء تدريبات على الاستخدام الفعلي للأسلحة النووية التكتيكية من قبل بيونج يانج، ومن ثم السعي الكوري الجنوبي لتأمين أشد ضد هذه التهديدات، سواء كان عبر الولايات المتحدة، أو ربما بالسعي ولو في المستقبل إلى حيازة السلاح النووي أيضاً. وفي هكذا مناخ، تتراجع كثيراً فرص استئناف الحوار، فكوريا الشمالية تقولها صراحة إنها لم تعد معنية بالحوار، ولن تسعى إليه. وهذا موقف مختلف عن موقفها منذ ثلاث سنوات وشهرين بالضبط عندما أعلنت في شهر أغسطس من العام 2019 أنها وعلى الرغم مما تقوم به واشنطن وسول من إجراءات استفزازية حيالها (المناورات) مع العلم أن مستوياتها كانت قد خفضت كثيراً، على الرغم من ذلك فإنها تظل متمسكة بالحوار، وإن كانت لم تخف الأثر السلبي لسلوك واشنطن وسول على مثل هذا الحوار. وهكذا فبعدما كان الحديث عن إجراءات لنزع السلاح النووي، بات الحديث عن الاستخدام الفعلي لهذا السلاح مع السعي لتطوير وتحديث ما هو موجود، وبعدما كان الحوار محفوفاً بالمخاطر بات مرفوضاً بالكلية.

مستقبل ملبد

في هذه الصورة الفسيفسائية التي تجتمع فيها عروض الحوار غير المشروطة والرفض المطلق لها، والتصعيد المتبادل، والتباين الشديد بين كل من واشنطن وموسكو وبكين، ما الذي يمكن توقعه في هذه المنطقة من العالم؟

بداية، فإن واشنطن وسول تتوقعان منذ فترة إجراء تجربة نووية جديدة من قبل بيونج يانج. وقد حددت الاستخبارات الكورية الجنوبية التاريخ الذي يمكن أن تجرى فيه مثل هذه التجربة بين السادس عشر من شهر أكتوبر والسابع من شهر نوفمبر (2022). وإذا كانت التجربة متوقعة، فما الذي يمكن أن يحدث بعدها. ليس هناك إجراءات محددة أعلن عنها، لكن الأحاديث تدور حول عدم مرور الأمر مرور الكرام. وهنا تطرح الكثير من المسائل من بينها فرض مزيد من العقوبات الأحادية من قبل سول وواشنطن وطوكيو وغيرها من العواصم، وكذلك السعي لقرار جديد من مجلس الأمن يفرض المزيد من العقوبات. وهنا، هل ستجد موسكو وبكين نفسيهما مضطرتين لتمرير هذا القانون ولو كان ذلك بعد تخليصه من بعض البنود، بحيث يصبح أقرب إلى التأكيد على القرارات السابقة أم أنها ستستمر في تعطيل صدور قرارات جديدة من المجلس بهذا الخصوص؟. ربما تضغط موسكو وبكين على بيونج يانج لئلا تقوم بهذه التجربة أصلاً لتجنب مثل هذا الموقف. وليس هناك ثمة ضمانة لأن تستجيب بيونج يانج لمثل هذه الضغوط على الرغم من خصوصية علاقاتها مع البلدين.

وسواء أجريت التجربة النووية السابعة أم لم تجر، وسواء فرضت عقوبات إضافية على بيونج يانج أم بقى الأمر على حاله، وسواء صدر من مجلس الأمن قرار جديد أم لم يصدر، هل يمكن أن تنزلق الأمور إلى مواجهات مسلحة في هذا الجو المشحون؟، وما هو المدى الذي يمكن أن تصل إليه تلك المواجهات؟.

 كما هو معلوم فعلياً، فإن حالة الحرب لم تنته في شبه الجزيرة الكورية، حيث مازال اتفاق الهدنة هو الحاكم، وشهدت سنوات ما بعد الحرب الكورية (1950-1953) مواجهات عسكرية برية وبحرية لكنها ظلت في النطاق الطارئ والمحدود وغير الممتد، فهل يمكن لمثل هذه الاشتباكات أن تتكرر؟.

يظل الاحتمال قائماً، لكن ألا يمثل العامل النووي رادعاً للوصول إلى مثل هذه النقطة؟، حيث تدرك كل الأطراف خطورة الانزلاق ولو إلى مواجهة عسكرية تقليدية شاملة، وهذا ما ظلت كل الأطراف حريصة عليه على مدار عقود. وعلى الأغلب، فإنها ستكون أكثر حرصاً على أن لا يحدث ذلك في ظل وجود العامل النووي. لكن هذا يفترض رشادة الحسابات وعدم الوقوع في شرك سوء التقدير والحسابات الخاطئة.

إذن، فالمطلوب هو تقليل حدة التوتر حتى لا يقع المحظور. وفي هذه الأجواء، كيف يمكن حدوث ذلك؟. يحتاج الأمر إلى تصرفات متزامنة ومتبادلة. ولعل البداية تكون بتقليل حالة الاحتقان في الخطاب ولهجة التلاسن، وتراجع لغة التهديد، وهذا أمر ليس باليسير تحقيقه لكن النتيجة المرجوة تستحق. وبعد ذلك، يمكن أن تكون هناك إجراءات من قبيل التراجع عن بعض المناورات المعلن عنها أو تقليل مستوياتها، وفي نفس الوقت تراجع مستوى التجارب الصاروخية الكورية الشمالية أو توقفها لفترة، وهذا أيضاً ليس بالأمر الهين لكنه ليس مستحيلاً خاصة وأن كل طرف قد أوصل رسالته للطرف الآخر.

ويبقى السؤال: هل يمكن أن تعود الأطراف إلى الجلوس على طاولة المفاوضات مرة أخرى على الرغم مما وصل إليه مستوى الثقة بينها؟. تظل الإمكانية قائمة رغم كل ما حدث وقيل. ولعل الانفراجة الكبرى بين بيونج يانج واشنطن قد جاءت بعد تصعيد كبير أيضاً بين الجانبين، حيث كان ترامب قد أعلن عن تخلي إدارته عن استراتيجية الصبر الاستراتيجي التي اتبعتها إدارة سلفه باراك أوباما حيال كوريا الشمالية، متوعداً بإجراءات غير مسبوقة، كما أن التلاسن بينه وبين كيم كان مفتوحاً. وبعد كل ذلك عقدت أول قمة أمريكية-كورية شمالية، ومعروف ما تلاها. إذن، فالتصعيد لا يعني دائماً الاستبعاد الكلي للتفاوض. وقد يقال إن متغير القيادة في كوريا الجنوبية قد لعب دوراً فيما حدث عامي 2018 و2019، وهذا صحيح، بل إن الخبرة التاريخية تثبت مدى تأثير هذا العامل خاصة عندما عقدت أول قمة بين الكوريتين منتصف العام 2000 في ظل سياسة "الشمس المشرقة" التي اتبعها الرئيس كيم داي جونج، وكذلك السياسة التقاربية التي اتبعها الرئيس روه مو هيون وعقدت خلال فترة حكمه القمة الثانية في  أكتوبر من العام 2007. ويلاحظ أن التقارب كان يحدث في ظل حكم الإدارات الليبرالية في كوريا الجنوبية، فهل معنى ذلك أن الأمر في حاجة للانتظار لخمس سنوات على الأقل؟.

 قد لا يكون الأمر كذلك بالضرورة، ولا يجب إغفال أن المسألة لا ترتبط بكل من واشنطن وسول فقط، فمن المهم أن تتزحزح بيونج يانج عن موقفها فيما يتعلق بالحوار. وحتى هذا ليس بالمستحيل، لكن على أي شيء يمكن أن تفاوض بيونج يانج خاصة وأنها لم تعد تقبل بالتفاوض حول نزع سلاحها النووي، وكذلك يبقى دور كل من موسكو وبكين مهماً في هذا السياق.

القراءة التاريخية لما جرى في شبه الجزيرة الكورية على مدار سبعة عقود ونيف تثبت أن التصعيد والتهدئة والحوار والقطيعة قد مرت بدورات، وأن هذه الدورات كانت وثيقة الصلة بما يجري من تفاعلات على قمة النظام الدولي، فهل ستكون الدورة القادمة كسابقاتها أم أنها ستدور على عكس عجلة دوران تفاعلات ذلك النظام؟.