صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

دخل المشهد السياسى فى العراق، بعد ذكرى الأربعينية الحسينية، وتحديداً منذ منتصف سبتمبر 2022، مرحلة من «الهدوء النسبى» عقب أحداث دامية شهدتها ساحات المنطقة الخضراء خلال شهرى يوليو وأغسطس من العام نفسه، على إثر الأزمة السياسية المحتدمة بين المكون السياسى الشيعي، المنقسم بين قوى الإطار التنسيقى وبين تيار الصدر، حول تشكيل الحكومة واختيار الرئاسات (رئيس الدولة، ورئيس الحكومة)، وما أدت إليه هذه الأزمة من تأثيرات حادة على مسيرة الصراع القائم فى العراق بين التيار الشيعي-الشيعى من ناحية، وعلى مسيرة الصراع السياسى حول مستقبل العراق كدولة وطنية من ناحية ثانية.

فراغ سياسى وتطورات نوعية

يبدو من تطور الأحداث التى تلت الذكرى الأربعينية أن مستوى التهديد برفع وتيرة المواجهات المسلحة بين تيار الصدر وبين خصومه من قوى الإطار التنسيقى عبر الشارع قد تراجع بشكل ملحوظ، وبدا حراك التيار الصدرى نفسه عبر الشارع منعدماً خلال الأسابيع الأخيرة الماضية، حيث غاب أنصاره عن التظاهرات التى قامت بها «قوى التغيير» على خلفية الذكرى الثالثة لحراك أكتوبر 2019، ما يبدو أنه «التزام» ضمنى من قبل الصدر بعدم الدفع –مؤقتاً- بأنصاره إلى ساحات التظاهر انتظاراً للخطوات المرتقبة من قبل قوى الإطار التنسيقى وعدد من الرموز السياسية الأخرى، والتى تروج لاحتمالات عقد لقاء يجمع مقتدى الصدر بكل من زعيم تحالف الفتح هادى العمري، ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، ورئس إقليم كردستان نيجرفان برزانى، لمناقشة ثلاثة ملفات تشكل محور الأزمة السياسية والصراع بين الصدر وعدد من قوى الإطار التنسيقى وهى: تشكيل حكومة انتقالية «كاملة الصلاحيات»، والتهيئة لانتخابات برلمانية مبكرة، وحل البرلمان.

فى المقابل، ثمة تغييرات نوعية طرأت على خريطة التفاعل بين القوى السياسية كان أبرزها: التحول فى موقف حلفاء تيار الصدر من التيارات السياسية السنية المعروفة بتحالف السيادة، والحزب الديمقراطى الكردستانى وهو تحول بدا أنه يبتعد خطوات عن الحليف الصدرى ويقترب بدرجة ما من خصومه فى الإطار التنسيقى، حيث وافقت القوى المذكورة على تشكيل ما يعرف بـ «ائتلاف إدارة الدولة» مع قوى الإطار، وهو ائتلاف حصر هدفه السياسى فى تشكيل «حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة» تمهد الوضع السياسى لإجراء انتخابات برلمانية جديدة، ما يعنى خروج تلك القوى من البوتقة الصدرية التى ظلت طوال التسعة الشهور الماضية تركز جل اهتمامها على تشكيل «حكومة وطنية غير محاصصية»، فضلا عن إرباك حسابات الصدر المقبلة بشأن تعاطيه مع خطوات الإطار تجاه اختيار الرئاسات.

أما التحول النوعى الثانى فتمثل فى إعلان رئيس البرلمان محمد الحلبوسى استقالته من منصبه فى 26 سبتمبر الماضى، وبالرغم من عدم «محورية» دور رئيس البرلمان فى الأزمة السياسية التى يواجهها العراق، إلا أن الاستقالة بدت وكأنها «اختبار» لردود فعل زعيم التيار الصدرى بشأن انعقاد أول جلسة للبرلمان بعد أحداث اقتحامه من قبل أنصار الصدر فى يوليو الماضي. وبالفعل، جاء رفض أعضاء البرلمان بالأغلبية للاستقالة، خلال الجلسة التى نجح البرلمان فى عقدها يوم 27 سبتمبر الماضى، متماهية مع سياق التفاعل السياسى من قبل خصوم الصدر من «الإطاريين» والذين يسعون إلى عودة انعقاد البرلمان لمناقشة تشكيل الحكومة وسبل إجراء التعديل على قانون الانتخابات قبل التقدم فى مسار التمهيد للانتخابات المبكرة.
فى ظل هذه التطورات، جاء التحول النوعى الثالث من قبل قوى التغيير، أو ما يعرف بـ«قوى حراك تشرين» على هامش إحيائها لذكرى حراك أكتوبر 2019، بإصدارها بيانا قالت فيه إن هدفها «هو تغيير النظام السياسى القائم وتصفير العملية السياسية القائمة برمتها، ليتسنى للعراقيين بناء نظام سياسى جديد، بدستور وعقد اجتماعى جديد». ورغم الأهمية النسبية للبيان وأهدافه، إلا أن سيطرة القوى التقليدية الشيعية والسنية والكردية على مجريات العملية السياسية فى العراق تضع «قوى التغيير» كرقم مهم لكنه غير مؤثر فى مسار تفاعلات المشهد السياسى التى تحتكرها القوى التقليدية بمكوناتها السياسية الثلاثة على الأقل فى الوقت الراهن.

مؤشرات تجاوز الانسداد السياسي

هذه التطورات تعكس مؤشرات تقول بأن ثمة تحركات نوعية جديدة تحاول أن تتجاوز حالة الانسداد السياسى التى مازالت قائمة، وأدت إلى تجاوز كافة التوقيتات الدستورية التى تحدد اختيار رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وأن القوى السياسية تحاول التعامل مع الواقع الذى فرضه التيار منذ انسحابه من البرلمان، وهنا تحديداً تتصدر المشهد محاولات قوى الإطار التى تبدى حالة من المرونة تجاه مطالب الصدر وفى مقدمتها زعيم تحالف الفتح هادى العمرى وزعيم تيار الحكمة عمار الحكيم بالإضافة إلى حيدر العبادى زعيم ائتلاف النصر وهى محاولات تستهدف تقريب وجهات النظر مع التيار بعيداً عن تأثير قوى الإطار المتشددة ممثلة فى قيس الخزعلى زعيم كتائب أهل الحق ونورى المالكى زعيم ائتلاف دولة القانون، وهو ما يعكس حقيقة إصرار تلك القوى على «استرضاء» الصدر- ولو عند حدود معينة- تجاه الخطوات المقبلة بشأن حلحلة أزمة تشكيل الحكومة وأولها تعثر التوافق على مرشح يحظى بقبول التيار.

فى اتجاه مقابل، ثمة قراءات تقول إن خطوة استرضاء الصدر باتت تفقد أهميتها بمرور الوقت، لا سيما بعد فقدان التيار لحلفائه من القوى السياسية السنية والكردية واقترابهم من خصومه فى الإطار. ومع وجاهة هذا التصور، فإن عملية الإلغاء الكامل للتيار الصدرى من مجمل تفاعلات القوى السياسية تجاه تحريك أزمة اختيار الرئاسات تبدو «صعبة» وإن لم تكن «مستحيلة» لكون ردود الفعل غير المحسوبة التى دائماً ما يبديها تيار الصدر تجاه تطورات الأحداث ترفع كثيراً من «الكلفة» الأمنية والسياسية التى ستواجهها الحكومة الجديدة التى يسعى الإطار إلى الدفع بها خلال الأسابيع المقبلة.

مما سبق يبدو أن ثمة محاولات تستهدف الخروج من حالة الفراغ السياسى الرئاسى والحكومى التى يعيشها العراق، لكنها محاولات تتأرجح بين التقدم نحو «حلول فعلية» تسترضى الصدر وتضمن عدم تصدير اعتراضه السياسى إلى ساحات المنطقة الخضراء والمحافظات مستقبلاً، وبين العدول عن عملية الاسترضاء هذه بالنظر إلى التطورات السابق ذكرها. هذا التأرجح يعنى أن خيار الحل السياسى للأزمة لا يزال يمر بمرحلة «صعبة» تتطلب «تنازلات» متبادلة من قبل القوى السياسية المتصارعة.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 9 أكتوبر 2022.