د. محمد فايز فرحات

مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

اجتهادات عديدة مازالت تحاول التأصيل لمفهوم وملامح الجمهورية الجديدة منذ أن أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسى هذا المفهوم فى مارس 2021. أحد الملامح المهمة التى يمكن طرحها هنا، استنادا إلى مجموعة من الوثائق المصرية التى صدرت خلال السنوات الأخيرة، هى قيمة الحوكمة Governance. الحوكمة تشير -وفق أحد تعريفاتها- إلى مجموعة من الأنظمة والضوابط التى تنظم العلاقات بين أصحاب المصلحة، وتحقق مجموعة من المبادئ كالعدل والشفافية والمساواة. هذه الأنظمة والضوابط يمكن أن تتحقق من خلال القوانين، أو المؤسسات الرقابية المختلفة، والتى تخدم فى التحليل الأخير تعزيز قيم العدل والشفافية والمساواة. مصر لديها مؤسسات رقابية مالية وإدارية ذات خبرات تاريخية رصينة. لكن الجديد فى مجال تعزيز الحوكمة هو إصدار مجموعة من الوثائق المهمة ذات الطابع الاستراتيجى خلال السنوات الأخيرة، أهمها استراتيجية التنمية المستدامة: «رؤية مصر 2030» (فبراير 2016)، والاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بمراحلها المختلفة (2014- 2018)، (2019- 2022)، والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان: 2021- 2016 (سبتمبر 2021)، والاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ فى مصر 2050 (مايو 2022)، والاستراتيجية الوطنية لحقوق الملكية الفكرية (سبتمبر 2022)، وغيرها من الوثائق المهمة التى صدرت على مستويات مختلفة. البعض قد يثير أن هذه الاستراتيجيات لا تتضمن آليات محددة للرقابة أو المحاسبة أو بناء علاقات ملزمة بين الأطراف ذات المصلحة، ما يعنى -وفق هذا التصور- ضعف علاقة هذه الوثائق بمسألة الحوكمة، لكن هذا التقييم فى الواقع لا يأخذ فى الاعتبار طبيعة هذا النوع من الوثائق المهمة. إذ ينصرف دور هذه الوثائق إلى تعزيز الحوكمة من خلال مجموعة من الآليات، أبرزها تحديد القيم/ الأهداف العليا التى تحكم حركة الحكومة والمؤسسات المصرية ذات الصلة بعمل هذه الوثائق، والعلاقات البينية بين مختلف المؤسسات والأطراف ذات المصلحة بتنفيذ الوثيقة ومجال عملها.

كما تتضمن بعض هذه الوثائق آليات وجداول زمنية محددة لتنفيذ الأهداف الواردة بها. أضف إلى ذلك، أن بعض الأهداف الواردة فى هذه الوثائق تمثل جزءا من التزامات دولية. كما أن هذه الوثائق تمثل فى التحليل الأخيرة ضوابط للتشريعات الوطنية. وفى المجمل فإن هذه الوثائق بما تتضمنه من قيم وأهداف تمثل معايير أساسية لتقييم مخرجات السياسات العامة.

سمة أخرى مهمة تجمع بين هذه الوثائق، وهى أنها جاءت فى إطار مبادرات حكومية وطنية، ولم تأت فى إطار صراع أو ضغوط سياسية، الأمر الذى يشير إلى استنتاجين مهمين. الأول، أنها تمثل تعبيرا عن التزام طوعى من جانب الدولة المصرية -بمؤسساتها المختلفة- بحزمة القيم والأهداف الواردة فى هذه الوثائق، لتنظيم وبناء علاقات محوكمة بين الأطراف ذات المصلحة داخل المجتمع المصري. الثانى، أن حرص الدولة المصرية على إصدار هذا العدد من الوثائق المهمة، وبشكل متتال، يعبر عن توجه أصيل للجمهورية الجديدة للانتصار لقيمة الحوكمة فى أداء مختلف المؤسسات لوظائفها التقليدية، وفى إدارة علاقاتها مع الأطراف ذات المصلحة (الحكومية والمجتمعية). بمعنى آخر هى جزء من استعداد أو توجه الجمهورية الجديدة للعمل وفق معايير وطنية ودولية Standardization، وهو توجه جديد لم يكن ملموسا فى عهود سابقة. بعض هذه الوثائق تحدث بشكل مباشر عن الحوكمة باعتبارها هدفا رئيسا لها. بل إن الرئيس السيسى نفسه أشار فى أكثر من مرة إلى الحوكمة كقيمة وكآلية مهمة فى إدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع، أو فى إدارة الموارد الاقتصادية. الحوكمة بهذا المعنى تمثل سمة نوعية للجمهورية الجديدة، وتعكس إرادة سياسية لبناء جمهورية تقوم على أسس جديدة، تجعلها جزءا من التقاليد والمعايير الدولية المستقرة والمتعارف عليها فى مختلف المجالات، بدءا من تنفيذ الأعمال إلى طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، كما تخلق أساسا لزيادة معدلات الكفاءة والنموذجة.

مفهوم الحوكمة ليس مفهوما جديدا بالطبع، لكنه جديد على الثقافة المصرية. لقد ظل استخدام المفهوم لفترات طويلة مقصورا على النخبة البحثية والعلمية، خاصة فى حقول الاقتصاد والإدارة والعلوم السياسية، ويعبر عن قيمة معيارية، لكن استخدام المفهوم على مستوى الخطاب الرسمى، ومن خلال الوثائق الرسمية، ينقل المفهوم من مجال الخطاب والمفردات النخبوية النظرية إلى المجال العام، ومجال الممارسة، وهو تحول مهم سينعكس بالتأكيد على أداء السياسات الحكومية، وقطاع الأعمال، بل وعلى الثقافة المصرية.

الانتصار لقيمة الحوكمة فى الجمهورية الجديدة هو واحد من سمات عدة لهذه الجمهورية، التى مازالت ملامحها تحتاج إلى جهود نظرية للتأصيل لها، وللوقوف على سماتها الجوهرية، باعتبارها مشروعا وطنيا.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 28 سبتمبر 2022.