د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تعثرت من جديد المفاوضات التى تجرى حول الاتفاق النووى بين إيران ومجموعة «4+1» وتشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر. لكن لا يبدو هذه المرة أن المشكلة تنحصر فى القضايا التقنية والقانونية الخاصة بالتزامات إيران فى الاتفاق النووي، ومستوى تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فضلاً عن طبيعة العقوبات الأمريكية التى سترفع عنها فى حالة الوصول إلى اتفاق جديد. فرغم أهمية وتأثير ذلك فى مجمله، إلا أنه لا يفسر مجمل الأسباب التى أدت إلى هذا التعثر، ولا يشير أيضاً إلى أن هناك عقبات أخرى لا تتصل مباشرة بتلك القضايا التقنية والقانونية.

أهم هذه العقبات تكمن فى «اللوبي» المناوئ سواء للمفاوضات أو للاتفاق الذى يمكن أن تسفر عنه. هذا اللوبى لم يعد بدوره منحصراً فقط فى الحزب الجمهورى وبعض أقطاب الحزب الديمقراطى فى الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما بات يمتد حتى إلى داخل إيران نفسها. إذ يتزايد تدريجياً تأثير التيار المُعارِض للمفاوضات الذى لم يعد يرفض الاتفاق النووى الحالى أو المحتمل، وإنما بات يدعو إلى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية برمتها.

اتفاق بلا مستقبل

هذا التيار بات يطرح سؤالاً رئيسياً على الساحة ويستند إلى أنه لا توجد إجابة جاهزة أة واضحة له، لتبرير موقفه أو إضفاء وجاهة خاصة على رفضه للمفاوضات، ومفاده: ما هى نتيجة الاتفاق؟ أو «فرجام برجام چیست؟».

الاتفاق النووي، فى رؤية هذا التيار، ووفقاً لما جرى من تفاهمات بين الأطراف المنخرطة فى المفاوضات، ليس له مستقبل. صحيح أنه قد يصمد خلال فترة الرئيس الأمريكى جو بايدن، على نحو يمكن أن تحصل إيران عبره على عوائد اقتصادية، ممثلة فى رفع مستوى الصادرات النفطية من نحو 881 ألف برميل نفط يومياً حالياً إلى 2.5 مليون برميل نفط يومياً، خاصة فى ظل ارتفاع أسعار النفط بفعل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية. لكن الصحيح أيضاً، أن كلفة ذلك قد تكون باهظة. وهنا، تكمن خطورة هذا الاتفاق فى رؤية هذا التيار، الذى يعدد السلبيات أو بمعنى أدق «الثغرات» التى يمكن أن تُفرِغه من مضمونه تدريجياً.

أخطر ثغرات هذا الاتفاق، وفقاً لذلك، تكمن فى نقل معظم الكميات التى أنتجتها إيران من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة إلى الخارج، حيث تتبقى فقط النسبة المتفق عليها فى الاتفاق الحالي، أى 202.8 كيلو جرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67%. وإذا وضعنا فى الاعتبار أن إيران أنتجت نحو 19 ضعف هذه الكمية المحددة فى الاتفاق (3940.9 كيلو جرام حتى 21 أغسطس الماضى وفقاً لتقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى 7 سبتمبر الحالى)، يتضح حجم الكمية التى ستنقل إلى الخارج فى حالة الوصول إلى اتفاق جديد.

فضلاً عن ذلك، فإن إيران سوف تعود فى هذه الحالة إلى استخدام جهاز الطرد المركزى من الطراز الأول فقط «IR 1»، وستعود إلى تخصيب اليورانيوم فى منشأة ناتانز فقط، بعد أن وسّعت عمليات التخصيب، فى سياق تخفيض التزاماتها فى الاتفاق الحالى رداً على الانسحاب الأمريكى منه وإعادة فرض العقوبات الأمريكية عليها، لتشمل منشأة فوردو إلى جانب منشأة ناتانز.

انطلاقاً من ذلك، فإن هذا التيار يرى أن هذه التنازلات التى يمكن أن تقدمها إيران وفقاً لأى اتفاق جديد تفوق ما سوف تحصل عليه من عوائد. ويزيد على ذلك بالاستناد إلى اعتبارات أخرى لرفض تلك المقاربة. أولها، أنه لا يوجد ما يضمن أن تستمر تلك العوائد فى المستقبل، خاصة بعد انتهاء فترة الرئيس بايدن، الذى قد لا يستطيع تجديد ولايته الرئاسية. بل إن هذا التيار يرى أنه لا يوجد- حتى الآن- ما يضمن أن الرئيس بايدن نفسه لا ينسحب من الاتفاق مجدداً، بعد أن تكون إيران قد التزمت بتعهداتها، لا سيما أنه مُصِر على عدم منح ضمانات بعدم الانسحاب مجدداً من الاتفاق.

ثانيها، أن هذه العوائد المحتملة قد تنحصر فى رفع مستوى الصادرات النفطية، وهى عوائد لن تكون مستقرة فى ظل ارتباطها بتغير مستويات العرض والطلب على الخام. فى حين أن العوائد الأخرى قد تواجه عقبات، وأهمها حصول إيران على أموالها المجمدة فى الخارج، واستقطاب استثمارات الشركات الأجنبية. إذ كشفت خبرة الاتفاق الحالى أنه ليس من السهولة حصول إيران على تلك الأموال التى تواجه تعقيدات إدارية وقضائية عديدة. كما أنه لا يوجد ما يضمن أيضاً أن الشركات الأجنبية سوف تتسابق من جديد على دخول السوق الإيرانية على غرار ما حدث فى عام 2015.

هذه الشركات سوف تضع فى اعتبارها أن الانسحاب الأمريكى من الاتفاق يبقى احتمالاً قائماً مرة أخرى، وقد يكون الاحتمال الأقوى، فى ظل المعارضة المتزايدة للاتفاق داخل الولايات المتحدة الأمريكية. فضلاً عن أنها سوف تضع فى اعتبارها أنها قد تتورط فى تعاملات ثنائية مع شركات تابعة للحرس الثوري، وهى كثيرة، بشكل يمكن أن يُعرِّضها لعقوبات وغرامات باهظة على غرار ما حدث مع شركات ومصارف أجنبية فى الأعوام الماضية.

ثالثها، أن التقدم الملحوظ فى البرنامج النووى الإيرانى لم يكن مهمة سهلة، بل بذلت من أجله، وفقاً لهذا التيار، «تضحيات» كبيرة على المستويين البشرى والمادي، حيث تعرض أكثر من عالم نووى فضلاً عن قيادات فى الحرس الثورى والبرنامج الصاروخى للاغتيال، فضلاً عن تدمير وتعطيل منشآت عديدة نووية وعسكرية، وهى «تضحيات» يرى هذا التيار أنها سوف تهدر فى حالة الوصول إلى اتفاق نووى جديد، بل الأخطر من ذلك أنها قد تستمر فى هذه الحالة، طالما أنه لا يوجد ما يمنع الطرف الذى يقوم بتنفيذ العمليات الاستخباراتية داخل إيران من الاستمرار فى ذلك، حيث توجه إيران باستمرار اتهامات مباشرة ومحددة إلى إسرائيل فى هذا السياق.

رابعها، أنه طالما أن ملف التحقيقات الخاص بالوكالة الدولية للطاقة الذرية ما زال مفتوحاً، فإن ذلك قد يمثل لغماً ربما ينفجر فى وجه الاتفاق فى أية لحظة، فالهدف من فتح هذا الملف هو امتلاك ورقة ضغط فى مواجهة إيران يمكن من خلالها ابتزازها لدفعها إلى تقديم تنازلات جديدة أو الموافقة على إجراء مفاوضات جديدة حول ملفات خلافية أخرى.

من هنا، لا يبدو أن التأخير فى الوصول إلى اتفاق يتعلق فقط بـ«مماطلة» إيران فى إبرام صفقة، وإنما أيضاً فى «ترددها» إزاء ما يمكن أن تسفر عنه هذه الصفقة من نتائج فى النهاية. فالعبرة ليست فى البدايات وإنما فى الخواتيم.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 26 سبتمبر 2022.