أعلنت جبهة تحرير تيجراي، في 11 سبتمبر الجاري (2022)، استعدادها لوقف إطلاق النار والقبول بعملية سلام مع الحكومة الفيدرالية الإثيوبية يقودها الاتحاد الأفريقي، وهو ما يطرح احتمال وقف الحرب الدائرة في البلاد والانخراط في عملية مفاوضات السلام بين الطرفين المتحاربين، خاصة بعد رفض دام قرابة عامين منذ اندلاع الصراع في نوفمبر 2020 من جانب قادة تيجراي بسبب اتهامها للمنظمة القارية بالتحيز لصالح النظام الإثيوبي الحاكم على حساب الجبهة.
إلا أن المشهد العملياتي في شمال إثيوبيا يتسم بالمزيد من التعقيد، في ضوء توسع جبهات القتال بين طرفي الصراع، واستمرار القوات الإثيوبية في شن الضربات الجوية على ميكيلي -عاصمة إقليم تيجراي- التي بلغ عددها خمس ضربات منذ استئناف القتال في أغسطس الماضي. وثمة تصعيد جديد ينذر باحتدام الحرب، وذلك عقب اتهام قادة تيجراي مؤخرًا لإريتريا بشن هجوم شامل على الإقليم بالتعاون مع القوات الإثيوبية وقوات أمهرة الخاصة وميلشياتها الموالية لها مثل "فانو"، خاصة بعدما أفادت تقارير بإعلان النظام الإريتري الحشد والتعبئة العامة لقوات الاحتياط تمهيدًا لانضمامها للجيش الإريتري في ساحة الحرب بإقليم تيجراي.
ومع مماطلة وبطء نظام آبي أحمد في الاستجابة لمبادرة جبهة تحرير تيجراي الأخيرة لوقف القتال والبدء في إجراء محادثات السلام بين الطرفين، وما قد يعنيه ذلك من إصرار لدى نظام آبي أحمد على استمرار الحرب وحسم النزاع عسكريًّا لتحقيق هدفه الرئيسي وهو القضاء على جبهة تحرير تيجراي وإقصائها من المشهد الإثيوبي بشكل نهائي، فإن ذلك يطرح تساؤلًا مهمًّا حول نظرة وموقف المجتمع الإثيوبي من جبهة تحرير تيجراي طوال العامين الماضيين في خضم استمرار الحرب الإثيوبية، مع الأخذ في الاعتبار قوة الآلة الإعلامية للنظام الإثيوبي التي سعت إلى "شيطنة" الجبهة لدى الرأي العام الإثيوبي منذ تولي آبي أحمد للسلطة في أبريل 2018، عبر الترويج لادعاءات ومزاعم حول أجندة الجبهة وأهدافها السياسية.
ملامح رئيسية
سعى نظام آبي أحمد خلال السنوات الأربع الأخيرة منذ عام 2018 إلى زيادة حالة العداء لدى الرأي العام الإثيوبي تجاه جبهة تحرير تيجراي بشكل لافت، مستغلًا تصاعد حالة الاستياء الشعبي إزاء فترة حكم الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية التي سيطرت على السلطة في البلاد قرابة ثلاثة عقود تقريبًا منذ عام 1991. وذلك قبل أن تندلع انتفاضات شعبية في البلاد استمرت منذ عام 2015 والتي انتهت بإجبار رئيس الوزراء السابق هيلي ماريام ديسالين على تقديم استقالته في فبراير 2018 وصعود آبي أحمد إلى السلطة، والذي سارع نحو ترسيخ أركان حكمه باستبعاد معظم قادة تيجراي من المناصب العليا في مؤسسات الدولة الإثيوبية بما في ذلك المؤسسة العسكرية تمهيدًا لإقصائها من المشهد السياسي بأكمله، على نحو كان له دور رئيسي في تأجيج الصراع الحالي.
وقد يعزز ذلك من فرص طرح مشروع آبي أحمد السياسي الذي يجد دعمًا من حليفيه الرئيسين: قومية أمهرة والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، والذي يستهدف بالأساس إلغاء النظام الفيدرالي في البلاد ليحل محله النظام المركزي الذي يقلص من سلطات الأقاليم الإثيوبية لصالح الحكومة المركزية في أديس أبابا، إلا أن جبهة تيجراي تقف بشكل حاسم كعقبة كؤود في طريق تمرير هذا المشروع، مما دفع آبي أحمد لمحاولة القضاء عليها عسكريًّا.
ويمكن الإشارة إلى طبيعة الصورة العامة التي يحاول النظام الحاكم الترويج لها بشأن جبهة تحرير تيجراي في الداخل الإثيوبي على النحو التالي:
1- إسقاط النظام الحاكم: يحاول النظام الحاكم الترويج إلى أن جبهة تحرير تيجراي شنت الحرب في نوفمبر 2020 بهدف إسقاطه والعودة مجددًا للحكم في البلاد، وأنها ليس لديها نية للسلام وتريد الاستيلاء على السلطة عن طريق الصراع المسلح، مما يدفعها للتواطؤ مع أطراف خارجية للإطاحة بحكم آبي أحمد، وهو ادعاء لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض.
2- "تخوين" جبهة تيجراي: يسعى نظام آبي أحمد إلى "تخوين" قادة جبهة تحرير تيجراي منذ صعودها إلى السلطة في عام 1991، وهو ما تجلى في تنازل ميلس زيناوي، رئيس الوزراء الأسبق، عن الموانئ البحرية في إريتريا بما في ذلك ميناء عصب عقب استقلال إريتريا في عام 1993 والذي حرم إثيوبيا من منفذها البحري الوحيد للبحر الأحمر وحولها إلى دولة حبيسة. بالإضافة إلى الادعاء بتسليم جبهة تيجراي لمنطقة الفشقة السودانية -التي يعتبرها نظام آبي أراضي تابعة لقومية أمهرة- للسودان بهدف حرمان أمهرة من أراضيها بحسب زعمه. فضلًا عن شن جبهة تحرير تيجراي هجومًا على القيادة الشمالية للقوات المسلحة الإثيوبية في نوفمبر 2020، والذي أدى إلى اندلاع حرب شاملة مستمرة في شمال البلاد. كما يُوجه اتهامًا للجبهة بالتنسيق مع بعض الأطراف الإقليمية لتمويل شن حرب ضد الحكومة المركزية، حيث يدعي أنها حصلت على دعم لوجستي واستخباراتي ومالي من تلك الأطراف لزعزعة الاستقرار الداخلي في إثيوبيا[1]. وبالطبع، فإن الهدف من ذلك هو تشويه الجبهة وتبرير العمليات العسكرية التي تشن ضدها.
3- أجندة "مدمرة" لإثيوبيا: يتهم قطاع من الإثيوبيين جبهة تيجراي بتآمرها ضد البلاد ضمن ما يسميه "محور شر" الذي يضم عددًا من الأطراف المناوئة للدولة الإثيوبية على رأسها جيش تحرير أورومو وحركة الشباب المجاهدين الصومالية، وهو محور يستهدف بالأساس إسقاط إثيوبيا في الفوضى من خلال زعزعة الاستقرار السياسي والأمني في البلاد، وذلك اعتمادًا على علاقاتها مع بعض الأطراف الخارجية التي تدعمها لإعادة إحياء قواتها بهدف استمرار شن الهجمات ضد القوات الحكومية الإثيوبية[2].
4- تقويض الهوية الإثيوبية: وذلك من خلال ادعاء تورط قوات دفاع تيجراي في تدمير وتشويه الآثار الإثيوبية، حيث تتهم الحكومة الإثيوبية جبهة تيجراي بالتورط في نهب وتدمير المواقع الدينية والتراثية في إقليمي أمهرة وعفر على مدار العامين الماضيين، بهدف محو تاريخ القوميات الإثيوبية التاريخية في البلاد[3].
5- رغبة توسعية في الداخل والخارج: تزعم وسائل الإعلام الإثيوبية أن جبهة تحرير تيجراي لديها نظرة توسعية في الداخل الإثيوبي، وذلك بعد سيطرتها على بعض الأراضي التابعة لإقليم أمهرة عقب وصولها للسلطة في تسعينيات القرن الماضي، كما أنها استولت على بعض المناطق في إقليمي أمهرة وعفر خلال الجولات الثلاثة للحرب الراهنة. كما يتوافق الطرفان الإثيوبي والإريتري في الترويج لادعاءات حول وجود أجندة "عدائية" لدى جبهة تحرير تيجراي تجاه إريتريا، وهي تشمل تغيير نظام أفورقي تمهيدًا للسيطرة على الأراضي الإريترية لتحقيق حلم دولة تيجراي الكبرى.
دوافع متباينة
يمكن تفسير دوافع نظام آبي أحمد لتبني هذا الموقف تجاه جبهة تحرير تيجراي كما يلي:
1- تمرير المشروع السياسي: يدرك آبي أحمد -مع حلفائه- أن الجبهة تمثل عائقًا أساسيًّا أمام المضي قدمًا نحو تنفيذ مشروعه السياسي، خاصة بعدما رفضت الانضمام إلى حزب الرفاهية الجديد الذي تأسس على أنقاض الائتلاف الحاكم السابق في عام 2019. كما أنها لم تعترف بسلطة آبي أحمد في أكتوبر 2020 عقب انتهاء فترة حكمه وتأجيل إجراء الانتخابات التشريعية في البلاد بسبب تفشي جائحة كوفيد-19، وهو موقف مرتبط برفض الجبهة للإجراءات التي شهدتها البلاد في عام 2018 وترتب عليها خروجها من السلطة.
2- منع عودة نظام وياني للحكم: يسعى نظام آبي أحمد إلى عرقلة أي محاولة محتملة لعودة جبهة تحرير تيجراي للحكم مرة أخرى، وهو في سبيل ذلك يوظف أدواته الإعلامية والدبلوماسية من أجل "شيطنة" قادة تيجراي واتهامهم بمحاولة إسقاط الدولة الإثيوبية لتأليب الرأي العام الإثيوبي ضدهم.
3- الحفاظ على الحلفاء الرئيسيين: يخشى آبي أحمد إذا انخرط في عملية سلام مع جبهة تحرير تيجراي من انقلاب حليفيه الرئيسيين عليه وهما قومية أمهرة- التي تمثل ظهيره السياسي والشعبي في الداخل الإثيوبي- والرئيس الإريتري أسياس أفورقي الذي ازداد نفوذه في الداخل الإثيوبي منذ توقيع اتفاق السلام في يونيو 2018.
4- تبرير الحملة العسكرية ضد إقليم تيجراي: وذلك بهدف ضمان تأييد الرأي العام الإثيوبي له، وبما يقلص حجم المعارضة الداخلية للهجوم الإثيوبي ضد جبهة تحرير تيجراي. وهو ما تجلى في إعلان ستة أقاليم إثيوبية في عام 2021 مشاركة قواتها الخاصة في القتال إلى جانب القوات الحكومية ضد قوات دفاع تيجراي، فضلًا عن إعلان التعبئة العامة في عدد من الأقاليم للانخراط في الحرب الدائرة في شمال البلاد.
5- تصدير الأزمات الداخلية للخارج: وذلك من خلال اتهام أطراف خارجية بتمويل جبهة تحرير تيجراي في حربها ضد القوات الإثيوبية، ومساندتها للعودة للحكم في إثيوبيا، وهو ما يسعى النظام من خلاله إلى صرف الانتباه بعيدًا عن الأزمات الداخلية التي تتفاقم تدريجيًا بسبب السياسات التي يتبناها وأنتجت في النهاية تداعيات عكسية.
إجمالًا، من الصعب التنبؤ بإحلال السلام بإثيوبيا في المدى المنظور ما لم يضطلع المجتمع الدولي بمسئولياته ويمارس مزيدًا من الضغوط على أطراف الصراع من أجل التسوية، لا سيما النظام الحاكم، وذلك في ضوء استمرار وتصعيد الحرب الإثيوبية الجارية بإقليم تيجراي مع استبعاد أي آفاق متوقعة للتسوية. بالإضافة إلى استمرار محاولات النظام "شيطنة" جبهة تحرير تيجراي على المستويين المحلي والدولي، الأمر الذي يهدد بزعزعة الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في إثيوبيا، وما قد يترتب عليه من تداعيات سلبية عديدة.
[1] Aklog Biara, The Art of Dominance: TPLF is Africa’s Quisling, Subservient to Ethiopia’s Mortal Enemy, Egypt, Borkena, 1 September 2022, available at: https://bit.ly/3SkdEwy
[3] Hagos Abrha Abay, Ethiopia’s war in Tigray risks wiping out centuries of the world’s history, The Conversation, 29 March 2022, available at: https://2u.pw/iVqdZ