تشكل مجموعة دول آسيا الوسطى؛ كازاخستان وأوزبكستان وقيرغستان وتركمانستان وطاجكستان، نطاقا جغرافيا مهما فى وسط آسيا؛ ما أكسبها أهمية استراتيجية لافتة، فضلا عما تمتلكه تلك الدول من موارد ضخمة للطاقة بما يعزز من مكانتها فى أسواق الطاقة العالمية. وبالرغم من أن "الدائرة الآسيوية" كانت دوما من الدوائر المهمة التى أولتها السياسة الخارجية المصرية اهتماما مميزا، فإن الاهتمام المصرى بمنطقة آسيا الوسطى تحديدا لم يرق إلى مستوى "متقدم" من التعاون مع دولها؛ على الرغم مما تشكله المنطقة من فرص تعاون اقتصادية واعدة وحقيقية لمصر، التى تُعد من أولى الدول التى اعترفت باستقلال دول آسيا الوسطى مطلع تسعينيات القرن الماضى. وظل التعاون المشترك مع تلك الدول محدودا نسبيا بالرغم من قدم العلاقات الدبلوماسية وما ارتبط بها من علاقات ثقافية اعتمدت كثيرا على التعليم والبعد الدينى؛ حيث قدمت القاهرة العديد من المنح الدراسية للطلاب من دول آسيا الوسطى فى التعليم العالى والأزهرى، بالإضافة إلى عدة منح للتعاون فى مجالات التنمية المختلفة، من خلال الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية لهذه الدول، غير أن التعاون الاقتصادى ظل محدودا إلى حد كبير.
ولم يتبلور الاهتمام الفعلى بعلاقات مصر بدول آسيا الوسطى إلا بعد عام 2014، حينما أقرت مؤسسة الرئاسة المصرية استراتيجية «التوجه شرقا» كإحدى آليات التفاعل الدبلوماسى المصرى مع دول المجموعة لصياغة سياسة خارجية وازنة قائمة على ثلاثة مرتكزات، هى «التنمية، والاستقرار، والسلام»؛ مستهدفة بها توسيع وتنمية وترقية مستوى التعاون بين مصر وكل دولة من دول آسيا الوسطى على حدة عبر آلية التعاون الثنائى، ثم الانطلاق منها إلى رسم خريطة مصالح اقتصادية واسعة بينها وبين تلك الدول مجتمعة عبر عدة أطر للتعاون الاقتصادى والتجارى الجماعى المشترك.
وقد عُدَّت آلية القمم المشتركة بين مصر ودول آسيا الوسطى، على المستوى الثنائى، من أكثر آليات السياسة الخارجية المصرية نجاعة فى تفعيل التعاون فى مجالات اقتصادية عدة، حيث بدأت بزيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لدولة كازاخستان عام 2016، تفعيلا لاستراتيجية مصر الجديدة بـ «التوجه شرقا»، ثم تلا ذلك الطفرة التى شهدتها العلاقات بين مصر ودولة طاجيكستان خلال الأعوام 2017 و2018 و2022، وحدوث نقلة نوعية فى نمط العلاقات الثنائية بينهما، تأسيسا على لقاءات القمة التى جمعت بين الرئيسين المصرى والطاجيكى خلال الأعوام المذكورة. فبالرغم من أن اللقاءين الأوليين بين الرئيسين جاءا على هامش مؤتمرين دوليين: الأول فى مؤتمر القمة الإسلامى بالرياض عام 2017، والآخر فى قمة البريكس بالصين عام 2018، فإن مباحثات الرئيسين بشأن عدة قضايا للتعاون الثنائى المشترك كانت هى نقطة الانطلاقة الكبرى فى مسار العلاقات الاقتصادية؛ حيث استهدفت مصر توسيع نطاق صادراتها إلى أسواق آسيا الوسطى عبر طاجيكستان باعتبارها تمثل أهم الأسواق التجارية فى دول المجموعة، لاسيما فى المنتجات الزراعية وبعض المنتجات الصناعية، كما نشطت حركة التجارة والاستثمار والسياحة بين البلدين على هامش الطفرة التى شهدتها العلاقات الثنائية. بينما جاء اللقاء الثالث فى مارس 2022 بالقاهرة دافعا بقوة للعلاقات الثنائية نحو مزيد من التفعيل. كما فتحت زيارة الرئيس لأوزبكستان، عامى 2018، و2021، المجال أمام زيادة فرص التبادل التجارى والاستثمار بين البلدين. وأدت مجمل هذه التفاعلات إلى فتح آفاق التصدير أمام المنتجات المصرية إلى الأسواق التجارية فى دول آسيا الوسطى؛ لاسيما فى مجال الصناعات الزراعية والدوائية والمنسوجات، فضلا عن التعاون فى مجالات الطاقة.
يتضح مما سبق، أن مسعى مصر لتنويع علاقاتها الخارجية حول العالم انطلاقا من قاعدة «تنويع الحلفاء» و«تنويع المناطق» كانت دافعا قويا فى تنمية علاقتها بدول آسيا الوسطى. إلا أن التطورات الاقتصادية والاستراتيجية العالمية، على مدى السنوات القليلة الماضية، جعلت من هذا التوجه ضرورة، لاسيما أن ميزان القوى الاقتصادية يولى أهمية وازنة للقارة الآسيوية، وفى القلب منها دول آسيا الوسطى، حيث تتمتع بالعديد من الفرص التى تمكن مصر من أن تكون قاطرة للعلاقات العربية معها. فدول آسيا الوسطى تمتلك مقدرات «نفطية» ترشحها لأن تكون فى قلب المنافسة العالمية فى السنوات المقبلة، لاسيما فى ضوء التداعيات التى فرضتها الحرب الروسية - الأوكرانية على سوق الطاقة العالمى، جراء العقوبات المفروضة من قبل أوروبا والولايات المتحدة على روسيا.
ورغم هذه النقلات الإيجابية فى مسار علاقات مصر بدول آسيا الوسطى، فإن ثمة العديد من التحديات التى تواجه هذه العلاقات، يتعلق بعضها بمشكلات ترتبط بالبعد الجغرافى بين مصر وتلك الدول، ويتعلق بعضها الآخر بتشابه القاعدة الاقتصادية بين الجانبين، ويتعلق بعضها الثالث بالارتباطات الاقتصادية والتجارية لدول آسيا الوسطى مع قوى دولية وإقليمية أخرى تستحوذ فيها تلك القوى على الأسواق الاقتصادية لدول لمجموعة.
من هنا، تأتى أهمية هذه الدراسة التى تطرحها الأستاذة/ رانيا مكرم -الباحثة المتخصصة فى الشأن الإيرانى ومنطقة آسيا الوسطى بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- تحت عنوان «علاقات مصر مع دول آسيا الوسطى: الأهمية، والفرص، والتحديات»، التى تحاول فيها تحليل نمط العلاقات المصرية بدول آسيا الوسطى، من خلال تقييم واقع حالة التعاون القائمة فعليا بين مصر وتلك الدول، سواء كان هذا التعاون ثنائيًا أو جماعيًا، فى ضوء الفرص المتاحة التى يمكن من خلالها أن تتقارب مصر مع دول آسيا الوسطى، خاصة مع التطورات الدولية المتغيرة بصورة سريعة، بما يعظم من دور «المصالح المتبادلة»، و«الفرص العادلة» فى تنمية وتطوير العلاقات بين الجانبين.
وقد خلصت الدراسة إلى أن هدف «تعظيم المنفعة المتبادلة» بين مصر ودول آسيا الوسطى يتأتى من خلال الاستثمار فيما يمكن تسميته بالفرص الضائعة فى هذه المنطقة منذ سنوات؛ نتيجة غياب الاهتمام المصرى بها على المستويين السياسى والاقتصادى، وهذا يرتبط بالإرادة السياسية المصرية التى تحدد سبل التفعيل الأمثل لعلاقات مصر بدول آسيا الوسطى على المدى الطويل.