رانيا مكرم

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

لازال النزاع الأرميني- الأذربيجاني حول إقليم ناجورنو كاراباخ مفتوحاً، ومرشحاً لمزيد من التصعيد، بعد تجدد الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان في 13 سبتمبر الجاري (2022)، حيث تعد الاشتباكات الأعنف منذ عام 2020، والتي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 105 من الجنود الأرمينيين، وما يزيد عن 50 من الجنود الأذربيجانيين خلال أقل من يومين من بدء الاشتباكات. ووفق بيان وزارة الدفاع الأرمينية، فإن القوات الآذرية شنت قصفاً مكثفاً بالمدفعية وبأسلحة نارية من العيار الثقيل على مواقع عسكرية أرمينية في بلدات غوريس وسوتك وجيرموك، عقب يوم ونصف من المواجهات، موضحة أن أذربيجان قد سيطرت خلال هذه الهجمات على 10 كيلومتر من أراضيها، فيما جاء في بيان وزارة الدفاع الأذربيجانية ليشير إلى أن القوات الأرمينية قد قامت بـ"أعمال تخريبية" قرب مقاطعات داشكسان وكلباجار ولاشين الحدودية، مشيرة إلى أن مواقع جيشها تعرضت للقصف بقذائف الهاون.

تراكمات الأزمة

على الرغم من كون إقليم ناجورنو كاراباخ إقليماً جبلياً فقيراً في الموارد الاقتصادية، فإن النزاع عليه بين أرمينيا وأذربيجان يمتد لأكثر من 100 عام، على خلفية ضم الاتحاد السوفيتي الأقلية الأرمينية قاطني إقليم كاراباخ داخل حدود أذربيجان، من خلال حدود إدارية جعلت كل ما يحيط بالإقليم خاضعاً لأذربيجان، حتى مع رغبة سكان الإقليم في الانضمام لأرمينيا. وفي المقابل، عزل الاتحاد السوفيتي الأقلية الأذربيجانية التي تقطن إقليم ناختشيفان داخل أرمينيا، بينما منح الاتحاد إقليم كاراباخ حكماً ذاتياً، الأمر الذي يمكن وصفه بأنه قد أشعل فتيل الأزمة بين البلدين.

وقد مر الصراع بين طرفيه بمراحل عدة، حيث نشبت أول حرب بينهما عام 1992، فيما كانت الثانية في عام 2020، تخللتهما وأعقبتهما معارك صغيرة في محاولة للسيطرة على الإقليم. وقد أسفرت الحرب الأولى عن مقتل 30 ألف شخص ونزوح مئات الآلاف من البلدين، والثانية عن مقتل 6600 شخص، وانتهت بهدنة من خلال وساطة روسية، غير أن هذه الهدنة تم خرقها لأكثر من مرة، كان آخرها في 3 أغسطس الماضي، عندما حدث تبادل لإطلاق النار بين الطرفين على الحدود أدى إلى مقتل جندي أرميني وآخر آذري، وإصابة 15 من الجانبين.

وفور تجدد الاشتباكات الأخيرة والمستمرة حتى كتابة المقال، أبدت الأطراف الدولية قلقها من تصاعد العنف، ودعت كل من روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لضبط النفس، كما سعت روسيا للتوسط السريع لعقد هدنة لوقف إطلاق النار، لكن لم يتم الالتزام بها بعد وقت قليل من إعلان روسيا عنها.

وجاء التحرك الروسي السريع كرد فعل على التخوف من أن تتطور الاشتباكات الحالية إلى نشوب حرب شاملة ثالثة بين أرمينيا وأذربيجان، يمكن أن تتورط فيها روسيا باعتبارها حليفاً لأرمينيا، من جانب، وتركيا باعتبارها حليفاً لأذربيجان من جانب آخر. بينما يتحسب الاتحاد الأوروبي من مخاطر تخريب أو تعطيل خطوط إمداد الطاقة في الأراضي الأذربيجانية، على غرار توقف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا جراء الحرب الروسية على أوكرانيا.

أسباب متعددة

تشهد الاشتباكات المسلحة بين أرمينيا وأذربيجان تجدداً بين الحين والآخر على الرغم من الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، والجهود التي تبذلها روسيا ومجموعة مينسك، لعدد من الأسباب التي تؤدي في محصلتها إلى نشوب النزاع مجدداً، من أبرزها ما يلي:

1- غياب حل سياسي مقبول من الطرفين: على الرغم من الاتفاقيات التي وقعها البلدان لإرساء السلام بينهما، فإن وضع إقليم كاراباخ قد ظل خارج إطار هذه التسويات، وأرجئ البت في وضعه إلى أجل غير مسمى، وبالتالي ظل الصراع مفتوحاً. وقد جاءت الاشتباكات الحالية بين البلدين عقب أسبوعين فقط من اجتماع ثلاثي ضم رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف في بروكسل لمناقشة ترسيم الحدود بين البلدين، عبّر خلاله باشينيان عن إمكانية عقد معاهدة سلام وتوقيعها خلال أشهر قليلة، وأوضح أن أرمينيا قد قدمت مقترحاً لتحديد وضع إقليم كاراباخ، يضاف إلى الخمس نقاط التي طرحتها أذربيجان لحل الأزمة ووافقت عليها أرمينيا، تتضمن الاعتراف المتبادل بالسلامة الإقليمية، والتخلي المتبادل عن المطالبات الإقليمية، وعدم استخدام القوة أو التهديد بها، وترسيم الحدود، وفتح الاتصالات بين الطرفين.

غير أن المقترح الأرميني لم يحظ بموافقة آذرية، حيث يعتبر الجانب الأذربيجاني قضية تبعية الإقليم منتهية، وأن الحل الأمثل للأزمة هو توطيد العلاقات بين البلدين، من خلال خلق مصالح مشتركة، وإنشاء بنية تحتية بينهما ترتبط بدول أخرى، في إشارة إلى إمكانية إنشاء شبكة طرق دولية، تمر في أراضيهما، أو شبكة أنابيب لإمدادات النفط والغاز.

هذا فضلاً عن خلاف الطرفين حول استمرار دور مجموعة مينسك من عدمه، تلك المجموعة التي شكلتها منظمة "الأمن والتعاون" برئاسة مشتركة بين روسيا والولايات المتحدة وفرنسا، للوساطة خلال جولات التفاوض قبل حرب خريف 2020، ومازالت تضطلع بذات الدور بين البلدين، حيث تطالب أذربيجان بالتفاوض بشكل مباشر مع أرمينيا، بينما ترى الأخيرة أن عمل المجموعة من الضروري أن يستمر.

2- مساعي أذربيجان لاستغلال انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا: يشير تقرير لمجلة "إيكونوميست" البريطانية بعنوان "Why Azerbaijan and Armenia are fighting again" نشر بتاريخ 13 سبتمبر الجاري على موقعها الإلكتروني، إلى أن أذربيجان حاولت الاستفادة من انشغال روسيا- حليفة أرمينيا- في الحرب على أوكرانيا، للضغط على أرمينيا وإجبارها على القبول بشروطها في تسوية النزاع – لاسيما استبعاد النقاش حول وضع إقليم كاراباخ- في ظل ضعف احتمال تدخل موسكو لدعم أرمينيا عسكرياً.

 كما تراهن أذربيجان على تأثير أزمة الطاقة العالمية على سلوك أوروبا في التعامل مع هذه المواجهات، نظراً لتزايد أزمة الإمدادات مع قطع موسكو إمداداتها عن أوروبا بسبب العقوبات الأوروبية التي فرضت عليها جراء حربها على أوكرانيا، الأمر الذي يعني زيادة اعتماد أوروبا على أذربيجان بشكل أكبر نظراً لمرور أهم خطوط إمدادات الغاز بأراضيها، مما يرجح كفتها في تسوية هذه الجولة من المواجهات العسكرية، لاسيما في ظل إعلان أذربيجان عن نيتها زيادة صادراتها من الغاز إلى أوروبا بنسبة 30% مقارنة بحجم صادراتها خلال عام 2021، وهو الأمر الذي يرجح دعم أوروبا لأذربيجان في مسألة التسوية المشروطة مع أرمينيا.

يأتي ذلك التخطيط من جانب أذربيجان – كما ورد في تقرير "إيكونوميست"- في الوقت الذي طالبت فيه أرمينيا روسيا بتنفيذ بنود "اتفاقية الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة"، الموقعه بين البلدين، وتقضي بالدفاع المشترك عن وحدة أراضيهما وسيادتهما، عام 1997، ما يعني أن روسيا ربما تلجأ إلى اتخاذ إجراءات عاجلة من شأنها حل الأزمة دبلوماسياً بشكل سريع يغنيها عن التزامها وفق الاتفاقية بالتدخل العسكري المباشر لصد الهجوم على أرمينيا من قبل أذربيجان، وهو ما يفسر مسارعة روسيا بالتدخل للتفاوض على هدنة لوقف إطلاق النار عقب ساعات قليلة من بدء الهجمات، وإعلانها عن التوصل لاتفاق فعلي لإطلاق النار قبل أن يتم خرقه مرة أخرى ويستأنف الطرفان الاشتباكات على الحدود.

3- اعتبارات تاريخية: تعاني منطقة القوقاز وآسيا الوسطى من مشكلات متجذرة تتصل بترسيم حدودها، وتكوينها الديمغرافي، وتركيبتها السياسية، فرضتها عمليات تقسيم دولها بشكل تعسفي، مــن دون أخــذ الشـعوب والإثنيـات القاطنـة فيه وتوزيعها في هذه الدول بعيـن الاعتبـار، حيـث عملـت تلـك الحـدود علـى تقسـيم العديـد مـن الجماعـات العرقيـة بشـكل قسري، مما شكل ولا يزال أحد أهم أسباب التوترات الأمنية في هذه المنطقة، وجعل من أزمة إقليم كاراباخ أحد أهم نماذج الصراعات العرقية في العالم.

فيما تجدر الإشارة إلى أن اشتباكات أذربيجان وأرمينيا الحالية تزامنت مع اشتباكات حدودية أيضاً بين قرغيزستان وطاجيكستان، بدأت في 14 سبتمبر الجاري، إثر تبادل لإطلاق النار بين قوات حرس الحدود في البلدين، على خلفية اتهام حرس الحدود القرغيزستاني جنوداً من طاجيكستان باتخاذ مواقع على جزء من الحدود لم يتم الاستقرار على ترسيمه حتى الآن، وهو ما يشير إلى هشاشة هذه المنطقة الأمنية والسياسية، بشكل يجعل من الصعب حل صراعاتها دون تدخل وسطاء من القوى الكبرى.

وفي هذا السياق، يمكن فهم طبيعة الصراع بين أرمينيا وأذربيجان على أنه بالأساس صراع عرقي قومي، فاقمته محاولات التغيير الديموغرافي والترسيم الجغرافي المتعسف، والذي هدف على الأرجح إلى تقسيم دولها على أساس هش يجبرها على الاستناد بشكل مباشر إلى روسيا، وباقي القوى الإقليمية في المنطقة، وتأسيس تحالفات معها للحفاظ على أمنها. ولذلك، فإن كلاً من روسيا وتركيا باتت أطرافاً أساسية في النزاع الأرميني-الأذربيجاني، بالإضافة إلى أدوار مهمة تمارسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل في هذا الإطار.

وبالنظر إلى هذه الأسباب وما تمثله من فرص لاستمرار النزاع بين البلدين، يمكن القول بأن توقيت الاشتباكات الحالية يجعل من الصعب التباطؤ في البحث عن حل سياسي، لغلق الطريق أمام مغامرات غير محسوبة من جانب الطرفين، على الأرجح ستفاقم أزمة الطاقة التي تعاني منها أوروبا نظراً لما تمثله خطوط إمدادات الغاز الأذربيجانية لأوروبا من أهمية في الوقت الحالي.