سعدت باطلاعى على عدد يوليو 2022 من مجلة "أحوال مصرية" وهى مجلة فصلية تُصدرها مؤسسة «الأهرام» وتعنى بقضايا الفكر والثقافة والمُجتمع فى مصر. وتختار فى كُل عدد موضوعًا رئيسيًا يكتب فيه باحثون من مختلف المجالات فتجد فيهم متخصصين فى السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والآثار والآداب والفنون والفلسفة فى الجامعات ومراكز البحوث المُختلفة من مِصر وخارجها.
وتفننت المجلة فى اختيار موضوعاتها بشكل مُبتكر بحيث تغطى مختلف الاهتمامات المختصة بأحوال مصر. وعلى سبيل المثال، فإن الموضوعات الرئيسية للمجلة شملت فى عام 2020 قضايا: جيل Z المصرى، والاقتصاد الأخضر، وكورونا وإدارة المخاطر، والهوية. وفى عام 2021 قضايا: القرية المصرية، والمرأة المصرية، والأمية، وأهل مصر. وفى هذا العام قضايا:التقدم، والعقل المصرى، والوجدان المصرى.
وفى العدد الأخير من المجلة الخاص بالوجدان المصرى، نجد دراسات يتعلق بعضها بمصادر هذا الوجدان كالقيم الروحية والتراث الدينى الإسلامى والمسيحى والطُرق الصوفية والخرافات الاجتماعية والموسيقى أو «فن النغم». وبعضها الثانى يتصل بمضمون هذا الوجدان وتجلياته كالبهجة والفرح وقيمة السعادة، والنظرة إلى القضاء والقدر، ورحلة الإنسان من الميلاد إلى الممات. وبعضها الثالث يتناول الممارسات المصرية الصميمة كالاحتفال بسبوع المولود، والموالد التى يشترك فى الاحتفال بها كل المصريين من مسلمين ومسيحيين وتعد مناسبات دينية واجتماعية واقتصادية مهمة، إضافة إلى دراسة عن المقاهى ودورها فى حياة سواد المصريين. والفكرة الرئيسية التى تدور حولها هذه المقالات هى فلسفة الحياة والموت عند المصريين وكيف فهموا على مدى تطور حقبهم التاريخية معنى رحلة الحياة وعناصر الاستمرار والتغيُر التى أصابت هذه الفلسفة. وقد حدد أصولها التاريخية د.أيمن عبدالوهاب، رئيس تحرير المجلة، فى مُقدمته للعدد فى ثلاث قيم هى الإيمان بالقيم الدينية، والقُدرة على العمل الجماعى، وانتهاج سبيل العلم لحل المُشكلات التى يواجهونها، وهى القيم التى وضع أسسها قُدماء المصريين.
وأُريد أن أتوقف فى هذا المقال عند أول هذه القيم –وأهمُها-وهى الإيمان بالغيب وعُمق الاعتقاد بأن الحياة التى يعيشها الإنسان هى ليست نهاية المطاف وأن هُناك بعث فى الحياة الآخرة. واستمر هذا الاعتقاد من الحضارة المصرية القديمة وحتى الآن. وهو معنى نجده فى كتابات كثير من مُفكرى القرن العشرين.
وعلى سبيل المثال، فعندما قارن الأديب المُبدع توفيق الحكيم بين الفن الإغريقى ونظيره فى الحضارة المصرية القديمة لاحظ أن التماثيل التى أبدعها فنانو الإغريق اتسمت بالوضوح وإظهار تفاصيل الجسد والمادة بينما توارى ذلك فى الرسوم والنقوش على جُدران المعابد المصرية والتى حملت دومًا «ظاهرًا ماديًا» و«جوهرًا معنويًا/روحيًا دفينًا». وعلى هذا الأساس، ميز بين قُوة المادة عند الإغريق وقوة الرُوح عند المصريين. ولاحظ الحكيم أيضًا أن تماثيل الإغريق صَورت العجزة وكِبار السِن بينما تحاشت الرسوم والنقوش المصرية ذلك وأبرزت شخوصها دومًا فى صورة الشباب، وكان ذلك يُعبر عن اعتقادهم فى أنهم سوف يُبعثون فى الحياة الآخرة على هذه الهيئة. ولذلك، ترسخ فى الوجدان المصرى معنى الخلود الذى يجد جذوره فى قصة إيزيس وأوزوريس وفى أن وجود الإنسان لا ينتهى بموت الجسد، ولكن هُناك روحًا خالدة وحِساب وحياة أُخرى فى نعيم أو شقاء.
وإذا كان المصريون احترموا الموت وحرصوا على الالتزام بمراسم الدفن ابتداء من المصريين القُدامى الذين برعوا فى علوم التحنيط وبناء المقابر، فإنهم احتفلوا أيضًا بالميلاد وبداية الحياة وهم الذين ابتدعوا عادة الاحتفال بـ «سبوع المولود» وذلك لتيمنهم بالرقم سبعة فى حياتهم ولأن استمرار الطفل فى الحياة حتى اليوم السابع كان دليلًا على صحته. واستمرت المكانة المتميزة لرقم سبعة لأنه يعنى التمام والكمال فى مصر المسيحية والإسلامية والحديثة، فالله خلق العالم فى ستة أيام ثُم استوى على العرش، وفى تفسير سيدنا يوسف حُلم فرعون كان عدد السنابل والبقرات سبعا، وعدد السماوات سبعا، والهرولة بين الصفا والمروة والطواف حول الكعبة فى الحج سبعة، وعدد أيام الأسبوع سبعة، وتقول أمثالنا الشعبية للتعبير عن الثقة فى شفاء المريض أو تعليقًا على الإفلات أو النجاة من مصائب القدر«دا زى القُطط بسبع أرواح».
يظهر تأثير التُراث الدينى فى وجدان المصريين فى الاحتفالات بالموالد فى كُل المُحافظات. والمُتابعُ لموالد المُسلمين مثل سيدنا الحسين أو السيدة زينب فى القاهرة، والسيد البدوى فى طنطا، والمرسى أبو العباس فى الإسكندرية، وإبراهيم الدسوقى فى دسوق، عبد الرحيم القنائى فى قنا، أو لموالد الأقباط مثل القديسة دميانة فى المنصورة، ومارجرس فى القاهرة، ومار مينا فى الصحراء الغربية إضافة إلى مولد السيدة العذراء الذى يُحتفل به فى عديد من المُحافظات سوف يتبين له مدى تعلُق عوام المصريين بموروثاتهم الدينية وأنهم يتعاملون معها بشكل مُبتكر يجمع بين الدين والتجارة والبهجة والسرور. فهى احتفال دينى ودنيوى تجتذب سنويًا ملايين المصريين من كُل الفئات والأعمار.
وترتبط هذه الحشود الكبيرة بمنظومة قيمية ودينية تتضمنُ فكرة «الندر» وهى من فعل «نذر» بمعنى ألزم وأوجب، وتعنى تعهُد الإنسان بالقيام بعمل ما إذا تحقق ما تمنى، والإيمان بأن أولياء الله الصالحين أصحاب كرامات. وبلغت قوة هذا الاعتقاد لدى البعض لأن يقوموا بإرسال خطابات إلى بعض الأولياء وهو ما درسه عالم الاجتماع المُبدع د.سيد عويس فى كتابٍ بعُنوان «رسائل إلى الإمام الشافعي» عام 1978. وفى نفس الاتجاه، جاءت رواية الأستاذ إبراهيم عيسى بعُنوان «صاحب المقام» والتى تحولت إلى فيلم حمل نفس الاسم 2020.
وتطرح مقالات هذا العدد كثيرًا من الأسئلة والتفسيرات حول أصول الوجدان المصرى وتطوره، فتحية لكُل المُشاركين فيه.
________________________________
مقال الأستاذ الدكتور/ علي الدين هلال في صحيفة الأهرام، بتاريخ 28/8/2022، يتناول فيه العدد 85 من فصلية "أحوال مصرية" التي تصدر عن المركز، والذى يركز علي قضية "الوجدان المصرى".