في بداية الحرب الأوكرانية، صدم مذيع قناة الجزيرة الناطقة باللغة الإنجليزية بيتر دوبي المشاهدين بتعليقات عنصرية عندما قال: "ما هو مقنع، مجرد النظر إليهم، والطريقة التي يرتدون بها ملابسهم، هؤلاء ميسوري الحال... أنا أكره استخدام التعبير...إنهم أفراد من الطبقة الوسطى. من الواضح أن هؤلاء ليسوا لاجئين يتطلعون إلى الهروب من مناطق في الشرق الأوسط لا تزال في حالة حرب كبيرة. هؤلاء ليسوا أشخاصاً يحاولون الابتعاد عن مناطق في شمال أفريقيا. إنهم يبدون مثل أي عائلة أوروبية تعيش بجوارهم". وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة لهذه التصريحات العنصرية، فإن العالم يتجاهل حقاً محنة الأفارقة، ولاسيما أزمة التيجراي التي سببت خسائر في الأرواح تفوق خسائر الحرب الأوكرانية. في 19 أغسطس 2022، أعلن الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس ( وهو من التيجراي)، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، أن الأزمة الإنسانية في إثيوبيا تعد أسوأ من تلك الموجودة في أوكرانيا. ومع ذلك ظلت أنظار العالم – وحتى الأفارقة- كلها متجهة نحو أوكرانيا.
بداية جولة جديدة من الحرب!
تعرضت ماكيلي، عاصمة منطقة التيجراي، لغارة جوية عنيفة يعتقد أنها من قبل الطيران الأثيوبي، حسبما أفادت وكالة "رويترز" في 26 أغسطس 2022. وبعد فترة وجيزة من ظهور تقارير صحفية عن الضربة الجوية، قالت الحكومة الإثيوبية إنها سوف تستهدف القوات العسكرية لجبهة التيجراي وحذرت السكان لتجنب المناطق القريبة من المرافق والتجمعات البشرية المرتبطة بالجبهة الشعبية لتحرير التيغرا،. مع العلم بأن حكومة أديس أبابا تعلم يقيناً أنها قطعت خدمات الاتصالات والإنترنت عن الإقليم. ومما يثير المخاوف أنه إذا كانت الغارة الجوية والاشتباكات الدائرة بالفعل على بعض جبهات القتال هي بداية استئناف دائم للقتال، فمن المرجح أن يتفاقم الوضع الإنساني في مناطق التيجراي والأمهرة والعفر الذين أصابتهم المجاعة بالفعل، حيث من المحتمل أن تمنع الاشتباكات المستمرة وصول المساعدات إلى السكان المحتاجين. بالإضافة إلى ذلك، فإن استئناف القتال سيعقد عملية السلام المتوقفة بشكل أكبر ويلحق الضرر بمحاولات رئيس الوزراء آبي أحمد لجذب الاستثمار الأجنبي لتعزيز اقتصاد البلاد المتعثر. ويمكن أن نشير إلى ثلاثة اعتبارات رئيسية تفسر لنا أسباب تصعيد القتال مجدداً في التيجراي.
1- تعقد وتشابك أطراف حرب التيجراي: الوضع في التيجراي بالغ التعقيد والتشابك، وهو يعكس أزمة بناء الدولة الأثيوبية نفسها. يمكن الحديث عن أربع حروب أهلية منفصلة في الزمان والمكان. هذه الحروب لها أهداف سياسية متنوعة وتشمل أطرافاً متحاربة مختلفة، ترتكز على روايات وسرديات سياسية تاريخية معينة. كل صراع يؤسس في الوقت نفسه تحالفات نخبوية تكتيكية واستراتيجية متقاطعة بين مختلف المتحاربين. في قلب الحرب يوجد الصراع الرئيسي بين الحكومة الفيدرالية وجبهة التيجراي، يرتبط برؤيتهما المتعارضة حول ماهية النظام السياسي الإثيوبي وكيف ينبغي تشكيله - على أساس المركزية السياسية أو الفيدرالية العرقية. ويرتكز الصراع الثاني بين أمهرة والتيجراي على مفهوم الأرض المتنازع عليها تاريخياً، حيث أنه في جوهره بمثابة حرب إقليمية على أوطان متخيلة. ويمكن تفسير الصراع الثالث بين إريتريا والتيجراي على أنه حرب هيمنة واستمرار صراع سابق بين حركتي تحرير تولت السلطة بعد ذلك في كل من أسمرة وماكيلي، على التوالي. وأخيراً، يدور الصراع الرابع بين الأورومو والحكومة الفيدرالية حول التمثيل السياسي في الدولة الإثيوبية والانتماء إليها.
2-التجاهل العالمي لأزمة التيجراي: من الواضح أن شعار حلول أفريقية لمشكلات أفريقية أصبح لا معنى له. ومن المفارقات أن المسافة بين منطقة الحرب في التيجراي ومقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا أقل من عشرة آلاف كيلومتر. وبالإضافة إلى هذا الإهمال المتعمد أو غير المتعمد من جانب الاتحاد الأفريقي، فإن قطاعات أخرى من القارة - بما في ذلك المجتمع الأكاديمي ووسائل الإعلام – تغض الطرف أيضاً عن تراجيديا التيجراي المأساوية. بحلول 14 أغسطس 2022، سجل مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان 13212 ضحية في صفوف المدنيين في أوكرانيا (5514 قتيلاً و7698 جريحاً). وعلى النقيض من ذلك، ذكرت صحيفة كندية في مارس الماضي أن ما بين خمسين ومائة ألف شخص لقوا مصرعهم في التيجراي، وتوفى ما بين 150 ألف و200 ألف بسبب الجوع، كما توفى أكثر من 100 ألف بسبب عدم الوصول إلى مرافق الرعاية الصحية. بالإضافة إلى ذلك، تم تدمير المرافق الأساسية مثل المدارس ومحطات الكهرباء والمستشفيات. وفر أكثر من مليوني شخص من ديارهم ويحتاج 2.5 مليون آخرين إلى مساعدات إنسانية منقذة للحياة في المناطق المتضررة من الحرب. كما أصبحت وسائل الإعلام عاجزة عن الوصول إلى منطقة الحرب بسبب الحصار الذي تحكم قبضته الحكومة الإثيوبية على إقليم التيجراي.
3-عجز الاتحاد الأفريقي: لقد بات واضحاً عجز وعدم قدرة الاتحاد الأفريقي من النواحي المالية والمؤسسية على الارتقاء إلى مستوى التوقعات بشأن قضايا الصراع والسلام في القارة. ظهر ذلك في ملفات بالغة الخطورة مثل مفاوضات سد النهضة وحرب التيجراي. ومع ذلك، كان من الممكن أن يكون أداء الاتحاد الأفريقي أفضل من حيث تعزيز السلام والأمن في القارة. لقد كان أداء هيكله الخاص بالسلام والأمن دون المستوى. كما رفضت القوة الأفريقية الجاهزة ولجنة الأركان العسكرية التابعة للاتحاد الأفريقي القيام بدورها المنوط بها في مناطق الصراع الكبرى مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق، حيث توجد قوات إقليمية فرعية. ويمثل عدم قدرة القوة الأفريقية الجاهزة على تولي المسئولية في مناطق الصراعات الأفريقية أمراً مثيراً للدهشة والاستغراب لسبب بسيط، هو أن القمة الاستثنائية الرابعة عشرة بشأن مبادرة إسكات البنادق، التي عقدت في ديسمبر 2020، أعلنت عن التشغيل الكامل للقوة الجاهزة وفوضت مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي في استخدامها من أجل عمليات دعم السلام.
وفي الوقت الذي ذهب فيه الرئيس السنغالي ماكي سال، رئيس الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي، إلى موسكو للتوسط في الحرب الأوكرانية، سكت الجميع بشأن أزمة التيجراي وتم الاكتفاء بتقارير أولسيغون أوباسانجو مبعوث الاتحاد الأفريقي للقرن الأفريقي والتي يكتبها غالباً في غرف الفنادق المكيفة. ماذا حدث للجنة الحكماء في الاتحاد الأفريقي ، أو نظام الإنذار المبكر القاري؟. من الصعب تحديد المركز الأساسي لنظام الإنذار المبكر. في حين اتهم البعض الجهات الفاعلة الأفريقية بإهمال تقارير الإنذار المبكر الموثوقة عن اندلاع النزاعات أو الأزمات الإنسانية التي تلوح في الأفق، وأرجع البعض الآخر ذلك إلى عدم القدرة المؤسسية والتدفق المعقد للمعلومات بين الهياكل المختلفة لجهاز الإنذار المبكر. لقد أضحت هذه الآليات الأفريقية وكأنها لا تسمع ولا ترى والأزمات من حولها في عقر مقر الاتحاد الأفريقي نفسه.
مخاطر التفكيك
مع تدهور علاقة الحكومة الإثيوبية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإنها تبحث في أماكن أخرى عن حلفاء جدد لسحق ما تعتقد أنه تمرد ضدها من منطقة التيجراي الجبلية الحصينة. وتشعر الحكومة الإثيوبية في ظل تعقد الوضع الحالي بسبب الحرب الأوكرانية أنها تستطيع الاستغناء عن الغرب، حيث يمكنها الحصول على أسلحة من دول أخرى مثل إيران وتركيا والصين وحماية سياسية من روسيا والصين في مجلس الأمن. وبالفعل هناك تقارير موثوقة تفيد بأن الجيش الإثيوبي حصل على طائرات مسيرة إيرانية وتركية لتنفيذ ضربات في تيجراي وهو ما أعطاه تفوقاً في المجال الجوي. وعليه، فإن الضغط الدبلوماسي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كان يهدف إلى إقناع الحكومة وجبهة التيغري بالموافقة على وقف إطلاق النار ومحادثات السلام تحت رعاية الاتحاد الأفريقي.
لقد عيّن الاتحاد الأفريقي الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو مبعوثاً خاصاً له بعد أن رفض آبي أحمد جهود مبعوثيه السابقين، بمن فيهم رئيسة ليبيريا السابقة إلين جونسون سيرليف، للتوسط في وقف إطلاق النار. وقد قبلت جبهة التيجراي بأي مبادرة لمفاوضات السلام، لكنها تفضل الوساطة الكينية، حيث تساورها الشكوك حول الرئيس أوباسانجو لأسباب عديدة، من بينها أنه مسيحي إنجيلي، مثل آبي أحمد. وعلى الرغم من قبول رئيس الوزراء الوساطة الأفريقية، إلا أنه لم يلزم نفسه بأي عملية للسلام.
في مقال مشترك في مجلة "بوليتيكو"، حذر أليكس روندوس ومارك ميديش، وهما من كبار المسئولين في الاتحاد الأوروبي والحكومة الأمريكية على التوالي، من أن إثيوبيا يمكن أن تتفكك مثل يوغوسلافيا، مع تداعيات أكثر خطورة بكثير على المنطقة وما وراءها، إذا لم يتم تكثيف الجهود لإنهاء الصراع. وطبقاً لوجهة نظرهما، تحتاج حرب التيجراي جهوداً دبلوماسية ووساطة على نطاق لم نشهده منذ عملية السلام في دايتون عام 1995 لإنهاء الحرب الدموية في البوسنة. ومع ذلك، فإن آبي أحمد يجد نفسه بين مطرقة تحالف الحرب (القوميون من الأمهرة في الداخل وأسياس افورقي في أريتريا) وسندان الضغوط الدولية. ولعل ذلك يجعل خيار التفاوض صعب المنال، إذ أن من طبائع السياسة الأثيوبية الإيمان بالمباراة الصفرية، حيث يتعين على جانب هزيمة الآخر، وتلك هي المعضلة.