سبعة عقود وسبع سنوات مرت مع انتصاف شهر أغسطس الحالي (2022) على نهاية الحرب العالمية الثانية في الشرق الأقصى مع استسلام اليابان وما زالت خبرات ما قبل العام 1945 تلقي بظلالها على علاقات اليابان بجيرانها، وخاصة الصين والكوريتين. اتضح ذلك بجلاء في الأيام الماضية، حيث قام مسئولون يابانيون بزيارة ضريح ياسوكوني الذي يضم رفات قادة عسكريين يابانيين حوكموا كمجرمي حرب، والتي تردد صداها في كل من بكين وسول وبيونج يانج، مما أعاد فتح ملفات الماضي التي لم تغلق رغم مرور كل هذه السنوات.
ورغم ما طال العلاقات بين طوكيو من ناحية وكل من بكين وسول من تطورات إيجابية، سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو الثلاثية البينية أو فيما بينها مجتمعة ودول أخرى، فإن ذلك لا ينفي أن ثمة تساؤلات ما زالت تطرح نفسها، أبرزها لماذا ما زالت قضايا الماضي تؤثر على علاقات اليابان بجيرانها من وقت إلى آخر؟، ولماذا لم يتم تجاوزها رغم كل هذه السنوات ورغم كل هذه التطورات الإيجابية؟، وكيف تؤثر على مستقبل علاقات اليابان بجيرانها؟.
الذكريات الحية
إذا كانت الخبرة الاستعمارية اليابانية والتي بدأت مع بدايات القرن العشرين في شبه الجزيرة الكورية، ومن ثم امتدت إلى الصين في الثلاثينيات من القرن العشرين، وبعد ذلك كان الانتشار الياباني الهائل في شرقي آسيا مع دخولها الحرب العالمية الثانية قد تسببت في مآسٍ كبيرة لتلك الدول، فإن الاستسلام الياباني غير المشروط قد أعاد لتلك الدول سيادتها، وأعاد ما بقى من قوات استعمارية إلى الجزر اليابانية. كما فرضت على اليابان شروط فيما يتعلق بالتسلح. ومع الوقت بدأت العلاقات في التطبيع بين طوكيو وعواصم الدول التي كانت تحتلها.
ومع عودة العلاقات كانت هناك اتفاقات وتفاهمات فيما يتعلق ببعض جوانب هذا الماضي الأليم. وقد بدا مع الوقت أن آلام هذا الماضي وأوجاعه تخف خاصة وأن العلاقات بدأت تشق طريقاً تصاعدية إجمالاً، وإن كان المجال الاقتصادي كان الأكثر تصاعداً. ولم تبخل اليابان في تقديم مساعدات التنمية لتلك الدول، حيث كانت تلك الدول تأتي على رأس قائمة المناطق التي تتوجه إليها المساعدات اليابانية، والتي زادت كثيراً مع القفزات الصناعية التي استمرت اليابان في تحقيقها على مدار عقود. كما كانت تلك الدول من بين المقاصد الأولى للاستثمارات اليابانية. وبات النموذج الياباني في التنمية نبراساً لبعض دول المنطقة.
مع كل ذلك، ظلت آلام الماضي حية في أذهان الكثيرين في شرقي آسيا. فالأمر لا يتعلق فقط ببقاء الكثيرين ممن عانوا من تلك الآلام على قيد الحياة، وإنما ارتبط بما يمكن تسميته التحول الذي طال التوجهات اليابانية وعلى الأخص من ناحيتين: أولاهما تتمثل في توالي الاهتمام ببعض الرموز التي تمت إلى الحقبة الاستعمارية اليابانية بصلة، وعلى رأس هذه الرموز ضريح ياسوكوني، والذي يضم رفات قادة عسكريين يابانيين، منهم أربعة عشر أدينوا كمجرمي حرب من الدرجة الأولى. وثانيتهما ترتبط بالدور الخارجي الياباني، حيث تزايد اهتمام اليابان بلعب دور خارجي، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، وإنما باتت تطمح إلى ترجمة هذا الحضور الاقتصادي العالمي إلى نفوذ سياسي، وما يرتبط بذلك من إمكانية القيام بدور عسكري خارجي. وقد أثير حول هذه المسألة جدال كبير في الداخل الياباني قبل الخارج في مناسبات عدة من بينها إرسال قوات الدفاع الذاتي إلى أماكن الصراعات. وتلا ذلك الحديث المكثف عن قضايا من قبيل تعديل الدستور الياباني، وتخفيف قيود تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية اليابانية، وحدود التحالف الياباني-الأمريكي، والانخراط الياباني في تجمعات أو حتى تحالفات أمنية جديدة، وما يرتبط بكل ذلك من التزامات. وترافق مع كل ذلك ما حدث على صعيد التحول إلى إنشاء وزارة دفاع، وزيادة النفقات العسكرية.
تلك التحولات في الجانب الياباني توازت معها تغيرات كثيرة في البيئة الدولية والإقليمية. وبالتركيز على الأخيرة، يلاحظ أن الصين توالى صعودها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه. وكوريا الجنوبية تقدمت كثيراً إلى درجة أنها باتت نداً ومنافساً قوياً لليابان في مجالات ليست بالقليلة، ودول جنوب شرقي آسيا توالت نجاحات عملية التنمية فيها وفي نفس الوقت حققت قفزات في العملية التكاملية فيما بينها ممثلة في تجمع الآسيان.
تلك المعادلات التي تشكلت على مدار عقود جعلت كلاً من اليابان والصين وكوريا الجنوبية تتفق فيما بينها على صيغة تعاون ثلاثي، وفي نفس الوقت فإنه باتت هناك صيغة تجمعها بالآسيان تعرف بـ"الآسيان زائد ثلاثة" جنباً إلى جنب مع الصيغ التي تربط كل منها مع تلك الرابطة.
وسط كل هذه التطورات الإيجابية، كانت تطل قضايا الماضي لتعكر صفو العلاقات. فعلى مدار سنوات كانت زيارات بعض الوزراء والكثير من المشرعين اليابانيين لضريح ياسوكوني، وإرسال رؤساء الوزراء المتعاقبين لباقات ورود إلى الضريح في مناسبات محددة مثل احتفالات الربيع والخريف وذكرى نهاية الحرب، تجعل بيانات الشجب والإدانة الشديدة تأتي من كل من بكين وسول وبيونج يانج، مذكرة اليابان بضرورة عدم تعظيم رموز الحقبة الاستعمارية، والبعد عما من شأنه زعزعة الثقة.
وعلى سبيل المثال، فإنه مع حلول الذكرى السابعة والسبعين لنهاية الحرب، فإن الصين اعتبرت أن زيارة وزير الاقتصاد الياباني للضريح تشير مجدداً إلى خطأ التوجهات اليابانية حيال المسائل التاريخية، وأن عليها التصرف بمسئولية حتى تحوز ثقة جيرانها الآسيويين والعالم كله. وهذا بعض مما اعتادت الصين قوله في مثل هذه المناسبات، محذرة من أن أولئك الذين يحاولون إعادة عجلة التاريخ مرة أخرى يسلكون الطريق الخاطئ، مع تذكير اليابان بأن طريق التنمية السلمية وحده هو الكفيل بأن تجد طوكيو الطريق الصحيح، مع حثها على تعلم الدروس من ماضيها، وعمل قطيعة تامة مع العسكرة.
ولم تنس الصين تذكير اليابان بما أسمته الإقلاع عن تشويه الوثائق القانونية الهامة، ومنها إعلان القاهرة في العام 1943، وما تضمنه بخصوص تايوان. طبعاً قضية تايوان في هذه الآونة هي الأكثر إثارة، واليابان ليست ببعيدة عما يجري بشأنها. وكثيراً ما تنتقد من قبل الصين ليس فقط بالنسبة لموقفها من هذه القضية، وإنما بالنسبة لقضايا أخرى مثل قضايا بحري الصين الجنوبي والشرقي وغيرها من القضايا.
كوريا الجنوبية من جانبها كررت إدانتها على النحو التالي: "الحكومة تعرب عن خيبة أملها وأسفها لأن القادة المسئولين من الحكومة والبرلمان في اليابان أرسلوا قرباناً مرة أخرى أو كرروا زياراتهم لضريح ياسوكوني".
يأتي ذلك بينما توجد توجهات جديدة في كوريا الجنوبية مع تولي الرئيس يون سيوك. يول مقاليد الحكم في مايو الماضي، نحو تعزيز العلاقات مع اليابان. في حين كانت اللهجة الكورية الشمالية أكثر حدة في انتقاد اليابان، حيث اعتبرت أن الأمر مرتبط بمحاولات لتكرار ماضيها الدموي، ومذكرة بكل جرائم اليابان ضد كوريا والكوريين، وأنها تعمد إلى بث دعايات مغرضة حول ما تسميه بالتهديد الكوري الشمالي. ووصل النهج الكوري الشمالي إلى ترويج مزاعم بأن اليابان تخطط لإعادة غزو كوريا. ولم تنس التذكير بما تعتبره انتهاكات ضد الكوريين الذين ما زالوا يعيشون في اليابان.
قضايا شائكة
لا يقف الأمر بالنسبة لقضايا الماضي عند الجوانب الرمزية التي يمثلها ضريح ياسوكوني والزيارات التي تتم له من قبل المسئولين اليابانيين أو القرابين التي يقدمها هؤلاء المسئولون، بما فيها التبرعات المالية، لكن هناك قضايا أخرى من بينها الخلافات الحدودية، والتسويات الخاصة ببعض القضايا.
بالنسبة للخلافات الحدودية، فإنه توجد بين اليابان وكوريا الجنوبية قضية جزر دوكدو/ تاكشيما. وبين الصين واليابان جزر دياو يو/ سينكاكو. الأولى تحت السيطرة الكورية بالاسم المذكور أولاً وتطالب بها اليابان بالاسم المذكور ثانياً. والثانية تحت السيطرة اليابانية بالاسم الثاني، وتعتبرها الصين جزءاً من أراضيها. وعلى الأغلب، عندما تصدر اليابان ما يسمى بكتابها الأبيض بخصوص سياستها الدفاعية تحدث ردود فعل في بكين وسول على خلفية هاتين القضيتين وقضايا أخرى. وفي بعض الأحيان، يصل الأمر إلى حدوث توترات على الأرض بسبب اقتراب قطع عسكرية بحرية من الجانبين الصيني والياباني في محيط تلك الجزر.
الكتب المدرسية اليابانية هي الأخرى، وما تخضع له من مراجعات تتضمن إشارات لقضايا الماضي، غالباً ما تكون موضعاً للنقد في العواصم الآسيوية الثلاث. ومن أكثر القضايا إثارة للجدل ما يعرف بقضية "فتيات الراحة" أو "نساء المتعة" أو "العبودية الجنسية"، والمتعلقة بالمعسكرات التي كان يديرها الجيش الياباني وتتعرض فيها النساء، وخاصة من كوريا، للاغتصاب من قبل الجنود اليابانيين. وتقدر هذه الأعداد بحوالي مائتي ألف فتاة وسيدة، مازال القليل منهن أحياء في كوريا الجنوبية والصين. وقد كانت القضية مثار أخذ وجذب وتأثير على العلاقات، خاصة بعدما قرر بعض الأحياء من الضحايا الحديث عن المعاناة التي كانت في تلك المعسكرات.
وقد أدى ذلك إلى حدوث تظاهرات أسبوعية على مدار سنوات في كوريا الجنوبية ضد اليابان بخصوص هذه القضية، مع مطالبات بالاعتذار الصريح وتقديم التعويضات المناسبة. وعلى الجانب الياباني، كانت هناك أطروحات تجادل بأن ما حدث لم يكن عبودية جنسية، وأن تلك المعسكرات لم يكن يديرها الجيش الياباني. وبطبيعة الحال، كان ذلك مما يزيد من نار الغضب على الجانب الآخر. وقد دارت جولات كثيرة من المفاوضات إلى أن تم التوصل إلى اتفاق بين اليابان وكوريا الجنوبية في ظل إدارة الرئيسة بارك جيون ـ هي لتسوية هذه القضية. لكن هذا الاتفاق طالته انتقادات كثيرة من داخل كوريا الجنوبية، وانتقدته كثيراً كوريا الشمالية. كما أن الصين قد ألمحت عندما كانت المفاوضات تجري إلى أن الأمر لا يقف فقط عند النساء الكوريات، وإنما كانت هناك نساء من بلدان أخرى.
مسألة أخرى من الماضي ألقت وما زالت بظلالها على علاقات اليابان مع كوريا الجنوبية، وهي الخاصة بالتعويضات التي ينبغي دفعها لهؤلاء الكوريين الذين عملوا بالسخرة في فترة الاحتلال الياباني. وقد كانت تلك القضية من بين ما أجج الخلاف التجاري بين البلدين فيما يتعلق بصادرات المواد الحساسة.
لم يكن الاتفاق الخاص بتسوية قضية "فتيات الراحة" وحده موضع الانتقاد، وإنما أثيرت نقاط كثيرة حول ما قدمه المسئولون اليابانيون من بيانات في مناسبات مختلفة. وقد تضمنت تركيزاً على قضايا الماضي، بما في ذلك الندم والاعتذار، وما إذا كانت تلك الصيغ كافية. بل وظهرت مخاوف من إمكانية وجود تراجع عن تلك البيانات، خاصة في ظل وجود جدل داخلي ياباني حولها.
هل يظل المستقبل رهين الماضي؟
يمكن القول إن جيران اليابان لديهم مطالب واضحة فيما يتعلق بتصرف اليابان حيال قضايا الماضي. كما أن اليابان تنفي أنها تريد العودة إلى سالف عهدها. وفي الوقت الراهن، يطرح الرئيس الكوري الجنوبي تصوراً يقوم على الدفع باتجاه تحسين العلاقات مع اليابان والتي كانت قد تراجعت كثيراً في ظل إدارة الرئيس مون جي ـ إن. هذا الطرح بطبيعة الحال لا يخفى عليه ما تحدثه قضايا الماضي من تأثيرات على مسيرة العلاقات. لكنه يرى أن بالإمكان التغلب على تلك التأثيرات أو تقليص حدتها. وبالفعل فقد ظهرت بعض الخطوات في هذا الاتجاه، والتي تحوز الرضا الأمريكي بطبيعة الحال، وإن كانت تزيد من سخط كوريا الشمالية.
الوضع بالنسبة لعلاقات اليابان مع الصين أكثر تعقيداً، خاصة في ظل الانخراط الياباني في القضايا التي تعتبرها الصين من قضايا السيادة والشئون الداخلية أو في نطاق مصالحها الحيوية وأمنها القومي من ناحية، ومن ناحية ثانية، في ظل حالة التناغم التي تصل حد التطابق بين الطرح الأمريكي والطرح الياباني حيال هذه القضايا. ولهذا الأمر دلالات كثيرة حول إدراكات مصادر التهديد على الجانبين الصيني والياباني، ومن ثم انعكاسات ذلك على مسيرة العلاقات خاصة مع استمرار تأثير الماضي.
وبعدما كانت هناك محاولات من قبل اليابان لتطبيع العلاقات مع كوريا الشمالية في سنوات سابقة، فإن الأمور قد تجمدت تماماً. وهنا لابد من الإشارة إلى مسألة ذات دلالة في هذا السياق، والمتمثلة في أنه كما أن بيونج يانج تطالب بأمور بعينها فيما يتعلق بتاريخ اليابان، فإن اليابان تلح على مسألة تاريخية تعتبرها كوريا الشمالية قد أغلقت تماماً، وهي قضية المواطنين اليابانيين الذين تم اختطافهم من قبل كوريا الشمالية منذ عقود. أضف إلى ذلك قضية البرنامج النووي الكوري الشمالي، والتجارب الصاروخية المتوالية التي تقوم بها بيونج يانج، والتي تؤثر كثيراً على عملية تطبيع العلاقات، مضافاً إليها قضايا أخرى ترفع اليابان لوائها في وجه كوريا الشمالية مثل قضيتي حقوق الإنسان والعقوبات.
لم يعد الماضي وحده هو الذي يقيد حركة العلاقات أو يحررها، وإنما باتت هناك متغيرات الواقع، وتفاعلات الأطراف المختلفة مع هذا الواقع، ليس فقط في المنطقة وإنما خارجها من بين ما يحدد ملامح خريطة مستقبل العلاقات في تلك المنطقة من العالم. ولننظر فقط كيف اصطفت كل من كوريا الشمالية وروسيا مع الصين بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان. كما لا يمكن إغفال تطورات علاقات الصين وروسيا على الرغم من كل الضغط الأمريكي منذ بدء الحرب في أوكرانيا، والموقف الياباني من المناورات الصينية التي أعقبت زيارة بيلوسي. تلك بعض القضايا الراهنة فقط، وهناك قضايا أخرى كثيرة ربما تجعل قضايا الماضي تتوارى أمام خطورتها. لكن استدعاء قضايا الماضي على الأغلب يزيد من عناصر الشك وقد يقلل من فرص التعامل بحكمة مع متغيرات وقضايا الواقع بما قد يمدد من تأثير هذا على مستقبل العلاقات في تلك المنطقة من العالم.