على خلفية الصراع المسلح المتصاعد في مالي منذ عام 2012، بين الحكومة المالية، والحركات الانفصالية المسلحة في إقليم "أزواد" بشمال مالي، المُطالبة بحقها في الاستقلال بحكم الإقليم، احتجاجًا على تهميش الحكومة للـ "الأزواديين" والإصرار على وحدة أراضي البلاد، تشهد الساحة السياسية المالية مؤخرًا تطورات هامة وجوهرية أسفر عنها الاجتماع الذي عُقد في العاصمة باماكو خلال الأسابيع الماضية بين الحكومة المالية، ومُمثلين عن الحركات الأزوادية، بحضور مبعوثين عن الجزائر كوسيط بين الجانبين، بهدف إعادة تفعيل العمل بـ"اتفاق السلام والمصالحة"، الذي تم عقده بوساطة جزائرية عام 2015، لوقف الصراع المسلح الذي نتج عنه مقتل وتشريد الآلاف من المدنيين والعسكريين، والتأكيد على المصالحة الوطنية، وأخذ التنوع العرقي في الاعتبار دون المساس بوحدة البلاد.
فقد جاء اجتماع باماكو بعد أيام من إعلان المكتب التنفيذي لتنسيقية الحركات الأزوادية عن تجميد العمل باتفاق السلام عقب الاجتماع الذي أجراه في كيدال، يومي 16 و17 يوليو 2022، مُتهمًا المجلس العسكري بالإخلال ببنوده منذ تسلم الحكم الانتقالي بعد انقلاب مايو عام 2021، حيث صرح العضو المؤسس في "الحركة الوطنية لتحرير أزواد"، بكاي أغ حمد، بأنه: "إذا اختارت مالي المواجهة العسكرية فليس أمام الأزواديين سوى الدفاع عن أنفسهم أو الهجوم للسيطرة على كل الإقليم، وحينها لكل حادث حديث"[1].
ملامح الاتفاق الجديد
وفقًا للبيان الذي أصدرته السلطات المالية يوم الجمعة 5 أغسطس 2022، تم التوقيع على إعادة تفعيل "اتفاق السلام والمصالحة" الذي كان قد عُقد عام 2015 بوساطة جزائرية، بهدف وقف الصراع المسلح الذي نتج عنه مقتل وتشريد الآلاف من المدنيين والعسكريين، والتأكيد على المصالحة الوطنية، وأخذ التنوع العرقي في الاعتبار دون المساس بوحدة البلاد.
وتتمحور أبرز وأهم ملامح الاتفاق الجديد حول تطبيق البنود الخاصة بعملية نزع سلاح، وتسريح وإعادة دمج مقاتلي الحركات الأزوادية في الحياة المدنية، والوظائف العامة، بما يشمل الجيش والشرطة، ويعكس تمثيلاً أكبر للفئات السكانية خاصة في شمال البلاد، في هيئة كتائب مُختلطة تتألف بشكل متساوٍ من قوات مسلحة مالية، ومقاتلين أزواد سابقين، وجماعات مسلحة موالية للحكومة المالية. وتُقدر أعداد المقاتلين الذي من المُفترض دمجهم بحوالي 26 ألف مقاتل سابق، يتم تقسيمهم على دفعتين بالتساوي، دون إعلان موعد بدء دمج الدفعة الأولى، والاكتفاء بتحديد موعد دمج الدفعة الثانية، وذلك بين عامي 2023 و2024[2].
هذا، بينما اتفقت الأطراف المعنية على إنشاء وتفعيل لجنة مُكلفة خصيصًا بإعداد وتقديم المقترحات بشأن الكوادر المدنية والعسكرية في الحركات المُوقعة على الاتفاق، لتحديد الحصة التي سيتم منحها لكل حركة مسلحة، خلال عملية دمج العناصر ضمن التسلسل الهرمي للقيادة في صفوف الجيش الوطني المُزمع إعادة بنائه، وذلك وسط ترحيب ودعم كبير من الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فقي محمد، اللذين أعربا "عن استعداد هيئتهما الدائم في إطار الوساطة الدولية بقيادة الجزائر، لاستكمال مسار السلم، .. وعن تطلعهما إلى الاجتماع المُقبل للجنة مُتابعة اتفاق السلم[3].
أسباب متعددة
جاءت تلك الخطوات نحو مسار إعادة إحياء الاتفاق، مدفوعة بالعديد من التحديات والتهديدات التي تواجهها مالي على الساحتين السياسية والأمنية، لا سيما منذ انقلابي أغسطس 2020، ومايو 2021، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الإقليمي. ويمكن تناول أهم وأبرز تلك الحديات على النحو التالي:
1- تجنب الفراغ الأمني والسياسي في البلاد: أدى تصاعد حدة العمليات الإرهابية التي يشنها تنظيما "نصرة الإسلام والمسلمين" و"داعش في الصحراء الكبرى"، إلي تنامي تحديات المشهد الأمني في مالي، خاصة في ظل توتر العلاقات بين الحركات الأزوادية المسلحة، والحكومة المالية، بما يحول دون التعاون والتنسيق بين الجانبين في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف، والعمل على سد الفجوة التي خلفتها التطورات الأخيرة، لا سيما تلك المتعلقة بإعلان مالي انسحابها في 16 مايو 2022 من جميع هيئات ولجان مجموعة دول الساحل الخمس (G5)، التي من بينها القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وانسحاب قوات فرنسا ودول أوروبية أخرى من عمليات مكافحة الإرهاب في مالي.
وربما يكشف ذلك عن ضعف امتلاك المجلس العسكري لقدرات الرصد والتصدي في مواجهة التهديدات الإرهابية، خاصة في حال سقطت العاصمة باماكو في أيدي التنظيمات الإرهابية، وتصاعدت عمليات استهداف المنشآت العسكرية الحيوية، ما يُهدد كفاءة وفاعلية المجلس العسكري في إدارة وحكم البلاد خلال تلك المرحلة، ويزيد من حالة انعدام ثقة المجتمع المحلي في الجيش الوطني، حيث بلغت آخر تقديرات للخسائر البشرية في هجومٍ أخير شنه "داعش" يوم 9 أغسطس 2022 في مدينة تيسيت التي تضم معسكرًا للجيش في منطقة شاسعة غير خاضعة لسيطرة الحكومة المالية ضمن المثلث الحدودي، حوالي 42 قتيلاً من الجيش المالي[4].
2- تهديد العاصمة باماكو: شهدت مالي يوم 22 يوليو 2022، هجومًا نفذته "حركة تحرير ماسينا" وهي واحدة من الحركات المسلحة التي تعمل تحت لواء جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" الإرهابية الموالية لتنظيم "القاعدة". إذ استهدف الهجوم إدارة المعدات والمحروقات والنقل بقاعدة "كاتي" العسكرية التي تبعد بعض الكيلومترات عن العاصمة "باماكو"، بالقرب من مقر إقامة الرئيس الانتقالي الحالي لمالي.
وفضلاً عن كون هذا الهجوم هو الأول من نوعه الذي يستهدف قاعدة "كاتي"، التي تعتبر الأكبر والأهم في مالي، فهو يُعد تهديدًا للعاصمة باماكو في الجنوب، خاصة أن أغلب الهجمات الإرهابية كانت تركز على استهداف مواقع شمال ووسط مالي. فالجدير بالذكر في هذا الشأن أن تلك العملية أعقبها تهديد عضو مجلس شورى جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، أبو يحيى، خلال مقطع فيديو نشرته الجماعة في 28 يوليو 2022، بتصعيد عملياتها الإرهابية، ومحاصرة العاصمة باماكو خلال الأيام القادمة[5].
3- منع تهجير سكان أزواد والاستيلاء على ثرواته: يُعتبر إقليم أزواد الواقع في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو قيمة كبيرة سواء كأرض شاسعة صالحة للأنشطة الرعوية، أو كمنطقة غنية بالثروات الحيوانية كالمواشي، وثروات الطاقة كالنفط والغاز الطبيعي، الأمر الذي جعله محل أطماع سواء من بعض القبائل المجاورة، أو من التنظيمات الإرهابية والمسلحة في مالي. فمن جانبهم قام قادة قبائل "الفولاني" التي تفتقر إلى الأراضي اللازمة لرعاية مواشيها، في إطار مساعيهم لإخلاء أراضي أزواد من سكانها والاستيلاء عليها، خاصة أن البدو لا يريدون بيع أراضيهم، بالتواصل مع قادة "داعش" في المنطقة والوشاية بأن الطوارق ومن معهم يرفضون الانضمام إلى التنظيم، ما شجع يوسف بن شعيب قاضي التنظيم لإصدار فتوى بتكفير أهل المنطقة ووجوب قتلهم[6].
وقد أدت تلك الفتوى لتصاعد غير مسبوق في وتيرة النشاط الإرهابي، وجرائم القتل والتهجير التي يمارسها "داعش" ضد مخيمات البدو والطوارق، لا سيما في ظل تنامي أطماعها بشأن الاستيلاء على ثروات المنطقة بعد تهجير سكانها. فعلى سبيل المثال، تنامى استهداف تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى" مؤخرًا لمخيمات البدو والطوارق بمنطقة ميناكا التي ينتمي غالبية سكانها إلى الطوارق "الأزواد" والعرب، وتتميز بغناها بالمواد الخام من النفط والغاز.
4- استغلال إقليم أزواد في عمليات التهريب: تعتبر الحدود النيجرية – المالية من بين أبرز وأخطر نقاط التهريب التي تستغلها التنظيمات المسلحة والإرهابية وجماعات الاتجار غير الشرعية، لتهريب السلاح والبشر والوقود والمخدرات إلى مالي، لا سيما من ليبيا وتشاد ونيجيريا، وذلك في ظل اتساع مساحتها، وغياب السيطرة الأمنية المُحكمة عليها، لعدم التنسيق الأمني بين دول المنطقة، خاصة بعد انسحاب مالي من مجموعة دول الساحل والصحراء (G5). ففي 28 يوليو 2022، أحبطت حركات مسلحة من بلدة أزواغ في إقليم أزواد على الحدود الصحراوية القاحلة بين النيجر ومالي والجزائر، عملية تهريب وقود لتمركزات تنظيم "داعش" في مالي، وصادرت سيارات دفع رباعي تحمل "البنزين" قادمة من تشاد عبر النيجر[7].
5- توحيد الإمكانيات والجهود: من المُتوقع أن تكون مسألة إعادة إحياء اتفاق السلام بين الحكومة المالية والحركة الأزوادية، بدمج المقاتلين الأزواد في الجيش المالي، خطوة مهمة نحو تعزيز قدرات الجيش المالي، ومدى سيطرته على مختلف أقاليم البلاد، من خلال تنسيق وتوحيد الجهود والقدرات بين الطرفين في مواجهة التحديات التي تشهدها مالي، والمرتبطة بتصاعد النشاط الإرهابي، وعمليات التهريب، خاصة أن بعض عناصر حركات الأزواد المسلحة يتعاونون سواء مع التنظيمات الإرهابية، أو في مجال أنشطة التهريب على الحدود بهدف جني بعض المكاسب المالية، بما يزيد من انعدام أمن واستقرار المنطقة، وبالتالي قد تحول عملية توظيفهم ودمجهم في الجيش الوطني وتوفير مرتبات مُجزية لهم، دون انخراطهم في مثل تلك الأنشطة الإرهابية والإجرامية.
6- توتر العلاقات الإقليمية: تتزامن التهديدات الأمنية، وسوء الأوضاع الإنسانية في مالي مع تحديات أخرى اقتصادية تُمثل معوقًا أمام استقرار البلاد، وبالتالي أمام نجاح مساعيها نحو المسار الديمقراطي، والتي نتجت جراء التوترات التي شابت العلاقة بين السلطة الانتقالية في البلاد والمنظمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) منذ يناير عام 2022، بسبب إعلان المجلس العسكري الحاكم للبلاد عن تأجيل موعد الانتخابات التي كان من المُقرر عقدها في فبراير 2022.
وقد دفع ذلك كلاً من الإيكواس والاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (UEMOA) لفرض عقوبات اقتصادية ومالية على مالي، وعزلها عن السوق المالية الإقليمية والبنك المركزي لدول غرب أفريقيا (BCEAO). هذا، فضلاً عن إغلاق الحدود معها، ووقف المعاملات المالية، ما أدى لتخلف مالي عن سداد أكثر من 300 مليون دولار من ديونها. فعلى الرغم من رفع الإيكواس للعقوبات الاقتصادية والمالية عن مالي في يوليو 2022 على أن تكون هناك مرحلة انتقالية إلى الديمقراطية مدتها 24 شهرًا، إلا أن العقوبات الفردية التي تستهدف أعضاء المجلس العسكري الحاكم والمجلس الانتقالي لاتزال مستمرة، مع تعليق عضوية مالي في المجموعة الاقتصادية حتى استقرار الأوضاع في البلاد، وضمان عودة الحكم الدستوري[8].
ختامًا، على الرغم من تعدد دوافع ومكاسب نجاح إعادة اطلاق اتفاق الجزائر للسلام بين الحكومة المالية وحركات أزواد المسلحة، الذي تم التوقيع عليه للعمل به خلال المرحلة القادمة، إلا أن إمكانية تنفيذ الاتفاق، أو مدى نجاح ذلك في وقف تصعيد الأزمة بين الجانبين، يعتمد بشكل كبير على عاملين أساسين:
أولهما، موقف الحكومة المالية من مطالب الحركات المسلحة في إقليم أزواد، وكذلك مدى تمسك تلك الحركات بمطالبها التي تتمحور أغلبها حتى الآن حول الحصول على حصة في المناصب القيادية في الجيش والشرطة والأمن الرئاسي وغيرها من المراكز الحيوية والحساسة في الدولة، كشرط أساسي، وبرهان على مصداقية الحكومة، واعترافها بحقوق الأزواد في الشمال.
وثانيهما، ماهية مخرجات الاجتماع الذى دعا إليه الأمين العام للحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA)، بلال أغ شريف، والمُقرر عقده في كيدال يوم 27 أغسطس الجاري، بحضور القادة العسكريين التابعين للحركة، لبحث مدى إمكانية اتحاد الأزواديين في كيان واحد لمواجهة تصاعد الأنشطة الإرهابية في الإقلي،. وهو الأمر الذي قد يدفع الحكومة المالية لمحاولة احتواء الوضع، والاستجابة للمطالب المطروحة، قبل تنامي قوة ونفوذ تكتل الحركات الأزوادية، بما يُنذر بتصعيد محاولات إعلان إقليم أزواد المستقل.
[1] مالي.. إشارة مقلقة من حركات أزوادية إلى المجلس العسكري، سكاي نيوز، 19 يوليو، 2022، متاح على: https://bit.ly/3bHLUlX
[2] سلطات مالي تعلن التوصل إلى اتفاق لدمج 26 ألف مقاتل من المتمرّدين السابقين في الجيش، العربي الجديد، 6 أغسطس، 2022، متاح على: https://bit.ly/3AdjxoS
[3] اتفاق الجزائر: ترحيب أممي وإفريقي بنتائج اجتماع باماكو، جريدة الخبر الجزائرية، 6 أغسطس، 2022، متاح على: https://bit.ly/3Qx72de
[4] ارتفاع قتلى "هجوم داعش" بمالي لـ42 جنديًا، العين الإخبارية، 11 أغسطس، 2022، متاح على: https://bit.ly/3QAUhhT
[5] باماكو قلب مالي... بين مطرقة "نصرة المسلمين" وسندان "داعش"، العين الإخبارية، 29 يوليو، 2022، متاح على: https://bit.ly/3diLl2i
[6] بعد فتوى "التكفير والقتل".. "داعش" يركز هجماته في بلد إفريقي، سكاي نيوز، 3 يونيو، 2022، متاح على: https://bit.ly/3QiWHlB
[7] في مركز التهريب الأكبر.. حرب بين حركات أزوادية وداعش، سكاي نيوز، 28 يوليو، 2022، متاح على: https://bit.ly/3dnPp1l
[8] زعماء غرب أفريقيا يرفعون العقوبات الاقتصادية والمالية عن مالي، إيرو نيوز، 3 يوليو، 2022، متاح على: https://bit.ly/3QCbtU2