د. حسن أبو طالب

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

أوقفت موسكو عمليات التفتيش الأمريكية على المنشآت النووية الروسية الخاضعة للتفتيش وفقاً لمعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية "ستارت 3"، والموقعة عام 2021 لمدة خمس سنوات حتى 2026. وقد شرح بيان الخارجية الروسية مبررات هذا الإجراء بكونه إجراءً اضطرارياً لجأت إليه روسيا "نتيجة رغبة واشنطن المستمرة في إعادة إطلاق أنشطة التفتيش بشروط لا تأخذ في الاعتبار الواقع القائم، وتخلق مزايا أحادية الجانب للولايات المتحدة، وتحرم روسيا فعلياً الحق في إجراء عمليات التفتيش على الأراضي الأمريكية".

  وتركز الحجة الروسية على حقيقة أن المفتشين الروس الذين يحق لهم القيام بعمليات تفتيش على المواقع النووية الأمريكية لا يستطيعون القيام بأعمالهم نظراً للعقوبات الأمريكية الغربية التى تحول دون وصول الطائرات من وإلى موسكو. وبالتالى يصبح تطبيق الالتزام بالتفتيش المتبادل وبنفس عدد عمليات التفتيش المقررة فى المعاهدة، مسألة أحادية تعطى ميزة للولايات المتحدة على حساب روسيا، وهو ما لا يمكن القبول به.

ووفقاً للمعاهدة فمن حق الطرفين إجراء عمليات تفتيش يتم الاتفاق بشأنها على الأسلحة الاستراتيجية للطرف الآخر "في مكان تواجدها"، ولكل طرف الحق فى إجراء 18 عملية تفتيش سنوياً، منها عشرة عمليات على المنشآت التى تحتوى على أسلحة هجومية فى قواعد الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وقواعد الغواصات النووية المزودة بصواريخ باليستية عابرة للقارات، والقواعد الجوية. أما عمليات التفتيش الثمانية الأخرى فتتم فى أماكن تحميل الصواريخ وإصلاحها وتخزينها، بما فى ذلك المواقع المخصصة للتدريب على الأسلحة النووية.

كما تنظم المعاهدة وملاحقها الإخطارات المتبادلة بين الطرفين بشأن أية تغييرات تتم فى القواعد المذكورة. وتتم عمليات تبادل المعلومات مرتين فى العام فى شهرى مارس وسبتمبر. ويعد وقف عمليات التفتيش مُعطِّلاً لأحد أهم مظاهر تبادل المعلومات والتحقق والشفافية بشأن الأسلحة النووية الروسية والأمريكية، ومُجسِّداً لحالة توتر متصاعدة بين الطرفين من جانب، ومثيراً للكثير من علامات الاستفهام بشأن الأمن العالمى من جانب آخر.

الحرب فى أوكرانيا والأمن العالمى

وفقاً لما سبق، فإن التبرير الروسى مرتبط بالواقع الدولى الذى أفرزته العمليات العسكرية فى أوكرانيا والمواقف الغربية المناهضة لموسكو بهدف عزلها، لكن التحركات الروسية تتعمد توظيف العقوبات الغربية عليها لتوجيه ضربات عكسية مضادة للمصالح الأمريكية والغربية، لإثبات فشل العقوبات وقدرة موسكو على الالتفاف عليها.

وهنا نلاحظ بُعداً آخر لتداعيات الحرب الأوكرانية يرتبط مباشرة بالأمن العالمى، والقائم على أساس الانكشاف النووى المتبادل بين أكبر قوتين نوويتين، وفق التزامات متبادلة للتحقق من الخفض المقرر للأسلحة النووية والمحدد فى المعاهدة، من حيث عدد الرؤوس النووية، ووسائل الإطلاق الثابتة على الأرض أو تلك التى تجوب البحار بواسطة الغواصات، وإذا بالحرب الأوكرانية تعطل أحد أهم الالتزامات فى معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، ما يطرح إشكالية كبرى بشأن الضوابط التى تحول دون الانزلاق عمداً أو بدون قصد لمواجهة نووية، أياً كان الطرف البادئ باستخدام تلك الأسلحة المدمرة. 

اتهامات متبادلة وعدم ثقة

قرار موسكو بتعليق التفتيش الأمريكي على منشآتها النووية، وفى الآن نفسه غياب التفتيش الروسى على المنشآت الأمريكية يفتح الباب أمام الاتهامات المتبادلة بانتهاك بنود المعاهدة، ومن ثم تزداد مساحة عدم الثقة بين البلديْن الرئيسييْن فى نظام الردع النووى العالمى. ويذكر أن إدارة الرئيس ترامب السابق وجهت الكثير من الاتهامات لروسيا بانتهاك بنود معاهدة "ستارت 3"، ومعاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، والتى انسحبت منها الولايات المتحدة بالفعل في أغسطس 2019.

بعبارة أخرى، فإن تعليق التفتيش المتبادل على المنشآت النووية لأكبر طرفين يستحوذان على 95 فى المائة من إجمالى الأسلحة النووية الموجودة فى العالم كله، يمثل شأناً مصيرياً يخص العالم ككل وليس فقط الطرفين المباشرين، فأى اهتزاز قوى لخفض الأسلحة النووية ووسائل إطلاقها، وإتاحة فرص للطرفين للتوسع فى إنتاج رؤوس نووية جديدة مختلفة الأحجام، ووسائل إطلاق فرط صوتية حاملة للرؤوس النووية ذات مديات أبعد من 5000 كم وعابرة للقارات، ونظم توجيه أكثر دقة، مع احتمال تغيير مواقع الانتشار سواء للأسلحة قيد التشغيل أو تلك الموجودة فى المخازن دون أن يعرف الطرف الآخر خريطة الانتشار الجديدة فى أى من البلدين، كل ذلك يصب فى الاقتراب الفعلى من سوء التقدير ولو العابر، والوقوع فى شرك الاستخدام الفعلى لهذه الأسلحة المدمرة لهما وللعالم بأسره.

البعد الرمزى فى القرار الروسى

الجانب الآخر للقرار الروسى له طابع رمزى ولكنه مهم. فموسكو وبالرغم من الضغوط الهائلة اقتصادياً وعسكرياً ودعائياً التى تُوجه لها من قبل واشنطن وحلفائها تستطيع أن تتخذ مواقف قوية تتعلق بمصالح كبرى للولايات المتحدة والعالم معاً، والرسالة هنا أن موسكو ما زالت قادرة على توجيه ضربات مضادة تهز الأمن الأمريكى والعالمى معاً، وتفتح الباب أمام إعادة بلورة منظومة ردع نووى جديدة، بما فى ذلك إعادة هيكلة النظام الدولى ككل. وجزء من رسالة موسكو يتعلق بأن مفهوم الهيمنة العالمية الأمريكية الذى تعمل واشنطن على استمراره، ويوفر لها مساحة واسعة من النفوذ السياسى عالمياً، والتدخل فى الأزمات الدولية المختلفة وفقاً لمصالحها فقط، لم يعد يتمتع بنفس القدر من التأثير والمكانة لدى القوى الدولية المنافسة، والتى تعمل بدورها على الحد من أدوات الهيمنة الأمريكية بدأب وتدرج.

الحالة الصينية فى تحدى الهيمنة الأمريكية

بالرغم من التحذيرات القوية التى أطلقها الرئيس الصينى شى جين بنج بمخاطر تجاوز واشنطن وحلفائها لسياسة صين واحدة ودعوته إلى التوقف عن التحركات الاستفزازية بشأن تايوان، أصرت نانسى بيلوسى رئيسة مجلس النواب الأمريكى على زيارة الجزيرة ودعم الحزب الحاكم ذى التوجهات الانفصالية، وتقديم المزيد من الوعود بشأن إمدادات الأسلحة الأمريكية ومناصرة تايبيه ضد المطالب الصينية. وكان طبيعياً أن تعتبر بكين هذه الزيارة خطيرة تدعم الاتجاهات الانفصالية لدى قطاع من التايوانيين، يقودهم الحزب التقدمى الديمقراطى الحاكم والذى يسعى إلى تكريس استقلال تايوان، وهو ما يهدد سلامة الأراضى الصينية ووحدتها الترابية، ويعد انتهاكاً للالتزامات الأمريكية منذ 1979، ويمثل تحدياً كبيراً للأمن القومى الصينى.

تمثل رد الفعل الصينى حتى اللحظة فى إجراء مناورات عسكرية كبرى حول تايوان، أدت إلى محاصرتها فعلياً بحراً وجواً لمدة خمسة أيام، ولم تكترث بكين بالنداءات الأمريكية بوقف تلك المناورات، كما تجاهلت التفسيرات الكاذبة بعدم التخلى عن سياسة صين واحدة. ووفق المعلن، فهناك مناورات عسكرية أخرى سوف يقوم بها جيش الشعب الصينى بصورة منتظمة حول تايوان، تراها واشنطن نوعاً من المحاكاة لغزو تايوان. وقد بدأت بالفعل مناورة ثانية فى محيط تايوان بحراً وجواً، استخدم فيها جيش الشعب الصينى الذخيرة الحية، وإطلاق الصواريخ بعيدة المدة، وطلعات الطائرات الحربية فى المجال الجوى لتايوان.  

عقوبات اقتصادية صينية

اقتصادياً، اتخذت بكين عدة قرارات من شأنها أن تؤثر بقوة على اقتصاد تايوان وعزله تدريجياً عن الاقتصاد العالمى، أبرزها وقف الاستيراد من 2600 شركة تايوانية، ووقف الاستثمارات الصينية فى تايوان وحظر استثمارات تايوان فى البر الصينى، وتوجيه هجمات سيبرانية على مرافق اقتصادية حيوية فى العاصمة، ومحاصرة التجارة البحرية من وإلى تايوان من خلال توسيع المساحات البحرية والجوية التى تجرى فيها المناورات العسكرية الصينية فى مضيق تايوان. وتهدف تلك الإجراءات إلى إثارة التوترات الداخلية بين مؤيدى الانفصال من جانب، ومؤيدى الحوار السلمى مع بكين من جانب آخر.

وجدير بالذكر أن إجمالى التجارة بين البر الصينى وتايوان وصل إلى 126 مليار دولار وفقاً لبيانات 2021، بينما لم تتجاوز التجارة البينية بين تايوان والولايات المتحدة والدول الأوروبية 38 مليار دولار، ما يعكس حجم التداعى والتراجع الذى يمكن أن تتعرض له تايوان نتيجة الإجراءات الاقتصادية العقابية التى فرضتها بكين وقد تفرض المزيد منها لاحقاً.

ويُعد قرار بكين وقف الاتصالات مع الولايات المتحدة فى ملفات عسكرية وأمنية تتعلق بالتشاور والتنسيق فى السياسات البحرية وسياسات الدفاع، وملفات أخرى تتعلق بالهجرة غير الشرعية والتغير المناخى، ومكافحة المخدرات، والسلامة البحرية، ومكافحة الجريمة عبر الحدود، قراراً يضرب فى الصميم منظومة العلاقة مع واشنطن، ويفتح الباب أمام صياغة جديدة تفرض فيها بكين شروطاً تؤكد على وقف الولايات المتحدة كل التحركات والتفسيرات التى تصدر عن مسئولين أمريكيين كبار تمس بالوحدة الترابية الصينية، أو أن تتجه العلاقات بينهما إلى مرحلة تأزم تضر الطرفين. 

وجوهر الموقف الصينى الذى يؤكد على أن الولايات المتحدة قد أثارت توتراً فى مضيق تايوان ويجب أن تتحمل عواقبه الوخيمة، يستند إلى فرضية ضرورة مواجهة الهيمنة الأمريكية ونزوعها إلى السلوك الأحادى غير المسئول الذى يضرب أسس العلاقات الدولية ويثير الفتن والأزمات بدون أى محاسبة، وفقاً للتصريحات والبيانات الرسمية الصينية.

مزيد من الدعم للتعددية القطبية والرد الأمريكى

وهكذا يتفق السلوك الصينى والروسى على الرد بقوة على السياسة الأمريكية التى لا تراعى حقوق ومصالح الغير، مع توظيف كل المزايا النسبية التى يتمتع بها الطرفان الروسى والصيني كل بذاته أو بالتنسيق المشترك لمواجهة الأحادية الأمريكية.

لم تعد مطالبة روسيا والصين بنظام عالمى متعدد الاقطاب مجرد دعوة لا تجد آذاناً صاغية من واشنطن، بل صارت دعوة وحركة عملية تمهد إلى تغييرات كبرى. وقطعاً، فإن الولايات المتحدة لن تستسلم بسهولة، وستعمل على الرد على تلك المواقف بما يُثّبت هيمنتها العالمية الآخذة فى الاهتزاز. وسيلعب عنصر الزمن دوراً مهماً فى تحقيق أى من المسارين؛ التعددية القطبية أم الأحادية الأمريكية. والمرجح أن الولايات المتحدة لن تتوانى عن إثارة العديد من الأزمات لتوريط الصين فى أزمات عسكرية كبرى ومن ثم فرض عقوبات عليها، وتعميق الأزمة الروسية فى أوكرانيا. ولا تخرج زيارة نانسى بيلوسى لتايوان عن هذا التوجه الأمريكى القريب من التنصل التام من سياسة صين واحدة، كما أن إمدادات الأسلحة الأمريكية الهجومية المقدمة لأوكرانيا بصورة آسبوعية بمئات الملايين من الدولارات، يمثل الوجه الآخر لسياسة واشنطن وحلفائها الأوروبيين لتعميق مأزق روسيا والرئيس بوتين فى أوكرانيا، فضلاً عن الاستمرار بتوسيع حلف الناتو فى اتجاه الأراضى الروسية، وهو ما يجسده قبول عضوية كل من فنلندا والسويد فى زمن قياسى.

وبالنسبة للتحدى الصينى للهيمنة الأمريكية، فتبدو التوجهات الرئيسية فى السياسة الامريكية ذات أبعاد متعددة، منها تحدى الأمن القومى الصينى والوحدة الإقليمية للبلاد، واتخاذ مبادارت داخلية للتوسع فى مجالات الذكاء الاصطناعى مدنياً وعسكرياً للتفوق فى غضون سنوات محدودة على ما أحرزته الصين بالفعل، وزيادة التواجد العسكرى الأمريكي البحرى بالقرب من مضيق تايوان، والإعلان عن صفقات أسلحة هجومية حديثة لتايوان، والعمل على زيادة معدلات التجارة بين تايوان ودول الغرب لإفشال الجهود الصينية لعزل تايوان عن الاقتصاد العالمى.

ما يحدث بين أقوى ثلاث قوى دولية اقتصادياً وعسكرياً ونووياً على النحو المُشار إليه يبدو أشبه بمباراة كرة المضرب، لا يتوقف فيها اللاعبون عن توجيه الضربات لبعضهما، إلى أن يحسم أحدهم المباراة ويحقق فوزاً عزيزاً. سوف تأخذ تلك المباراة الجارية على قمة النظام الدولى بعضاً من الوقت، والمؤشرات الظاهرة تنبئ عن تغيير جوهرى على تلك القمة قيد التشكل، وعلى باقى العالم أن يستعد لواقع دولى جديد ومفاهيم جديدة، وربما أزمات ومواجهات عسكرية كبرى، يهون أمامها ما يجرى الآن فى الأراضى الأوكرانية رغم قسوته وبشاعته.