يزخر الواقع المصري بالعديد من الموروثات والأحداث والمظاهر التي توارثتها الأجيال عبر مراحل زمنية مختلفة، والتي أسهمت في تشكيل الوجدان المصري، وكان لبعضها دورًا بارزًا في تشكيل جزء كبير من الوعي الجمعي للمصريين. ومنذ فجر التاريخ، يمتلك الإنسان فلسفة للحياة، وهو ما تجلى في العديد من المظاهر مثل الاحتفالات والطقوس الدنيوية والروحانية والاعتقاد في الموت والحياة بعده وغيرها. وهو ما أسهم في ثراء حياة المصريين برغم كل التحديات التي تواجههم.

ويشير تاريخ مصر الاجتماعي إلى دور الإنسان المصري الذي تعاقبت عليه العديد من الحضارات والثقافات وقدرته على التواصل معها وترك بصمته الخاصة المعبرة عن هويته ووجدانه، بل إلى قدرته على تطويع الجغرافيا وتحسين سبل معيشته. فقد لعب الإنسان المصري دورًا في بناء مجتمع له خصوصيته، كما تعامل مع الطبيعة وحوّلها إلى نعمة وليس نقمة. وهنا يمكن التأكيد على دور الإنسان المصري والقوة البشرية والعمالية في مصر القديمة التي كانت القوة الدافعة لقيام الحضارة المصرية القديمة التي قامت على ثلاثة أسس هي الإيمان والعمل والعلم.

فيما استهدف عدد أحوال (85) تناول فلسفة الحياة عند المصريين من خلال تناول الوجدان الذي يعبر عن خصوصية تميز روح ومضمون الشخصية المصرية، ويشير في نفس الوقت إلى حيوية وحراك هذا المجتمع في بنيته الاجتماعية والثقافية، ودرجة تشابك الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وربما السياسية مع الجانب الروحاني والإيماني. فهذا الفضاء المجتمعي أوجد روافده ومغذياته للعقل المصري (كما أوضحه عدد أحوال رقم 84) وترجمته دراسة الحراك والتطورات التي اكتنفت المجتمع وأهل مصر (كما أوضحه عدد أحوال رقم 80)، لتستكمل أحوال مصرية تلك الثلاثية بعدد فلسفة الحياة وما عكسته من ترجمة لفكرة جدلية الوجود والوجدان، وقدرة المصريين على حل تلك الشفرة من خلال الموروثات العقائدية والروحانية والحياتية وترسخها في العقل الجمعي والمزاج الشخصي.

وقد تضمن هذا العدد ثلاثة محاور رئيسية؛ تناول المحور الأول التراث الديني وسمو الوجدان المصري من خلال استعراض سمات الشخصية المصرية وسموها وقيمها الروحية، وتأثير كل من التراث القبطي والتراث الإسلامي (آل بيت النبوة والصوفية) في وجدان المصريين، والإدارة الفعالة لهذا الوجدان. كما تطرق المحور الثاني إلى مظاهر البهجة والجمال في حياة المصريين من خلال التعاطي مع عدد من تلك المظاهر مثل الموالد والسعادة وفن النغم والفن المصري والمقاهي في حياة المصريين، بالإضافة إلى الخرافة وإعادة إنتاجها في المجتمع المصري. فيما طرح المحور الثالث رحلة المصريين بين الميلاد والموت والذي استعرض فيه احتفال المصريين بالسبوع للمولود، والقدر في حياة المصريين، إضافة إلى فلسفة الموت وسر مفتاح الحياة الأبدية عند المصريين. كما تضمن العدد ملحقًا أشار إلى سلسلة بانورامية من المظاهر الاجتماعية والروحانية والثقافية والشعبية التي أسهمت في تشكيل الوجدان المصري في مختلف العصور.

وإجمالًا؛يؤكد العدد على أن الوقوف على تاريخنا الاجتماعي ودراسته واستيعابه إنما تمثل نقطة انطلاق لمعالجة الكثير من الظواهر السلبية وتقوية الروافد التي غذت العقل المصري، وشكلت هوية المجتمع ووجدان الشعب. إذ يرتبط الهدف من طرح فلسفة الحياة بمحاولة توسيع الفكر والمدارك المجتمعية والشعبية بعيدًا عن الوقوف على المظاهر والتفاصيل إلى الوقوف على الفلسفة الكلية والرؤية الحاكمة التي جعلت من حياة المصريين في كثير من فتراتهم تحتوي على فلسفة حاكمة قد أسهمت في بناء الوجدان المصري الذي تم التعبير عنه بوضوح في العديد من الحقب التاريخية الممتدة.