دخل ملف الغاز اللبناني بقوة في موازين القوى الإقليمية عبر التهديد المتصاعد من جانب حزب الله باستهداف منصات وبواخر التنقيب عن الغاز تعمل لصالح إسرائيل في حقل كاريش الذي لا يزال محل تنازع بينها وبين لبنان. إذ بث الإعلام الحربي التابع لحزب الله شريطاً مصوراً يُبيّن صوراً حية ووصف وإحداثيات لتمركز بواخر تنقيب ومنصات استخراج غاز تابعة لشركات متعاقدة مع إسرائيل. حمل الشريط المصور الذي بثه حزب الله عنواناً بالعربية والعبرية هو "في المرمى" ثم اختتم بعبارة "اللعب بالوقت غير مفيد"[1]. كما حمل أيضاً صوراً لراجمات صواريخ تتأهب للإطلاق، وهو ما اعتبر أخطر إشارة لتصعيد حزب الله ضد المصالح النفطية الإسرائيلية في شرق المتوسط، منذ أن قام بتوجيه مُسيرات تحلق فوق الحقول المتنازع عليها بداية شهر يوليو الماضي[2].
بُث الشريط المصور صبيحة زيارة الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين إلى بيروت للاجتماع مع الرؤساء الثلاثة في 31 يوليو 2022، إذ يجري حالياً التفاوض غير المباشر بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي عبر الأمريكيين، ولكن يظل الوصول إلى نقطة اتفاق بعيداً إلى حد ما[3]. وتعول إسرائيل على الظرف الدولي المتمثل بالحرب الأوكرانية وتلهف أوروبا على مورد بديل عن الغاز الروسي، من أجل الضغط الدولي على لبنان - الذي يعاني من أزمة مالية خانقة - للقبول بعقد اتفاق عاجل لترسيم الحدود المشتركة. وإذ يتمسك لبنان بحقه في ترسيم عادل للحدود، تتخبط مؤسسات الدولة اللبنانية في تبادل الاتهامات بشأن تأخر إثبات حق لبنان في حدوده البحرية لدى الأمم المتحدة.
وقد اعتبر حزب الله ذلك مناسبة جيدة لإعادة الترويج لثقله الإقليمي وإصراره على التلويح باستهداف منصات وبواخر التنقيب عن الغاز لصالح إسرائيل. يستهدف حزب الله من هذا التلويح باستخدام القوة إعادة الاعتبار للحق اللبناني في المفاوضات الجارية حالياً بوساطة أمريكية، كما يبدو أنه يمارس دوراً إقليمياً لصالح إيران في شأن ملفها النووي ولصالح روسيا بشأن ملف الغاز وذلك لتعطيل عملية إيجاد بديل سريع له وإلا كسبت الدول الغربية رهانها بتطويق المصالح الاقتصادية الروسية.
المصدر: صحيفة الديار اللبنانية https://bit.ly/3BD71jM
نظرة على تطور النزاع
يعود النزاع اللبناني-الإسرائيلي على حقول الغاز شرق المتوسط إلى عام 2007، حيث بدأت الاستكشافات النفطية في هذه المنطقة. ومع توالي الإعلان عن اكتشافات حقول الغاز أصبحت مسألة ترسيم الحدود البحرية أكثر إلحاحاً. دخل لبنان في الفترة بين 2007 و2009 في مفاوضات مع قبرص في محاولة لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وكان الأساس الذي تم اقتراحه آنذاك كخط حدود لبنان البحرية الجنوبية هو الخط 1، وهو أضيق خط يقلص من حجم المياة الإقليمية الفاصلة بين لبنان وإسرائيل. غير أن المفاوضات اللبنانية-القبرصية قد توقفت دون الوصول لاتفاق، مما يجعل الاستناد إلى الخط 1 لاغياً ودون أساس. لكن عندما بدأت إسرائيل وقبرص في التفاوض بشأن حدودهما البحرية في عام 2009، تم النظر إلى الخط 1 الذي توقفت عنده المفاوضات بين قبرص ولبنان واعتمدته للحدود المفترضة بين إسرائيل ولبنان. وبالتالي، عندما بدأت أول وساطة أمريكية لترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل في عام 2010، تشبثت إسرائيل دون وجه حق بأن خط الحدود الفاصلة بين البلدين هو الخط 1، بينما كان لبنان قد أعاد دراساته للحدود وأوضح أنه يتمسك بالخط 23 الواقع أسفل الخط 1 بمسافة 860 كم مربع من المياة الإقليمية.
فيما توصل الأمريكيون آنذاك إلى اقتراح اقتسام المسافة بين الخط 1 الذي تطالب به إسرائيل وخط 23 الذي يطالب به لبنان عند خط الوسط أو نقطة الخط هوف في المنتصف تقريباً، مما يعني حصول لبنان على 490 كم مربع فقط من المياة الإقليمية. وكان لبنان قد أرسل إلى الأمم المتحدة[4] بموجب المرسوم 6433 لعام 2011 ما يفيد اعتماد حدوده البحرية مع اسرائيل من الخط 23، مع الاحتفاظ بحق إجراء دراسات هيدروجغرافية متخصصة وإضافية لتحديد حدوده على وجه الدقة، وهو ما تم بالفعل لاحقاً، إذ أعلن الجيش اللبناني إتمام دراساته المتخصصة لتحديد الحدود البحرية الجنوبية للبنان بالخط 29، وهو الخط الذي توصل إليه بعد إجراء دراسة هيدروجغرافية في محيط منطقة الناقورة البحرية الحدودية في يونيو 2018[5]. ثم أقرته قيادة الجيش ووزارة الدفاع لاحقاً بموجب كتابين لوزير الدفاع في ديسمبر 2019 ثم مارس 2020، وتمت إحالة الأمر لمجلس الوزراء للتصرف بشأنه وتعديل المرسوم الذي يعتمد الخط 23، إلا أن إبلاغ لبنان رسمياً للأمم المتحدة بخط الحدود الجديد لم يتم مطلقاً. إذ يتطلب تحديد لبنان لحدوده البحرية أن يقوم بتعديل المرسوم 6433 لعام 2011 الذي سبق وأودعه لدى الأمم المتحدة مستنداً إلى الخط 23 وأن يكون الأساس هذه المرة الخط 29، وهذا التعديل يتطلب انعقاد مجلس الوزراء بشأنه ثم إقرار رئيس الجمهورية له وإرساله للأمم المتحدة. وطوال هذه الفترة منذ عام 2019 وتصاعد الأزمة المالية اللبنانية، لم يكن إثبات حق لبنان في حدوده البحرية على قمة أولويات المؤسسات السياسية اللبنانية، ولب المشكلة أن الحكومة التي ستصدر قرار تعديل المرسوم لابد أن تكون حكومة أصيلة وليست حكومة تصريف أعمال، وهو شأن الحكومة الحالية، إذ لم ينجح لبنان منذ انعقاد انتخاباته النيابية منذ منتصف مايو الماضي في تشكيل حكومة جديدة.
الوساطة الأمريكية للمفاوضات
ما يتم الإعلان عنه من تفاصيل الوساطة الأمريكية لمفاوضات الحدود البحرية اللبنانية-الإسرائيلية قليل للغاية، ولكنه يتداخل بشكل وثيق مع تفاصيل المساومات السياسية اللبنانية. بدأت الوساطة الأمريكية في هذا الشأن بعد أيام قليلة من انفجار مرفأ بيروت، وكانت إسرائيل تحاول آنذاك أن تعزز فرصها في الضغط على لبنان في ظل أزمته الاقتصادية من أجل الحصول على أكثر من نصيبها في الحدود البحرية. تقدر ثروة لبنان من حقول الغاز المتوقعة بمليارات الدولارات وهو ما يعد كفيلاً بإقالة لبنان من عثرته المالية وتسديد الدين العام المتراكم عليه منذ عقود.
ولكن اللافت أن التعجيل بملف الوساطة الأمريكية والمفاوضات البحرية يكون عادةً في أوقات عدم وجود حكومة لبنانية أصيلة في بيروت تدير الأمر بشكل جاد كي تقوم بتعديل المرسوم 6433 وإيداعه لدى الأمم المتحدة. تكرر الأمر أكثر من مرة، إذ أن الجولة الأولى من الوساطة الأمريكية للمفاوضات اللبنانية-الإسرائيلية كانت عقب استقالة حكومة حسان دياب بعد انفجار مرفأ بيروت، إذ عقدت عدة جولات للتفاوض بين أكتوبر 2020 ومايو 2021 دون الوصول لحلول أو تحديد للحدود بشكل مرضٍ للطرفين.
ثم توالت الإعلانات عن تعاقد إسرائيل مع شركة أمريكية للبدء في التنقيب عن الغاز في الحقول التي تتداخل بعضها داخل المياة الإقليمية اللبنانية - مثل حقل كاريش- وفق توصيف لبنان لحدوده البحرية[6]. ثم ما لبثت الشركة المتعاقدة مع إسرائيل أن أرسلت بالفعل بواخر التنقيب إلى منطقة بحرية متنازع عليها بين الجانبين، وهو ما حدا بالرئيس اللبناني ميشال عون إلى إعادة دعوة الوسيط الأمريكي لزيارة بيروت من أجل استئناف المفاوضات غير المباشرة بين الجانبين، وذلك تفادياً لإهدار حقوق لبنان في الثروة الكامنة داخل حدوده البحرية أو ترسيخ اسرائيل لأمر واقع لا يمكن الفكاك منه لاحقاً، خاصة إذا ما تم استخدام هذا الغاز لتزويد أوروبا ببديل عن الغاز الروسي.
وفي حين أن إسرائيل كانت المحرك الفعلي لمسألة استعجال التفاوض في كل مرة، فإن حكومة لبنان الراهنة غير أصيلة ولا تملك مخاطبة الأمم المتحدة بشأن تعديل المرسوم 6433 واعتماد توصيف الحدود البحرية بالخط 29 وليس الخط 23. فيما يتحمل الجانب اللبناني مسئوليته – سواء رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء نجيب ميقاتي- في التقاعس عن إثبات حق لبنان لدى الأمم المتحدة حينما كانت الحكومة أصيلة وتملك هذه الصلاحية الدستورية.
معضلة المساومات السياسية على الحقوق السيادية
ولأن فحوى المفاوضات غير المباشرة التي يرعاها الأمريكيون بين لبنان وإسرائيل سرية بالأساس، فإن الوقوف على مدى تقدمها أو اتساع الملفات التي تشملها يعد صعباً للغاية. ولذا انتعشت التكهنات والتفسيرات المتعددة التي تشرح أسباب تعثر المفاوضات في كل مرة أو أسباب تعدد جولاتها إن طالت. اعتبر البعض أن تقاعس الرئيس اللبناني عن توقيع تعديل المرسوم 6433 والإصرار على عرضه على مجلس الوزراء مجتمعاً كان بسبب عدم رغبة الفريق السياسي للرئيس بالاعتراف بالخط 29 من الأساس والاكتفاء بحدود لبنان البحرية حتى الخط 23 وهو ما يعني الاستغناء الطوعي عن نحو 1430 كم مربع من المياة الإقليمية اللبنانية الزاخرة بالثروات الطبيعية سواء كانت من حقول الغاز أو المصايد السمكية[7]. ويعزو أصحاب هذه الرواية إلى طموح صهر الرئيس، النائب جبران باسيل، إلى تسهيل عملية الوصول لاتفاق مع اسرائيل استرضاءاً للوسيط الأمريكي، حتى يقوم الأمريكيون فيما بعد برفع العقوبات المفروضة على باسيل والتي تقف عائقاً بينه وبين الترشح لرئاسة الجمهورية خلال الشهرين القادمين[8].
فيما يرى آخرون أن فريق السلطة المتمثل في حزب الله وحركة أمل من جانب، ورئيس الجمهورية من جانب ثانٍ ليس على وفاق تام بشأن المفاوضات مع إسرائيل، إذ سبق وعارض حزب الله بشدة في الجولة الماضية من المفاوضات تمثيل إسرائيل بوفد سياسي، في حين أن الوفد اللبناني تقني من الفنيين والعسكريين وليسوا ساسة، وهو ما يعني أن الأمر فني بحت ولا يحمل أي شبهة تطبيع لبناني مع إسرائيل. غير أن هذا الخلاف قد تمت إدارته بعيداً عن الأنظار كي لا يتصدع التحالف الوثيق بين حزب الله وعون.
من جانب آخر، يرى محللون أن الترسيم العادل للحدود البحرية بين لبنان واسرائيل ليس من الضروري أن يتم عبر وساطة أمريكية، بل يمكن للبنان أن يتوجه إلى محكمة العدل الدولية كي تطبق بنود القانون الدولي على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين. ويثمن أنصار هذا الاتجاه اللجوء للمحكمة باعتبار أن في الأمر سابقة تاريخية بين الصومال وكينيا يمكن أن تحسم القضية لصالح لبنان وتفرض الخط 29 كخط للحدود. إذ تتشابه الحالتان بوجود صخرة تسمى "تخليت" تؤدي إلى انحراف خط الحدود إلى خط 23 بدلاً من الاستناد على خط مستقيم من نقطة الناقورة وهو المتمثل بخط 29[9].
على أية حال، فكما أعطى الزخم الذي أحدثه القلق على إمدادات الغاز في أوروبا الشتاء القادم دفعة للوساطة الأمريكية، فإن التلويح باستخدام القوة من جانب حزب الله قد طرح خيارات أوسع للوفد المفاوض اللبناني. وإذا كان من الصعب للغاية التكهن بمدى جدية تهديدات حزب الله وقدرته الحقيقية على إنفاذها، إلا أنه قد انتقل بمستوى عملياته المفترضة إلى ساحة جديدة ألا وهي التأثير بسوق الطاقة العالمي، وهو أمر بالطبع يقع في صلب المصالح الاقتصادية الإيرانية.
ورغم خلافية الاعتماد أو الاعتداد بقوة الردع التي يشكلها حزب الله في ملف الغاز اللبناني، خاصة أن منازعة حزب الله لقرار الحرب والسلم مع الدولة اللبنانية هي قضية خلافية للغاية في لبنان، فإنه لا شك يضفي مزيداً من التعقيد على المفاوضات الجارية حالياً ويجعل التكهن بنجاحها من عدمه صعباً للغاية. وكان الأولى بحزب الله أن يُظهِر الجدية ذاتها إزاء ملفات أخرى يمكن أن يكون لها نفس المردود المالي كدخل الغاز المتوقع بعد ترسيم الحدود ومنها مثلاً ملفات وقف الهدر والفساد في مؤسسات الدولة وضبط الموازنة العامة وإقرار القوانين الإصلاحية وخطة التعافي الاقتصادي التي يقتضيها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وغيرها من الملفات التي توفر للبنان دخلاً مالياً كبيراً إذا أخدت بالجدية اللازمة.
[4] مركز المستقبل، "نزاع بحري: خيارات لبنان للرد على اتفاق إسرائيل مع شركة هاليبرتون الأمريكية"، 23/9/2021، https://bit.ly/3zNEDtT
[9] بشير مصطفى، مرجع سابق.