فى خطوة أضفت المزيد من التعقيد على المشهد السياسى العراقى المتأزم منذ فشل القوى السياسية فى تنفيذ مخرجات العملية الانتخابية التى أجريت فى أكتوبر 2021، جاء ترشيح قوى الإطار التنسيقى الشيعية للسياسى المستقل محمد شياع السودانى لشغل منصب رئيس الحكومة - باعتبارها تمثل الكتلة البرلمانية الأكبر بعد انسحاب تيار الصدر من البرلمان فى يونيو 2022- ليزيد من تعميق الأزمة بين الصدريين وقوى الإطار بشأن تشكيل الحكومة؛ حيث اجتاح المحتجون من أنصار الزعيم الشيعى مقتدى الصدر المنطقة الخضراء واقتحموا البرلمان مرتين الأولى يوم الأربعاء 27 من يوليو الجارى (2022) فى رسالة تحذيرية من جانب التيار اعتراضاً على ترشيح السودانى ومنعاً لجلسة برلمانية يتم خلالها تمرير عملية اختيار الرئيس وتسمية السودانى كرئيس للحكومة، حيث انتهى الاقتحام بانسحاب المحتجين، لكن سرعان ما جاء الاقتحام الثانى فى 30 من الشهر نفسه، والذى أعلن فيه المحتجون اعتصامهم داخل البرلمان بعد أن فشلت رسالتهم التحذيرية الأولى فى إثناء قوى الإطار عن ترشيح السودانى والمضى قدماً فى عملية تشكيل الحكومة.
أسباب رفض التيار الصدرى لمرشح الإطار
اعتراض تيار الصدر على شخص شياع السودانى لرئاسة الحكومة لم يكن نابعاً من فكرة "الرفض التلقائى" المتوقع من قبل زعيم التيار الصدرى تجاه أى مرشح من جانب قوى الإطار التنسيقى المناوئة باعتبار ذلك أحد أوجه "المناكفة السياسية" التى تغلف عنوان التفاعل السياسى بين التيار والإطار خلال الشهور الثمانية الماضية على خلفية أزمة تشكيل الحكومة، بقدر ما هو نابع من فكرة "الرفض السياسى" لمرشح محسوب على حزب الدعوة الذى يرأسه نورى المالكى العدو اللدود لمقتدى الصدر. فعلى الرغم من أن السودانى، الذى سبق له تقلد مناصب وزارية، يعد شخصية مستقلة غير حزبية فى الوقت الراهن، إلا أن مرجعيته الحزبية السابقة كعضو فى حزب الدعوة دون أية اعتبارات أخرى، كانت كفيلة بتحريك مياه الغضب الراكدة فى نفوس الصدريين تجاه الإطار ومرشحه الذى بات مرفوضاً بقوة من قبل تيار الصدر لأن هذا الترشيح ببساطة يقف ورائه اثنان من صقور الإطار التنسيقى وهما نورى المالكى زعيم حزب الدعوة الذى يشكل المرتكز الحزبى لائتلاف دولة القانون، وقيس الخزعلى زعيم عصائب أهل الحق، وإن كان ترشيح السودانى جاء بتأييد "معظم" وليس "جميع" قوى الإطار، إلا أن كل من المالكى والخزعلى أعلنا رسمياً عن دعمهما له، واستعدادهما لمواجهة تيار الصدر دون أن يوضحا نمط ونوع هذه المواجهة، وكانت صورة المالكى وهو يمسك بسلاحه وسط حراسه فى أحد شوارع بغداد فى أعقاب اقتحام أنصار الصدر البرلمان ووصفه ذلك بـ"الانتهاك السافر"، الدليل الواضح على استعداده لمواجهة الصدر وأنصاره بشكل يتجاوز حدود الخلاف السياسى إلى مواجهة "نوعية" قد تكون "مسلحة" وربما "عشائرية" أيضاً، وهو ما أثبتته تسريبات تسجيلاته الصوتية التى سبقت أزمة ترشيح السودانى بأسبوع واحد فقط، والتى ذكر فيها استعداده التحصن بعشيرته "المالكية" والتوجه لمحاربة الصدريين فى "الحنانة" داخل النجف.
والجدير بالذكر هنا، أن ترشيح الإطار للسودانى، ووفقاً لبعض المصادر، لم يكن بإجماع قوى الإطار، فثمة من اعترض على ترشيح شخصية قد تكون "مستفزة" لتيار الصدر تحسباً للسيناريو الحادث حالياً، باعتبار أن السودانى، وإن كان مستقلاً، إلا أنه يعد قيادياً سابقاً فى حزب الدعوة الذى يترأسه عدو الصدر المباشر نورى المالكى. لكن فى الوقت نفسه، فإن اعتراض بعض سياسيى قوى الإطار على شخص السودانى كمرشح لرئاسة الحكومة لا يمنع "التوافق" عليه بين القوى نفسها بدليل طرحه كمرشح للسياق السياسى العام. فى السياق نفسه، ثمة من أشار إلى وجود نوع من القبول الضمنى بين القوى الحزبية الكردستانية لترشيح السودانى لرئاسة الحكومة، والشأن نفسه لدى بعض القوى السياسية السنية غير تلك التى تحالفت مع تيار الصدر داخل البرلمان – تيار إنقاذ وطن – قبل الانسحاب منه.
معطيات ورسائل
بهذه المعطيات، تفاقمت أزمة تشكيل الحكومة، فيبدو من التطورات السريعة والمتلاحقة أن مقتدى الصدر وأنصاره الذين تخلصوا من عبء المعارضة السياسية فى البرلمان بانسحابهم منه - حال كونهم ثلثاً معطلاً إذا ما شكل الإطار الحكومة- قد تقلدوا نوعاً آخر من المعارضة التى أجادوا أدوارها منذ حراك أكتوبر 2019، وهى "المعارضة الشعبية" وامتلاك الشارع السياسى وتحريك الجماهير، ليس فقط اعتراضاً على سياسات قوى الإطار الشيعى التى تعمدت تعطيل مسار تشكيل تيار الصدر وحلفائه للحكومة ترجمة لتقدمه فى نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة ( أكتوبر 2021)، ولكن أيضاً اعتراضاً على مجمل ما أنتجته "المحاصصة الطائفية" - التى أرادت قوى الإطار تشكيل الحكومة الجديدة على أساسها- من سلبيات دامت عقوداً طويلة أدت إلى شيوع الفساد بكل أنواعه، وزادت من حدة الصراع على النفوذ والسلطة، ودعمت من شوكة الميليشيات المسلحة التى أضاعت هيبة الدولة ومؤسساتها الأمنية، هذا كله بخلاف ما أنتجته من طبقة سياسية حاكمة لم تهتم بمعالجة المشاكل التى يواجهها المواطن العراقى من بنية تحتية منهارة، وفساد مالى وإدارى يتحصن بمؤسسات الدولة، وتنامى لنفوذ الميليشيات المسلحة، وهى الأسباب نفسها التى حركت الجماهير فى عام 2019، دون أن يسفر هذا الحراك حتى اللحظة عن تغير فعلى وهيكلى فى نوع وحجم المشاكل التى لازال يواجهها العراقيون. لكن وجب القول أيضاً أن انسحاب التيار الصدرى من البرلمان مثل خطأً فى "التقدير الاستراتيجى" من قبل التيار لتداعيات هذا الانسحاب، حيث وفر للإطار فرصاً سانحة لتشكيل الحكومة وفقاً لمنطلقات قواه السياسية القائمة على قاعدة "التوافق المحاصصى"، وبالتالى ثمة جزء كبير من المسئولية السياسية عما يشهده العراق من تطورات راهنة تقع على كاهل التيار الصدرى نفسه، لأن اللعب على أوتار تحريك الشارع يعد سلاحاً ذا حدين، بالنظر إلى النتائج غير المحسوبة على الاستقرار والأمن بالنسبة لدولة تعانى أصلاً من عدة أزمات أمنية وسياسية واقتصادية مركبة.
وقد تباينت مواقف وردود فعل القوى السياسية والمسئولين فى العراق على اقتحام التيار الصدرى للبرلمان والإعلان عن بدء اعتصام مفتوح اعتراضاً على سياسات الإطار التنسيقى بشأن المضى قدماً فى ترشيح السودانى واستكمال مسار تشكيل الحكومة، خاصة بعد أن تواردت أنباء تفيد بسحب الإطار لمرشحه السودانى استيعاباً لحالة الغضب العارمة التى أبداها التيار الصدرى، لكن سرعان ما نفى الإطار هذه الأنباء، فى محاولة منه لعدم الانصياع لضغط التيار الصدرى، فى الوقت الذى اجتمعت فيه قوى الإطار بقائد فيلق القدس بالحرس الثورى الإيرانى إسماعيل قاآنى خلال زيارة شمل بها قوى الإطار عقب الإعلان عن ترشيح السودانى، ما اعتبره تيار الصدر مزيداً من الدعم والمساندة الإيرانية المباشرة لسياسات الإطار التنسيقى فيما يتعلق بتشكيل الحكومة، وتصعيداً مباشراً فى مواجهة التيار. وقد اعتبر المهتمون بالشأن العراقى أن هذه الزيارة تحديداً كانت سبباً رئيسياً فى الاقتحام الثانى من قبل أنصار تيار الصدر للبرلمان وإعلانهم الدخول فى اعتصام مفتوح. فيما طالبت الأمم المتحدة الفرقاء السياسيين فى العراق بتغليب العقل والحكمة، والجنوح إلى التهدئة منعاً لانزلاق الدولة نحو العنف، كما دعت عدة شخصيات سياسية بارزة إلى تغليب لغة الحوار كآلية لحل الإشكاليات العالقة بشأن تشكيل الحكومة بين التيار الصدرى وبين الإطار التنسيقى.
اعتراضات تيار الصدر بهذه الكيفية على مرشح الإطار التنسيقى محمد شياع السودانى، حملت عدة رسائل تدور فى مجملها حول صعوبة وربما استحالة "تمرير" عملية تشكيل الحكومة الجديدة دون موافقة ورضاء تيار الصدر حتى وهو خارج الأطر التشريعية الرسمية التى تمكنه من وقف هذا التمرير.
كما تؤكد عدم قبول التيار بشخصية كانت لها مرجعية حزبية، ناهيك عن كونها مرتبطة بمرجعية نورى المالكى زعيم حزب الدعوة. فضلاً عن أنها توحي بأن تيار الصدر يحبذ ويفضل أن تكون الشخصية المرشحة لرئاسة الحكومة "مستقلة" وغير محسوبة على سياسيى "الصف الأول" من الشخصيات السياسية أو الحزبية، فى إشارة إلى تفضيل شخصية على غرار الكاظمى رئيس الوزراء المنتهية فترة ولايته.
وبالتوازي مع ذلك، فإن دخول سرايا السلام- الذراع العسكرية للتيار الصدرى- على خط "حرب التصريحات" عبر تحذير قائدها من المساس بأنصار التيار خلال اعتصامهم من قبل الأذرع المسلحة للقوى السياسية المنضوية فى الإطار التنسيقى، قد يؤشر إلى احتمالية دخول الأزمة بين التيار والإطار مرحلة من المواجهات المسلحة التى سيكون لها بالضرورة انعكاساتها السلبية على حالة الأمن والاستقرار فى العراق.
سيناريوهات متعددة لأزمة مستحكمة
من مجمل هذه التطورات – حتى كتابة هذه السطور- يبدو إبقاء الإطار التنسيقى على مرشحه لرئاسة الحكومة محمد شياع السودانى، خياراً صعباً تكتنفه العديد من الإشكاليات، كما تبدو عملية تشكيل الحكومة فى حد ذاتها مقبلة على سيناريوهات متعددة، يمكن الإشارة إليها كالتالى:
السيناريو الأول: سحب الإطار التنسيقى لمرشحه لرئاسة الحكومة عياش السودانى، استيعاباً لحالة الغضب والرفض التى أبداها تيار الصدر، والعمل على استبداله بشخصية "مستقلة" من خارج قيادات "الصف الأول" للقوى السياسية الحزبية، شريطة أن تحظى بقبول فرقاء العملية السياسية وفى مقدمتهم تيار الصدر. هذا السيناريو وإن كان يبدو الأقرب للتحقق بالنظر إلى حجم الاعتراض على الأرض، إلا أنه يظل مرهوناً بحالة "التعنت" التى قد تنتهجها قوى الإطار، ورغبتها فى عدم الظهور بمظهر الخضوع والانكسار أمام تيار الصدر، ويشار هنا إلى الأنباء المتواردة بشأن "تأجيل" الإطار لعملية تشكيل الحكومة إلى حين تبلور الظروف المواتية لإتمامها، وهو ما يزيد من حظوظ هذا السيناريو.
السيناريو الثانى: الإبقاء على مصطفى الكاظمى، رئيس حكومة تسيير الأعمال، فى منصبه لمدة محددة - مدة عام على سبيل المثال- يتم تحديد بدايتها وفقاً لحوار سياسى يشمل أطراف الأزمة، ويتم الدعوة إليه من قبل الرئيس الحالى أو من قبل رئيس البرلمان، على أن لا يقتصر الهدف من الحوار الوطنى على معالجة الأزمة الراهنة – مرشح رئاسة الحكومة وتشكيلها – وإنما تجاوز ذلك الهدف إلى أهداف أخرى تتمثل فى وضع حلول شاملة للمشاكل السياسية المتجذرة والمتعلقة بمناقشة ومعالجة "بنية النظام السياسى العراقى" نفسه ومعالجة الإشكاليات الناتجة عن هذه البنية، وما أدت إليه من تداعيات أزَّمت وعمقت من حدة الصراع السياسى فى الدولة. هذا السيناريو وإن كان يبدو ذا وجاهة وقابلية للتنفيذ بالنظر إلى ما هو قائم فعلياً على مدار الثمانية أشهر الماضية، لكن يظل مرهوناً بحالة الرفض وعدم الاستحسان التى طالما أبدتها القوى السياسية الشيعية المنضوية فى الإطار التنسيقى لشخص الكاظمى، نتيجة لسياساته الداخلية والخارجية التى تعدها تلك القوى "شديدة الاستقلالية" فى قرارها السيادى عن إيران الراعى الإقليمى للمكون السياسى الشيعى العراقى عامة، ولقوى الإطار التنسيقى خاصة.
السيناريو الثالث: حل البرلمان، والدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة. هذا السيناريو يظل محفوفاً بإشكاليات تعديل قانون الانتخابات، وهو الشرط الذى تضعه قوى الإطار التنسيقى حال الإقدام على هذا السيناريو، حيث تعزو تراجعها انتخابياً خلال أكتوبر 2021، إلى هذا القانون.
السيناريو الرابع: تشكيل فريق "تفاوضى" من شخصيات سياسية معروفة باستقلالها الحزبى، أو لديها مرجعية حزبية "معتدلة" تتولى مهمة تقريب وجهات النظر بين قوى الإطار التنسيقى والتيار الصدرى بشأن تشكيل الحكومة. هذا السيناريو ربما يجد صداه واقعياً باعتباره يقدم آلية سريعة لإيجاد حل ناجز لمشكلة آنية وهى تشكيل الحكومة، لكنه فى الواقع لا يعبر عن آلية "مقننة" أو حتى "منهجية" طويلة الأمد يعتمد عليها الفرقاء فى حل كافة الإشكاليات السياسية المتجذرة والتى باتت أقرب إلى حالة الاستعصاء الدائم.
وفى النهاية، يبدو العراق مقبلاً على تطور نوعى جديد فى نمط التفاعلات البينية للقوى السياسية المكونة للمشهد السياسى فيه، يخرج هذا النمط من كونه تفاعلاً بشأن إشكاليات آنية يصعب حلها كأزمة تشكيل الحكومة على سبيل المثال، إلى تفاعل يبدو فيه الاحتراب المسلح كأحد الأدوات المطروحة على ساحة العمل السياسى خلال المرحلة المقبلة، بصورة تدعو إلى التساؤل حول مستقبل الاستقرار السياسى والأمنى فى العراق فى ظل معادلة التفاعل الآنية بين القوى السياسية والحزبية.