الحياة عند المصريين، فلسفة وعمق حضارى ترك بصمته فى أعماق ووجدان الإنسان المصرى، وفى التراث الإنسانى والحضارى. قد تبدو هذه النتيجة أو الرؤية صادمة وغير متقبلة من البعض نتيجة التركيز على الممارسات والتفاعلات السلبية أو تلك المرتبطة بالتعدد الثقافى وانعكاساتها على أنماط الحياة والمعيشة، وقد يتقبلها البعض ويعى مدلولاتها الحضارية وكونها تعبيرًا عن حقب تاريخية ممتدة، نفتقد للكثير من معانيها وملامحها حاليا، وقد يتساءل البعض عن مكونها والانتقائية فى استمرار بعض تلك المظاهر والسلوكيات واندثار البعض الآخر، فى حين يقف الكثيرون على التساؤل حول حجم القائم من هذه الفلسفة التى ارتبطت بالحضارة المصرية وما أوجدته فى وجدان المصريين وهويتهم، وسبل استعادة جوهرها وما أضفته من خصوصية وبصمة حضارية وبما يتلاءم مع التطور والواقع الراهن.
فالباحث فى دروب فلسفة الحياة عند المصريين، يلحظ بوضوح أنها لم تكن مجرد سلوكيات وتفاعلات اجتماعية وبنيان اجتماعى تشكل ويعبر عن خصوصية وتطور وتحضر من أجل معالجة صعوبات الحياة ومشاكلها، ولكنه يمكن أن يلاحظ أيضا مدخلًا مهمًّا وعميقًا لتفسير ركائز ومقومات بناء الحضارة المصرية القديمة، فمسار السعادة الذى رسمه بتاح حتب للمصريين وحدد ملامحه بداية من الإيمان بالإله وطاعته مرورا بتحديد أنماط قيمة الاحترام كمحدد رئيسى للعلاقة بين الأبناء والآباء والأجداد، فضلًا عن الإخلاص والصداقة بين التلاميذ والأساتذة والعلماء، وانتهاءً بمجموعة القيم التى تحكم الطبقات والشرائح المتعددة فى المجتمع وفى مقدمتها عدم الاستعلاء واحتقار الآخرين أو اغتصاب حقوقهم.. وغيرها من القيم والأحكام التى تساعد فى بناء مجتمع سليم.
بالطبع نحن لا نتحدث عن المدينة الفاضلة عند المصريين القدماء ولا حياة مثالية تخلو من أحقاد البشر واطماعهم وتقلبات الحياة، ولا نتجاهل حجم التغيير والمستجدات التى أخذت سبيلها للمواطنين المصريين والمجتمع، وما أفرزته الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة من مظاهر دافعة نحو إعادة تشكيل الواقع الاجتماعى والفكرى والفلسفى والقيمى للشعوب ومنها مصر بطبيعة الحال. ولكن ما نطرحه هنا وفى الأعداد السابقة لأحوال مصرية ـ كما سيتضح لاحقاـ يستهدف الوقوف على الخصوصية المصرية وتمتعها بكل السمات التى توفر لها مقومات النهوض والصمود أمام حالة الإعصار التى تمثلها الثقافة الغربية والعولمية وقيمها التى تضرب بنية المجتمعات النامية ومنها مصر، لتواجد حالة من الصراعات والانقسامات المجتمعية الناتجة عن التشوه القيمى والأخلاقى والمجتمعى، فحال المجتمعات التقليدية والنامية التى لم تأخذ من الحداثة سوى القشور، أدخلها فى دوامة من الصراعات والخلافات الفكرية والنهضوية لم تسفر إلا عن مزيد من الانقسام والتشتت بعيدا عن البناء والتميز والمشاركة فى صياغة المستقبل والمشاركة فيه.
الوقوف على تاريخنا الاجتماعى ودراسته واستيعابه، تمثل نقطة انطلاق لمعالجة الكثير من الظواهر السلبية وتقوية الروافد التى غذت العقل المصرى وشكلت هوية المجتمع ووجدان الشعب، فالهدف من طرح فلسفة الحياة يرتبط بمحاولة توسيع الفكر والمدارك المجتمعية والشعبية بعيدا عن الوقوف على المظاهر والتفاصيل إلى الوقوف على الفلسفة الكلية والرؤية الحاكمة التى جعلت من حياة المصريين فى كثير من فتراتهم تحتوى على فلسفة حاكمة.
هذه الفلسفة وتلك الوصايا وغيرها من الممارسات السلوكية للمصريين ساهمت فى بناء الوجدان المصرى الذى تم التعبير عنه بوضوح فى العديد من الحقب التاريخية الممتدة، وهنا سوف نتوقف عند بعض الأفكار الرئيسية التى شكلت هذا الوجدان وساهمت فى إكساب المصريين تمييزا وطابعًا خاصًّا لممارستهم الحياتية، فعلى سبيل المثال بدت فكرة الخلود والاهتمام بالحياة عند قدماء المصريين من أهم الأفكار الجامعة والرئيسية فى الحضارة المصرية القديمة، فكان الاهتمام بالإنسان ومصيره وعلاقته بظاهرة الموت وما يعقبها من بعث، مصدرًا لأهمية فعل الخير والبعد عن ارتكاب الآثام والأخطاء، وهو ما امتد إلى أن النفس ستبحث عن الجسد بعد الموت، وحينما تعثر عليه تبدأ حياة الإنسان الأخرى. لذلك كان الاهتمام بعلم التحنيط للمحافظة على الجسد، مصحوبا بفلسفة أخلاقية داعمة لقيم الحكمة والجمال والعدالة والخير، ومستندة إلى أفكار تعنى بالوجود والكون لفهم وإدراك ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، فكان الاهتمام بالمنطق والاستقراء والقياس والعلم وجوانبه المتعددة، شاهدًا على عبقرية المصريين القدماء المعمارية والهندسية فى بناء الأهرامات للحفاظ على جسد الأله الفرعون جنبًا إلى جنب الاهتمام بالفلك والرياضيات.
ويشير تاريخ مصر الاجتماعى إلى دور الإنسان المصرى الذى تعاقبت عليه العديد من الحضارات والثقافات وقدرته على التواصل معها وترك بصمته الخاصة المعبرة عن هويته ووجدانه، بل إلى قدرته على تطويع الجغرافيا وتحسين سبل معيشته بقدرته على سبيل المثال أن يُطوّع نهر النيل عبر العصور ويجعله محور وأساس حضارته. وهو ما دفع المؤرخ محمد شفيق غربال، فى كتابه "تكوين مصر" إلى التأكيد على أن "مصر هى هبة المصريين" وليس كما قال هيرودوت "مصر هبة النيل" فمصر أرض شكلتها الطبيعة ولعب الإنسان دورًا فى بناء مجتمع له خصوصيته .كما تعامل مع الطبيعة وحولها إلى نعمة وليس نقمة. ويشير المؤرخ محمد شفيق غربال فى تتبعه للتاريخ المصرى القديم وتطور الحضارة المصرية وتكوينها إلى ما تناوله أرنولد تويبنى بما اسماه التحدى والاستجابة(). وهنا يمكن التأكيد على دور الإنسان المصرى، والقوة البشرية والعمالية فى مصر القديمة التى كانت القوة الدافعة لقيام الحضارة المصرية القديمة التى قامت على ثلاثة أسس هى الإيمان والعمل والعلم. وقد تفرد قدماء المصريين بمنظومة العمل الجماعى، فقاموا بشق قنوات الرى وأنشأوا السدود وشيدوا المعابد وحفروا المقابر(). كما كانت منظومة العمل والدقة شاهدًا على عظمة الحضارة المصرية، فضلًا عن تهيئة البيئة والمناخ الملائم لتحسين ظروف العمل وتوفير حقوقهم بالقدر الذى يساعد على مواصلة العمل وجودته.
وكان للبعد القيمى والأخلاقى الذى قامت عليه الحضارة المصرية دور أساسى فى تنظيم الحياة وبناء نظام اجتماعى، حيث برز اهتمام المصريين بالجوانب الأخلاقية والإنسانية من أجل الحفاظ على بنية المجتمع واستمراره(). وهو ما يفسر أيضا سمات الرضى والاقتناع بالمتوافر والإيمان بالقدر وانعكاسه على فلسفة المصرى فى الحياة وعلاقته بدينة ومجتمعه ودولته وربطها برؤية وفلسفة اجتماعية وثقافية، ساهمت عبر الزمان بالرضى (وليس الخضوع كما يحلو للبعض تفسير ذلك) كسبيل للتعامل مع الواقع والحياة الصعبة بل ذهب لإثراء الوجدان الشعبى والمحافظة على معظمه كسبيل وملمح ثقافى ينسجم مع إيمانه الدينى وشخصيته، وهو ما يتجلى بوضوح فى الرابط القوى لاستمرار العديد من الإدراكات والقيم والتوجهات السلوكية ذات الطابع الاحتفالى والروحى، التى تترجمها طقوس واحتفالات السبوع والموالد والملاحم والمديح والترانيم وغيرها من المعبرات عن روافد تشكيل الوجدان المصرى، فجميعها توضح ذلك الرابط القوى الذى ربط الأجيال المتعاقبة معًا، وتشكيله لحلقات متصلة وفى سلسلة ممتدة على مدى ما يزيد عن أكثر من ستين قرن من الزمان، فهذه الطقوس والاحتفالات وغيرها من أشكال الترفيه والتعبد، شكلت وسائل مهمة للترابط والتجانس والتواصل ونقل الأفكار والأخبار وصياغة هوية المجتمع، وربط الإنسان المصرى بأرضه ووطنه وأمته ودولته.
لذا يهدف عدد أحوال لتناول فلسفة الحياة عند المصريين من خلال تناول الوجدان الذى يعبر عن خصوصية تميز روح ومضمون الشخصية المصرية، ويشير فى نفس الوقت إلى حيوية وحراك هذا المجتمع فى بنيته الاجتماعية والثقافية، ودرجة تشابك الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وربما السياسية مع الجانب الروحانى والإيمانى (الشعبى)، فهذا الفضاء المجتمعى أوجد روافده ومغذياته للعقل المصرى (كما أوضحه عدد أحوال رقم 84) وترجمته دراسة الحراك والتطورات التى اكتنفت المجتمع وأهل مصر (كما عبر عنها عدد رقم 80)، لتستكمل أحوال مصرية تلك الثلاثية بعدد فلسفة الحياة وما عكسته من ترجمة لفكرة جدلية الوجود والوجدان، وقدرة المصريين على حل تلك الشفرة من خلال الموروثات العقائدية والروحانية والحياتية وترسخها فى العقل الجمعى والمزاج الشخصى.
هذه الثلاثية انطلقت من رؤية حاكمة للكثير من أعداد أحوال مصرية السابقة، التى وقفت على العمق الحضارى والفلسفى والثقافى لدى المصريين كأمة ومجتمع ودولة، من خلال رصد العديد من المحطات المضيئة وتلك المحطات المظلمة فى التاريخ المصرى، ورصد طبيعة المتغيرات والتحولات، ولتلفت الانتباه إلى كثير من الثوابت والملامح الرئيسية التى لا تزال راسخة فى الوجدان والمجتمع المصرى وهو ما تناوله العديد من أعداد أحوال مصرية عند معالجتها للشارع المصرى، والعائلة، والقرية، وعند تناول الشخصية والهوية من خلال منظور التقدم ومعناه، وقضايا المرأة، وجيل z المصرى، وما طرحته متطلبات النهوض بالدولة والمجتمع والمواطن، من رؤية وسياسات تتعلق بالثقافة والتعليم والصحة والإسكان والأمية ومواجهة التطرف والتعامل مع التراث الإسلامى وغيرها من العناوين والقضايا التى عالجتها أحوال على مدى أكثر من ثمانين عددًا بشكل عام وثلاثين عددًا بشكل خاص.
فالمجتمع الإنسانى بجوانبه المتعددة المتصارعة والمتعاونة حول القيم المادية والروحية، يشير بدوره إلى أهمية المكونات القيمية والثقافية والأخلاقية فى بناء الحضارات وانهيارها، ويشير أيضا الى القدرة على صياغة الخصوصية والتميز، وإن كنا فى هذا العدد قد ركزنا على الوجدان المصرى، فهو تعبير عن إيمان قوى أن روح الأمم لا تشيخ، إلا إذا انقطعت مغذيات تلك الروح التى تمدها بالحياة والحيوية وتمكنها من تجاوز القوالب والجمود والحدود والجغرافيا، وعندما تتوقف عن الإشعاع بنورها ومعرفتها وإبداعها وقيمها وأخلاقها، ولذا عندما يمتلك شعب هذا الوجدان ويتجسد فى روح شخصيته وهويته كما هو حال المصريين، فإن النهوض الذاتى يبقى حاضرا.