اختلطت أوراق المشهد الليبى إلى الدرجة التى يصعب معها وضع تصور حول سيناريو واحد لما يجرى فى ظل حالة السيولة الراهنة والتفاعلات المتسارعة. وباتت كافة السيناريوهات محتملة إلا سيناريو واحد، وهو أن هناك عملية سياسية واضحة الملامح يمكن أن تفضى إلى شىء ما. الحكومات المتنازعة على مشروعية السلطة تتحدث عن قدرتها على إجراء الانتخابات التى لا يعرف أحد كيف أو متى يمكن أن تجري. وفى خط موازٍ، هناك نزاع مصالح بين الفصائل المسلحة والمليشيات، يتقاطع مع خط آخر على وقع التلاقى بين القيادة العامة ورئاسة الأركان فى الغرب تحت عنوان توحيد المؤسسة العسكرية.
وتتحرك القوى الخارجية بين تلك الخطوط حفاظاً على الحد الأدنى المطلوب من الاستقرار لاستمرار تدفق النفط فى ظل أزمة الطاقة العالمية، وعدم انزلاق البلاد إلى حالة الاحتراب مجدداً، وعرض الوساطات بين الأطراف بدعوى الوصول إلى نقطة توافق، وإن كان الهدف فى واقع الأمر يكمن فى الحفاظ على مصالح ومكاسب تلك الأطراف.
تفكيك المشهد ما بين تحالفات المركز والهامش
كيف يمكن تفكيك هذا المشهد فى ضوء التفاعلات الراهنة؟ أولاً، هناك سيولة فى التحالفات على خلفية صفقات كبرى بين الفاعلين فى المشهد تعيد هيكلة التوازنات القائمة ما بين الشرق والغرب، والاختراق الأساسى فى هذه التوازنات هو تشكيل تحالفات متغيرة ما بين الشرق والغرب، تنطلق من القيادة العامة فى الشرق باتجاه الغرب، حولت مسار التوازنات السابقة من معادلة بنغازي-مصراته التى كانت قائمة فى السابق إلى معادلة بنغازي-طرابلس، والتى يمكن أن يطلق عليها تحالفات المراكز.
فى وقت سابق، أنتج التحالف ما بين المشير خليفة حفتر وفتحى باشاغا حكومة بمباركة البرلمان، ثم أعادت صفقة النفط تغير هذا التحالف بتقارب مع رئيس وزراء حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة، بعد أن فشل باشاغا فى إدارة الحكومة من طرابلس، والتى باتت مرهونة بمعركة مسلحة تقصى حكومة طرابلس، وهى مسألة شديدة الصعوبة. كذلك، فإن عملية إغلاق النفط تسببت فى تجميد التدفقات الاقتصادية، لذا كان هذا التحالف إجبارياً.
هناك تحالفات أخرى موازية، يمكن أن يطلق عليها تحالفات الهامش، وهى تحالف فتحى باشاغا- الذى لم يعد ثقله هو الآخر ينطلق من مصراته، بل انتقل إلى الزاوية- مع فصائل مسلحة من غريان بقيادة القيادى العسكرى المنشق عن الرئاسى أسامة جويلي، بالإضافة إلى فصائل الزاوية، وبعض الفصائل من مصراته. ورغم تجديد رئيس مجلس النواب عقيله صالح الثقة فى حكومة باشاغا، إلا أن الحكومة لم تمارس مهامها الفعلية، وربما أصبحت أضعف من أن تقوم بهذا الدور بعد فقدان حاضنة القيادة العامة، التى كانت تمثل جناح القوة الداعم للبرلمان، وبالتبعية فقدت ورقة سرت كمركز ثقل موازٍ لحكومة طرابلس. ومن المتصور أن باشاغا نفسه بات يدرك واقعية هذا الأمر، وأن سرت لن تكون بديلاً لطرابلس على نحو ما كان يأمل، وهو ما يفسر تراجعه مرة أخرى، وتلويحه بدخول طرابلس مجدداً.
دائرة مفرغة لخرائط طريق متصارعة
قبل أن تتغير خريطة التحالفات مؤخراً، وبشكل ناعم على نحو ما جرى، كان هناك نزاع بين خريطتى طريق: خريطة الطريق التى وضعها البرلمان فى مارس الماضي، مقابل «خريطة الطريق الأممية» التى كانت قد فشلت بفشل عملية إجراء الانتخابات التى كانت مقررة فى 24 ديسمبر الماضي، وبالتالى انتهت الصلاحية السياسية، لكن بقت منها الصلاحية الزمنية حتى 21 يونيو 2022، وهى الفترة التى كانت المستشارة الأممية ستيفانى وليامز تراهن على أن تقتنص فيها فرصة استعادة المسار مرة أخرى عبر التوصل إلى القاعدة الدستورية بالتوافق ما بين مجلسى النواب والدولة، لكن فشل هذا الرهان وفقدت بوصلة العملية السياسية.
المجلسان تقاربا شكلياً لكنهما أهدرا فرصة التوافق فى إنتاج القاعدة الدستورية فى تلك المرحلة، رغم أن التوافق كان معلقاً فقط على نقطة واحدة وهى نقطة تخلى المرشح عن الجنسية الأجنبية قبل إعلان ترشحه، مع الوضع فى الاعتبار أنه كان هناك احتمال لظهور خريطة طريق ثالثة عبر المجلس الرئاسي، وهو ما جاء على إثر تقدم الحركة الاحتجاجية خطوة سريعة إلى صدارة المشهد، لكنها سرعان ما تراجعت على وقع التأكيد الرئاسى أنه لا يمتلك أوراق الضغط التى تمكنه من الإقدام على تلك الخطوة.
فى السياسة تتقدم المصالح أولاً، وبعض الساسة بشكل عام يلعبون «النرد» للرهان على ضربة الحظ، وبعض الساسة يلعبون الشطرنج للرهان على قدرة الخصم على التفكير وإدارة خطة إستراتيجية. وفى ليبيا، يلعب الساسة لعبة الورق، وبالتالى يخلطون الأوراق مع كل دورة سياسية بلا نتائج، على نحو يعنى أن المعادلات الحالية ليست نهاية المطاف، لكن الدورة الحالية قد يكون من مميزاتها تقارب المكونات العسكرية، وهى فرصة قد يكون من المهم استثمارها، وهو ما يتوقف على دوافع التقارب التى ستكشف لاحقاً ما إذا كان تقارباً تكتيكياً أم إستراتيجيا، لكن فى الأخير دفعها إلى الأمام سيحول الفصائل المسلحة والمليشيات إلى فخار يكسر بعضه بعضاً. وهناك مسار آخر تراجع، وهو مسار تقارب المجلسين (النواب والدولة) للوصول للقاعدة الدستورية، والتوافق على المناصب السيادية. لكن هذا المسار قد يعيد حساباته ويتوصل لصفقة ما، إلا أنه لا يزال فى مرحلة قراءة الخريطة الراهنة وتداعياتها.
الأطراف الخارجية: تدخلات مُربِكة
تعزف كافة الأطراف الخارجية نغمة واحدة وهى إجراء الانتخابات بما يمكن أن يحقق التوافق. لكن كل طرف لديه أجندة سياسية مختلفة؛ فالولايات المتحدة تتحرك كوسيط سياسى بين الحكومتين؛ الدبيبة وباشاغا، ولا يعتقد أن الهدف هو تنازل أىٍ منهما للآخر، كما لا يتصور أن كلتا الحكومتين لديهما أوراق اللعبة، فكما سلفت الإشارة هناك أطراف أخرى لديها أوراق مؤثرة فى اللعبة. ومن الناحية الواقعية، لا تقوم واشنطن بوساطة بقدر ما تقوم بعملية إدارة أزمة.
وفى السياق نفسه، يعتقد أن المستشارة الأممية قد استنفدت كافة أوراقها، وأصبحت هى نفسها ورقة صراع نفوذ بين القوى الكبرى، وهو مشهد يعكس طبيعة تأثير «لعبة الأمم» على المشهد الليبي؛ فروسيا تؤكد ضرورة تغيير الممثل الأممى بدعوى أن ستيفانى تنفذ أجندة أمريكية، وواشنطن فى المقابل تؤكد على دعم جهود الممثلة الأممية الخاصة. كما أن فرصة تقارب القوى الإقليمية تضعفها حالة استقطاب القوى المحلية فى ضوء المعادلات المتغيرة.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 31 يوليو 2022.