صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

أعادت قمة طهران الثلاثية، التى عُقدت فى 19 يوليو 2022، بين رؤساء روسيا وإيران وتركيا، ملف الأزمة السورية إلى واجهة الأحداث مجدداً بعد حالة من الجمود والثبات فى خريطة تفاعلات القوى الدولية والإقليمية المعنية بها، خاصة بعد أن نجحت "صيغة آستانا"- يناير 2017 - فى إنهاء حالة المواجهة المسلحة "المباشرة" بين طرفى الصراع السورى: النظام والمعارضة، وهى صيغة تعاون آمنية تقوم على آلية "خفض التصعيد" فى مناطق المواجهة المسلحة بين النظام والمعارضة بضمانة ثلاثية من قبل روسيا وتركيا وإيران، حيث وظفت روسيا تلك الآلية بقوة وفاعلية فى تنفيذ المصالحات الداخلية بين الطرفين، وما ترتب عليها من تسويات لأوضاع فصائل المعارضة المسلحة طبقا لشروط محددة.

ووفقاً لهذه الصيغة أيضا رُسمت - إلى حد ما - حدود النفوذ للدول الثلاثة على الأرض السورية. باستثناء "إدلب" التى لازالت تخضع لتفاعلات المصالح الروسية-التركية فى سوريا، والتى انعكست فى "اتفاق إدلب" بصيغتيه الأولى عام 2018، والثانية عام 2020.

تبدو القمة الثلاثية فى إحدى دوافعها كاصطفاف دولى إقليمى يحاول الرئيس الروسى فلاديمير بوتين عبره كسر عزلة روسيا نتيجة العقوبات المفروضة عليها جراء الحرب على أوكرانيا، ومحاولة بوتين تصدير هذا الاصطفاف لواجهة تفاعلات روسيا مع الولايات المتحدة رداً على زيارة رئيسها جو بايدن لمنطقة الشرق الأوسط – خلال الفترة من 13 إلى 16 يوليو 2022- ولقاءاته التى عقدها مع قادة دول الخليج إلى جانب مصر والعراق والأردن، وذلك على هامش إعادة الولايات المتحدة صياغة مصالحها فى المنطقة فى ضوء تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية على أمن الطاقة، ورغبتها فى ضمان حالة "التدفق الحر لمسارات الطاقة" كبديل عن إمدادات الطاقة الروسية لحلفائها الأوروبيين من ناحية، وضمان استقرار أسعار النفط فى السوق العالمية من ناحية ثانية.

مصالح ثلاثية راهنة

وبالرغم من أن القمة ناقشت تطورات الملف النووى الإيرانى، والحرب الروسية ضد أوكرانيا، إلا أن هذا لم يمنع استحضار القمة لأهم ملف يجمع بين مصالح دولها الثلاثة فى المنطقة وهو الملف السورى، بخلاف أن الملف نفسه يشهد انخراطاً عسكرياً أمريكياً فى مناطق الشمال الشرقى السورى؛ حيث المصالح الأمريكية المتعددة وهى: النفط السورى، والحليف المحلى (الأكراد السوريين)، والقواعد العسكرية، وهو انخراط رغم محدوديته إلا أن تمركزاته فى الشمال الشرقى السورى تفرض على باقى القوى الدولية والإقليمية المعنية بالأزمة التحسب الشديد لأهميته الإستراتيجية، لاسيما مع قربه من مناطق الحدود مع العراق الذى يشهد أيضاً وجوداً عسكرياً أمريكياً ما يجعل هذه المنطقة "أهدافاً استراتيجية" لباقى دول خريطة النفوذ السورية: روسيا وتركيا وإيران.

 وبخلاف أن تركيا وإيران تجمعهما مصلحة "أصيلة" فى عدم الوجود العسكرى الأمريكى فى الشمال السورى: الأولى لدور واشنطن فى دعم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" – العدو اللدود لتركيا -عسكرياً واستخباراتياً. والثانية، لرفضها التام لأية وجود عسكرى أمريكى على الأرض السورية باعتباره يؤثر سلباً فى مسار مشروعها الإقليمى فى المشرق العربى. إلا أن الزخم الأكبر بشأن الملف السورى فى الوقت الراهن اكتسبه من تطورات الانخراط الروسى فى أوكرانيا بما "قد" يدفع الملف إلى تصدر "معادلة روسية جديدة" للتفاعل تحيد بها موسكو خلافاتها المؤقتة مع تركيا (ملف إدلب)، ومع إيران (تعارض المصالح على الأرض السورية) مقابل تحقيق نوع من "الاصطفاف" – إن جاز التعبير- الذى يجمعها وقوى إقليمية وازنة بإمكان هذا الاصطفاف ممارسة "ضغوط" محسوبة على المصالح الأمريكية فى الشمال السورى مستقبلاً، هذا بخلاف أن روسيا وإيران تجمعهما العقوبات الأمريكية نفسها، والتى تعانى الدولتان بمقتضاها من العزلة الدولية، وتحاول الرد عليها عبر فرض آلية التعامل التجارى بالعملات المحلية.      

عقد القمة الثلاثية فى طهران تضمن العديد من الرسائل السياسية التى تحاول روسيا وإيران توصيلها للولايات المتحدة والقوى الأوروبية؛ خاصة بعد أنباء تواردت عن شراء روسيا طائرات مقاتلة بدون طيار من إيران لاستخدامها فى حربها ضد أوكرانيا، ما يعنى ضمنياً مزيد من التنسيق والتعاون بين روسيا وإيران فى مواجهة استراتيجية أمريكية تسعى إلى احتوائهما وتقليص نفوذهمها على الصعيدين الدولى والإقليمى من ناحية، وإطالة أمد الصراع العسكرى فى أوكرانيا من ناحية ثانية.

هذه الأنباء أثارت قلق الأوساط الدبلوماسية الأمريكية، فثمة من يشير إلى استغلال إيران للرفع الجزئى للعقوبات عام 2020، فى توسيع صناعة الأسلحة وتوظيف إيران ذلك –وفقاً لهذه الأنباء – فى إنشاء مصنع لصناعة الطائرات المسيرة فى طاجيكستان. هذا المنطق الروسى الإيرانى فى ترقية حالة التعاون والتنسيق - خلال الوقت الراهن - يبدو واضحاً وبقوة على خلفية حالة العداء الإيرانية الواضحة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. لكن ما هو المنطق الذى يدفع تركيا للحذو نفسه، وهى تتمتع بعضوية حلف عسكرى يضمها والولايات المتحدة وهو حلف الناتو؛ بمعنى أكثر دقة أن ثمة تفهماً واضحاً لدوافع روسيا وإيران لإعادة صياغة اصطفافهما ضد القوى الغربية، لكن هناك "غموضاً" يعنون اصطفاف تركيا مع روسيا وإيران مؤخراً، وهو غموض يتجاوز (تعارض المصالح) بين الولايات المتحدة وتركيا بشأن العلاقات الأمريكية مع الأكراد السوريين.

تفسير ذلك يعود إلى اعتياد أنقرة على مدار فترة حكم الرئيس رجب طيب أردوغان ممارسة سياسة خارجية "مزدوجة" الأهداف، و"مرنة" الاستراتيجيات لا مكان فيها إلا للمصلحة البراجماتية المحضة؛ فهى تحافظ على علاقاتها مع روسيا وإيران فى سوريا والإقليم، وتمارس دبلوماسية تجمع بين المرونة والشدة مع الولايات المتحدة، وتعيد إصلاح أخطاء سياستها فى المنطقة العربية بمحاولات رأب الصدع بينها وبين مصر ودول الخليج، وتجمعها وإسرائيل مصالح تعاون عسكرية وأمنية واقتصادية ضخمة، ولديها علاقات استراتيجية عسكرية وتجارية مع الدول الأوروبية، وهى تزود أوكرانيا بالأسلحة، وفى الوقت نفسه ترفض الامتثال للعقوبات التى تفرضها الدول الأوروبية والولايات المتحدة على روسيا، وهى وسيط بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الحصار الروسى لموانئ أوكرانيا فى البحر الأسود من أجل تسهيل صادرات الحبوب للعالم.

وبالتالى منطق "المصلحة" و"النفعية" المحضة تعمل أنقرة على توظيفه بوضوح خلال المرحلة الراهنة؛ فهى جزء من مسار الحرب الروسية على أوكرانيا عبر بيعها أسلحة لأوكرانيا ورعايتها لمباحثات ثنائية، ومحاولتها تأمين شحنات الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود ، وهى شريك لروسيا وإيران فى سوريا فى الوقت نفسه. هذه الشراكة القديمة/ الجديدة فى سوريا، ستمكنها من إعادة إحياء هدفها الرئيسى فى الشمال السورى، وهو دعم شركائها الروس والإيرانيين لمطلبها فى شن عملية عسكرية "رابعة" واسعة النطاق ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" – حليف محلى للولايات المتحدة فى سوريا- لاستكمال تأمين مصالحها الأمنية على حدودها الجنوبية بعد عمليات "درع الفرات" عام 2016، و"غصن الزيتون" عام 2018. و"نبع السلام" عام 2019، وذلك بهدف "توسيع المنطقة الآمنة" على حدودها الجنوبية لمسافة 30 كيلومتر، وهى العملية التى تأجلت منذ شهرين تقريباً نتيجة عدم وجود ظروف مواتية حينها على خلفية معارضة روسيا وإيران لها.

ومن ثم فإن إعادة اصطفاف تركيا مع إيران وروسيا يعنى أن ثمة "ظروفاً مواتية" فى الوقت الراهن "قد" تمنح تركيا موافقة شركائها فى صيغة آستانا على شن عمليتها العسكرية "الرابعة" فى الشمال السورى وتحديداً منطقتىَ منبج وتل رفعت في ريف محافظة حلب شمال سوريا، لأن ببساطة المستهدف من العملية هو الحليف المحلى للولايات المتحدة الذى يحظى بدعمها، وبالتالى فإن موافقة ثلاثية على عملية عسكرية تركية "محتملة" ضد هذا الحليف سوف تضغط بقوة على الولايات المتحدة وعلى مصالحها فى شمال شرق سوريا، بما يحقق مآرب كل من روسيا وإيران على حد سواء. وانعكس ذلك بوضوح فى أولى تصريحات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على هامش القمة الثلاثية فى طهران حينما أشار إلى ضرورة خروج الولايات المتحدة من الأراضى السورية. هذا التصريح غاية فى الأهمية لأنه "يخرق" حالة الاعتراف الضمنى للقوى الدولية والإقليمية المنخرطة فى الأزمة السورية بنفوذها المتبادل، أى يخرق "خريطة توازن المصالح الدولية والإقليمية" فى سوريا التى ظلت عليها الأزمة على مدار السنوات الثلاثة الماضية، وينقلها من حالة الجمود والثبات إلى حالة الصراع مرة أخرى.

لكن يظل حصول تركيا على "ضوء أخضر" من روسيا وإيران لشن العملية العسكرية الى تنشدها ضد قوات "قسد" مرهوناً بحسابات كل منهما مع النظام السورى، وهو ما يحد – حتى هذه اللحظات- من تفرد تركيا بقرار الهجوم العسكرى الذى تستهدفه فى تل رفعت ومنبج، بهدف استكمال الحزام الأمني على حدودها الجنوبية؛ فإيران لاتزال تعارض عملية عسكرية تركية شاملة فى الشمال السورى، بالرغم من أنها تستهدف بصورة ما مصالح عدوتها اللدود الولايات المتحدة، ومكمن الرفض الإيرانى هنا هو تأثر مصالح النظام السورى جراء العملية العسكرية التركية المحتملة من ناحية، وتأثر مصالح مشروعها الإقليمى فى حلقته السورية باعتبار أن التوسع التركى العسكرى فى الأراضى السورية يمثل خصماً بالضرورة من مصالح إيران الاستراتيجية فى سوريا كلية من ناحية ثانية، هذا فضلاً عما تروج له بأهمية وجود جيش النظام السورى على الحدود مع تركيا باعتباره هو الضمانة الفعلية للأمن السورى والتركى على حد سواء من ناحية ثالثة. أما روسيا فهى لا ترفض العملية العسكرية التركية المرتقبة تماماً، كما لا توافق عليها كلية، وتقترح على أنقرة بدلاً من ذلك القيام بعملية عسكرية "محدودة" النطاق والتأثير على حد سواء، وهو ما لا تقبله تركيا فى مجمله.  

بيان ختامى يعيد التذكير بصيغة آستانا

البيان الختامى لقمة طهران الثلاثية عكس مصالح شركاء صيغة آستانا فى سوريا؛ فتطرق إلى قضايا: مكافحة الإرهاب بجميع صوره وأنماطه، تنفيذ الاتفاقات الأمنية الروسية التركية المتعلقة بملف إدلب مع ضرورة الحفاظ على حالة التهدئة بشأنه، إعادة اللاجئين السوريين إلى داخل آراضيهم، وضع آلية عمل لصياغة دستور جديد للدولة السورية، إدانة استمرار الهجمات الإسرائيلية على سوريا، وانتهى البيان بدعوة الدول الثلاثة إلى التحضير لاجتماع دولى بشأن سوريا – وفقاً لصيغة آستانا - فى نهاية عام 2022 الجارى. البيان بهذا الشكل يعيد تذكير المجتمع الدولى بأن هناك صيغة واحدة فقط هى التى ينبغى أن تناقش على أساسها تطورات الملف السورى، وهى التى توافقت عليها القوى الثلاث روسيا وإيران وتركيا، ما يعنى رفض تلك الدول وجود أى "مرجعيات" دولية سابقة ناقشت الملف السورى فى إشارة إلى آلية مؤتمرات "جنيف" ومساراتها فى "فيينا".

تحتاج روسيا إذن لكل من تركيا وإيران فى ظل ظروف حربها على أوكرانيا؛ وهى الظروف التى فرضت عليها ضرورة إعادرة ترتيب أوراق ملفاتها المهمة التى تتقاطع مصالحها فيها مع غيرها من القوى التى من خلالها تستطيع روسيا تكوين "شبه اصطفاف" - إن جاز التعبير - فى مواجهة الاصطفاف الأمريكى الأوروبى من ناحية، ومحاولة الولايات المتحدة حشد بعض القوى الإقليمية فى المنطقة دعماً لسياستها فى مواجهة إيران وروسيا من ناحية ثانية، وإن كانت محاولات الولايات المتحدة فى هذا الشأن تصطدم بوجود علاقات تعاون "متزنة" لروسيا مع مصر والإمارات والسعودية وإسرائيل والعراق.

من المحتمل إذن أن تتجه روسيا وبعد هذه القمة إلى ترقية التعاون مع إيران إلى مستوى "التحالف الإستراتيجى"، بعد أن كانت "توظف" إيران كورقة ضغط وأحياناً تفاوض فى علاقاتها الدولية. فهناك رأى يقول بأن روسيا "ربما" تدفع إيران إلى ممارسة قدر من التعنت حيال شروط الولايات المتحدة بشأن العودة للاتفاق النووى بهدف إبعاد الولايات المتحدة عن تحقيق "نجاح استراتيجى" بالتوصل لاتفاق نووى جديد مع إيران، الأمر الذى يدفع الأخيرة إلى العودة إلى أسواق النفط العالمية لتغذية النقص الذى يحدثه الغياب الروسى عن سوق الطاقة – بما يؤدى إلى خفض الأسعار واستقرارها- بفعل العقوبات الأمريكية الأوروبية المفروضة على موسكو. ويذهب أنصار هذا الرأى إلى القول بأن روسيا ربما ترفع سقف تعاونها مع إيران مستقبلاً ليشمل تزويد إيران بمنظومة صواريخ متطورة على غرار إس 400، التى سبق وأن طلبتها طهران من روسيا، وفى حالة تحقق ذلك، فمن المتوقع أن تغير إيران معادلة مفاوضاتها مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووى، هذا بخلاف ما تمثله طهران بالنسبة لروسيا كممر تجارى للالتفاف على العقوبات الاقتصادية من ناحية، وتصدير منتجاتها من ناحية أخرى مستفيدة من الخبرة الإيرانية فى الشأن نفسه.   

قمة طهران الثلاثية بهذه الكيفية أعادت الزخم للملف السورى مجدداً، عبر إعادة إحياء "صيغة آستانا" للتعاون الثلاثى التى أفضت إلى درجة من الثبات والاستقرار فى علاقات روسيا وتركيا وإيران بشأن سوريا، بل وتشكيل علاقات تعاون ثلاثية جديدة انطلاقا من الانخراط الروسى فى أوكرانيا، وما ارتبط به من تداعيات فرضت عودة التعاون بين الدول الثلاثة المذكورة؛ إما لخرق وكسر حدة العقوبات كحالتى روسيا وإيران، وإما لكسب مزيد من المنافع كحالة تركيا، وإما مواجهة ما ستسفر عنه مسارات التغير المحتملة فى النظام الدولى والإقليمى على وقع الحرب الروسية الأوكرانية مستقبلاً.