التسجيلات الصوتية التى تم "تسريبها" من قبل صحفى وناشط عراقى مقيم فى الولايات المتحدة لرئيس الوزراء العراقى الأسبق نورى المالكى، والتى تعرض فيها الأخير مباشرة لشخص زعيم التيار الصدرى مقتدى الصدر متهماً إياه بـ"الخيانة والجبن"، وواصفاً كذلك حلفاءه من التيارات السياسية السنية والكردية، تضيف الكثير من التوتر على علاقة "العداء المستعرة " بطبعها بين المالكى والصدر، والتى تعود إلى فترتى ولاية المالكى لرئاسة الوزراء من عام 2006 وحتى عام 2014، والتى وصلت إلى حد الاقتتال المسلح بين الطرفين وتحديداً فى عام 2008، حينما شن المالكى عملية عسكرية ضد ميليشيات الصدر - المعروفة آنذاك بجيش المهدى - فى البصرة ومحافظات جنوب العراق، وهى العملية التى أطلق عليها المالكى مسمى "صولة الفرسان"، وخلالها تم قتل واعتقال العديد من عناصر التيار الصدرى وذراعه العسكرية، وصنفت وقتها هذه العملية من قبل حكومة المالكى على أنها حملة لفرض هيبة الدولة والقانون، لكن فى الواقع كان الصراع محتدماً بين المالكى وتيار الصدر على "النفوذ" الشيعى فى مدن الجنوب التى يحظى فيها الأخير بقاعدة شعبية واسعة.
تاريخ من العداء
فى عام 2012، عارض الصدر بشدة التجديد للمالكى لولاية ثانية. وبحلول عام 2014، تجددت الخلافات بين الطرفين على خلفية اتهام التيار الصدرى للمالكى بمسئوليته عن سيطرة تنظيم الدولة "داعش" على ثلث الآراضى العراقية، لاسيما بعد سقوط الموصل فى يونيو 2014، وعارض تيار الصدر آنذاك تولى المالكى فترة ولاية ثالثة على وقع حالة التردى الشاملة - أمنياً وعسكرياً واقتصادياً- التى شهدها العراق خلال فترتىَ حكمه، ودعم فى المقابل تولى حيدر العبادى رئاسة الحكومة. وتماهى ذلك مع رفض الولايات المتحدة لتولى المالكى فترة ولاية ثالثة، وموافقة إيران مقابل أن لا يتم تسليح عشائر سنية لتتولى محاربة تنظيم "داعش"، وترك هذه المهمة للميليشيات الشيعية.
عاد الخلاف السياسى بين الطرفين ليطل برأسه مرة أخرى فى أعقاب تبنى الصدر للحراك الشعبى فى أكتوبر عام 2019، واقتراب الصدر من مطالب الجماهير التى نادت بعراق ذا هوية وطنية واحدة عابرة للطائفية، وهو ما لم يستسيغه نورى المالكى الذى عدت فترة ولايتيه من أكثر فترات شيوع الممارسات "الطائفية الممنهجة" ضد المكون السنى والكردى فى العراق. ومع نتائج الانتخابات البرلمانية (أكتوبر 2021) والتى أسفرت عن تقدم تيار الصدر على الأحزاب الشيعية الأخرى الأكثر ارتباطاً بإيران ومنها ائتلاف دولة القانون للمالكى، تجددت الخلافات السياسية بين الصدر والمالكى على هامش رفض الصدر مطلب قوى الإطار التسيقى – من بينها ائتلاف دولة القانون الذى يرأسه المالكى - تكوين كتلة شيعية واحدة تتولى عملية تشكيل الحكومة التى أرادها الصدر حكومة وحدة وطنية، بينما أرادها الإطار التنسيقى حكومة توافق تقوم على المحاصصة الطائفية. وتعود أهمية ائتلاف دولة القانون بالنسبة للإطار التنسيقى إلى ما حصده الائتلاف من مقاعد برلمانية فى الانتخابات المذكورة، والتى تجعل كتلته محور ارتكاز لباقى قوى الإطار فى مساعيها لتشكيل الحكومة بعد انسحاب تيار الصدر من البرلمان.
ما الجديد؟
معطيات حالة العداء التاريخى بين الصدر والمالكى بالكيفية السابق رصدها، تعطى خلفية واضحة للتسريبات التى تضمنت تسجيلات صوتية للمالكى تحتوى على تجاوزات لفظية، واتهامات سياسية من شأنها أن تضيف مزيداً من التوتر على علاقة متوترة بطبعها، فما الجديد إذن فى هذه التسريبات؟، وما الذى تحمله بالنسبة لنمط العلاقة المتوترة – عبر سنوات - بين الطرفين؟، ومن يقف وراء هذه التسريبات؟.
الجديد فى التسريبات ليس فيما تحتويه من مضمون لا يضيف جديداً لحالة العداء بين الرجلين، لكن الجديد هو "التوقيت" فى حد ذاته الذى أختير فيه طرح التسريبات عبر منصة من منصات التواصل الاجتماعى؛ حيث تتوالى محاولات الإطار التنسيقى لتشكيل الحكومة وفقاً لرؤية القوى السياسية المنضوية فيه على أساس من "المحاصصة الطائفية"، لاسيما بعد أن أتاح انسحاب تيار الصدر من الحياة السياسية أمامها فرصاً سانحة لتحقيق مبتغاها فى تشكيل كتلة برلمانية أكبر تتولى اختيار رئيس الحكومة، وهو ما عجزت عنه تلك القوى حتى وقت كتابة هذه السطور. وائتلاف دولة القانون الذى يرأسه المالكى يعد هو الكتلة الأكثر حصداً لمقاعد برلمانية بالنسبة لباقى القوى السياسية المنضوية فى الإطار، وهو وضع يوفر للمالكى أفضلية على أقرانه السياسيين فى الإطار، ويوفر لائتلافه بالتبعية أفضلية فى تولى الحكومة الجديدة والاستحواذ على حقائب وزارية وازنة.
هنا يشير البعض إلى خلافات كامنة بين المالكى وحلفائه فى الإطار التنسيقى نفسه نتيجة رفض بعض القوى فيه فكرة تولى المالكى الحكومة الجديدة استناداً إلى ما حصده من مقاعد برلمانية دون باقى القوى السياسية فى الإطار، ويعد تيار "الحكمة الوطنى" لعمار الحكيم أبرز الرافضين لتولى المالكى رئاسة الحكومة على خلفية تعارض مشروع عمار الحكيم الشبابى الوطنى الذى أسسه عام 2017، مع مشروع المالكى وائتلافه؛ فتيار الحكيم يتبنى شعارات أقرب فى مضمونها إلى شعارات تيار الصدر بشأن "الهوية الوطنية العابرة للطائفية". بينما ائتلاف دولة القانون يتبنى الإرث الشيعى الذى يقوم على الإعلاء من شأن "الهوية الطائفية الشيعية" كأساس للحكم والسلطة وتوزيع النفوذ السياسى والاقتصادى. بل لم يتوان عمار الحكيم عن إعلان تأييدة لبقاء الكاظمى رئيساً للوزراء- خلال إلقاؤه خطبة عيد الأضحى وسط أنصاره - باعتبار الكاظمى شخصية مستقلة استطاعت تحقيق الكثير من الانجازات للعراق خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بما يمكن استمرارها مع إدخال تعديل على تكوينها.
ووفقاً لهذه المقدمات، فإن فكرة عودة المالكى لتصدر المشهد السياسى فى العراق، يرفضها عدد من زعماء القوى السياسية المنضوية فى الإطار التنسيقى الذى يعد المالكى جزءاً منه، ويرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب من وجهة نظر أنظار هذا الرأى:
الأول، أن المالكى بطبعه "الطائفى الحاد" الذى لا يتوارى عن التعبير عنه من شأنه أن يُضعِف مجدداً من "شعبية" المكون الشيعى السياسى فى مجمله، على غرار ممارسته خلال فترة ولايتيه ضد السنة والأكراد، بل ضد أحد مكونات البيت السياسى الشيعى نفسه وهو تيار الصدر، وهى السياسات التى يعدها حلفاؤه فى الإطار سبباً مباشراً فيما يعانيه المكون الشيعى السياسى حالياً من تراجع حاد فى التأييد شعبى. وبالتالى وبالرغم من حرص الإطار التنسيقى على تفوق الطائفة الشيعية سياسياً، ومحاولة ترجمة ذلك فى الاستحواذ على تشكيل الحكومة الجديدة، إلا أن ذلك لا يفترض عودة المالكى بسياسته الطائفية الحادة إلى السلطة مرة أخرى.
الثانى، أن بعض زعماء الحشد الشعبى – الذين لا يقلون طائفية عن نورى المالكى – يعترضون بدورهم على توليه الحكومة مجدداً؛ وتفسير ذلك أن شخصية المالكى الحادة قد تتعارض فى تفاعلاتها مع زعماء الإطار، مما قد يضع قيوداً على تصرفات الحشد وتحركاته داخل النسق السياسى والأمنى للدولة، ويُعرِّض بالتالى المكون الشيعى لمزيد من الانقسام وربما الاحتراب مستقبلاً، فى الوقت الذى تحاول فيه قوى الإطار الشيعى معالجة حالة الانقسام التى شهدها المكون على وقع انفصال تيار الصدر عن باقى المكونات السياسية الشيعية خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة. ويسوق البعض، تأييداً لهذا التصور، إعلان هادى العمرى رئيس ميليشيا "منظمة بدر" أحد المكونات الرئيسية للحشد الشعبى عدم مشاركته فى تشكيل الحكومة المقبلة، ونفيه للأنباء التى تواردت بشأن طرح نفسه كمرشح لرئاسة الحكومة. يضاف إلى ذلك الأنباء التى تواردت بشأن اعتراض المرجعية الدينية الشيعية فى النجف على عودة المالكى كمرشح لرئاسة الوزراء؛ باعتبار أن سياسته الطائفية الصرفة ضد باقى المكونات السياسية فى العراق وحواضنها الاجتماعية كانت سبباً رئيسياً فيما آلت إليه الأمور فى العراق على المستوى الداخلى.
الثالث، أن إيران صاحبة الولاية الإقليمية على القوى الشيعية العراقية، والتى ورغم هدفها الذى رسخته منذ انتخابات عام 2006، بضمان استحواذ الأحزاب الشيعية على السلطة فى العراق، إلا إنها وفى ضوء مسار تفاعلاتها الإقليمية والدولية مع الولايات المتحدة، وحالة العزلة التى فرضتها العقوبات النوعية والموجعة عليها، وما يمثله العراق من أهمية بالنسبة لها تمكنها من تجاوز الانتكاسات الاقتصادية باعتباره منفذها التجارى الرئيسى للالتفاف على العقوبات، وحالة التراجع الشعبى الذى يعانى منها وكلاؤها فى الداخل العراقى، كل هذا يفرض عليها ضرورة رفض أى محاولة من شأنها تأزيم الوضع السياسى فى العراق أكثر مما هو عليه، بل بات من مصلحتها الإقليمية أن تتصدر رئاسة الوزراء فى العراق شخصية شيعية تكون مقبولة ليس على مستوى الداخل العراقى فحسب، ولكن على المستويين الدولى والإقليمى أيضاً، وهو ما لا يتوافر فى شخصية المالكى أو فى أى شخصية يحاول فرضها من داخل ائتلافه كمرشح لرئاسة الوزراء. ويشير البعض هنا أيضاً إلى إيعاز إيران لقوى الإطار التنسيقى عبر سفيرها فى بغداد بعدم ترشيح شخصية تكون "مستفزة" لتيار الصدر، لعلمها مدى تحكم الصدر فى الشارع العراقى وقدرته على تأجيج الاحتجاجات الشعبية العارمة والعابرة للطائفية، والتى بإمكانها إسقاط أى حكومة جديدة عبر آلية توظيف الشارع سياسياً، والتى يجيدها الصدر باقتدار، على غرار ما فعله خلال احتجاجات أكتوبر 2019.
من هنا، يرجح بعض المهتمين بالشأن العراقى أن يكون حلفاء المالكى فى الإطار التنسيقى نفسه هم من سربوا هذه التسجيلات الصوتية، لأنها ببساطة ستُضعِف من حظوظ المالكى فى العودة لتصدر رئاسة الحكومة العراقية المرتقبة. بل ثمة من يذهب أبعد من ذلك بالقول أن الاستخبارات الإيرانية نفسها هى التى سربت حديث المالكى، بهدف وقف حملات استفزازه الإعلامية للتيار الصدرى بصورة مباشرة، والتى بدأها وأنصاره من ائتلاف دولة القانون للترويج لفكرة عودة المالكى كمرشح لرئاسة الحكومة المقبلة، فور إعلان الصدر انسحابه وتياره السياسى من البرلمان، فى مخالفة واضحة من قبل المالكى لنصائح زعماء قوى الإطار التنسيقى من ناحية، ونصائح إيران من ناحية ثانية والتى تركزت حول عدم استفزاز الصدر خلال المرحلة الحالية.
قراءة مغايرة
بخلاف القراءة السابقة لتسريبات المالكى ومن يقف ورائها، ثمة من يطرح قراءة أخرى تشير إلى احتمالية أن يكون رئيس الوزراء العراقى - المنتهية فترة ولايته - مصطفى الكاظمى هو المسئول عن تسريب تسجيلات المالكى، فجدير بالذكر أن الكاظمى كان يشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات الوطنى العراقى ولا يزال الجهاز يعمل تحت إشرافه، ومن المحتمل أن التسجيل تم أساساً بمعرفة الاستخبارات، وتم تسريبه لناشط سياسى عراقى مقيم فى الولايات المتحدة، وبالتالى يعتبر محمياً من أنصار المالكى بوجوده خارج العراق. وتفسير ذلك أن الكاظمى ربما توجس من بقاؤه منفرداً فى مواجهة قوى الإطار التنسيقى بعد انسحاب الصدر من العمل السياسى، حيث وفر الأخير للكاظمى دعماً سياسياً دائماً خلال فترة ولايته، فى الوقت الذى لا تفضل فيه بعض قوى الإطار وعلى رأسها ائتلاف دولة القانون لنورى المالكى فكرة إعادة اختيار الكاظمى كرئيس للوزراء. ومن ثم وفى حالة رئاسة المالكى للحكومة الجديدة، فى ظل مواءمات قوى الإطار لمصالحها البينية، فإن الكاظمى سيكون فى مرمى أهداف المالكى، وربما يتجه الأخير إلى تصفية حساباته معه، وبالتالى فإن توظيف الكاظمى – المحتمل – لتسجيلات المالكى وتسريبها من شأنه أن يخدم مصالح الأول، والمتمثلة فى احتمالية بقاءه فى منصبه، وعدم تعرضه لسياسات "تصفية الحسابات" حال خروجه من السلطة، كما يخدم أيضاً مصالح تيار الصدر بشأن إزاحة المالكى وتياره من المشهد السياسى العام.
ويبدو مما سبق، أن تسريبات التسجيلات الصوتية الخاصة بالمالكى ستكون سبباً قوياً لإضعاف تطلعاته بشأن توليه منصب رئاسة الحكومة المقبلة، وإبعاده عن المشهد السياسى الحالى؛ إما بفعل حلفاءه فى الإطار التنسيقى نفسه للأسباب سابقة الذكر، وإما بفعل جهاز الاستخبارات الخاضع لسيطرة رئيس الوزراء الحالى مصطفى الكاظمى. وفى كلتا الحالتين، فإن المصلحة العراقية فى الوقت الراهن تقتضى "إقصاء" من كان سبباً مباشراً فى تأزم الوضع السياسى والأمنى فى العراق منذ عام 2006؛ نتيجة لسياساته التى شجعت الفساد المالى والإدارى، ورسخت النفوذ السياسى والاقتصادى لصالح بعض القوى السياسية، وعمقت من تجذر الطائفية بأبعادها السياسية والاجتماعية المختلفة، ولايزال يشجع بنبرة كراهية حادة، وطائفية مستعرة على تحويل العراق إلى ساحة احتراب عشائرى أهلى إذا لم يكن له نصيب فى السلطة.