انطلاقا من أهمية المشاركة المجتمعية فى الحوار الوطنى، وتفعيل دور المجتمع المدنى فى تنظيم التفاعلات الاجتماعية ومواجهة الكثير من الاختلالات التى أصابت بنية المجتمع المصرى، والمشاركة فى بناء الدولة المصرية الحديثة، وتعظيم فرص التنمية الإنسانية للمواطن المصرى، تتضح أهمية التوافق على مجموعة من الإجراءات والمنطلقات التى يستهدفها الحوار، حتى يمكن صياغة أجندته استنادا إلى رؤية حاكمة وأهداف واضحة قابلة للتحقيق وعبر مراحل زمنية تراعى طبيعة وتعدد مكونات المجتمع المدنى، والسياق والبيئة الحاكمة لعمل التنظيمات الأهلية وما تتطلبه من تحفيز تشريعى وثقافى وقيمى، وبناء تفاعلات وأنماط جديدة للعلاقات تتجاوز الكثير من القيود والسلبيات التى تُحِدْ من تطوير مكوناته التى لم تتجاوز غالبيتها مرحلة النشأة والتبلور.
ومع الإقرار المسبق بضعف المجتمع المدنى المصرى وهشاشة تنظيماته، وغلبة الطابع الأهلى على دوره ومسئولياته وقيمه، فإن تنمية قدرات التنظيمات الأهلية لزيادة درجات استجابتها للتطورات والمستجدات المجتمعية، بالقدر الذى يجعلها بوتقة لصهر الاختلافات والتباينات والتنافسات التى يشهدها المجتمع، تفرض نفسها كهدف رئيسى فى الحوار الوطنى، وكتساؤل يحتاج للإجابة عنه من جميع الأطراف الرسمية وغير الرسمية.
والحقيقة إن التساؤل رغم منطقيته وضرورته، فإنه يجب أن يثير بالتبعية مجموعة من التساؤلات الخاصة بحقيقة الدور الذى تقوم به منظمات المجتمع المدنى فى مصر كافة، وليس الجمعيات الأهلية فقط، فى تحقيق «الأمن الاجتماعي» للمجتمع من خلال المساعدات والرعاية الاجتماعية، ومدى قصور باقى الأدوار التنموية والحقوقية والإغاثية، ومدى قدرة التنظيمات الأهلية على الاستجابة لجملة من التحديات والقضايا الجديدة والتى زاد عمقها وتأثيرها السلبى فى المجتمع.
ويقودنا هذا التساؤل، لتساؤل آخر يتعلق بآليات تحويل الدور القائم إلى دور أكثر حيوية وفاعلية واتساعاً فى أجندته، انطلاقاً من دراسة حدود الارتباط بين ما هو مطلوب من أدوار وبين ما هو متوافر من إمكانات وموارد وخبرات وكوادر، مع الأخذ فى الاعتبار ما يفرضه تغليب الأنماط التقليدية للعمل الأهلى على متطلبات ومستجدات واحتياجات المجتمع التنموية من ناحية، وما تفرضه هذه الأنماط التقليدية من تأثير على أنماط المشاركة والتوزيع من ناحية ثانية، ومردودها على فاعلية المواطن وشعوره بالمسئولية، ودفعه لانتقائية المشاركة وتفضيل التبرع على التطوع من ناحية ثالثة، وتفضيل الجهات الرسمية والإدارية لأنماط من العمل الاجتماعى دون غيرها، من ناحية رابعة. بمعنى أدق، أن مشاركة كل مكونات المجتمع المدنى فى الحوار، من شأنه أن يعزز الرؤية الكلية للمنظمات الأهلية بالقدر الذى يساعدها على الاتجاه نحو بناء مجتمع مدنى، ويدفع نحو إصلاح متدرج ومتراكم.
ويلفت التساؤل الرئيسى بدوره النظر لعدد من النقاط والقضايا التى يمكن أن تمثل بتساؤلاتها مجموعة من محاور النقاش وحيزاً من مساحة الحوار الوطنى، ومنها:
1- دراسة نتائج مرحلة توفيق أوضاع الجمعيات وفقا لقانون تنظيم ممارسة العمل الأهلى 149 لعام 2019 ولائحته التنفيذية التى انتهت فى يناير 2022 وتم مدها، فقد كشفت عن العديد من نقاط الضعف الإدارية والإجرائية فى التسجيل وصعوبتها بالنسبة لعدد من الجمعيات، وعزوف البعض الآخر.
كما كشفت المرحلة التالية لإصدار القانون عن الحاجة لدراسة الإعفاءات التى كانت تأخذها الجمعيات من قانون 32 لعام 1964 واستمرت حتى قانون 84 لعام 2002، والخاصة بفواتير الكهرباء والمياه وغيرها لما تمثله من عبء على ميزانية بعضها، خاصة تلك التى تقدم خدمات طبية وتعليمية وغيرها. كذلك يبدو الحوار الوطنى فرصة لمعالجة عدد من الاختلالات المرتبطة بالرؤية والأجندة، مثل خلل توزيع الجمعيات على مجالات العمل الاجتماعى، وخلل التوزيع الجغرافى، وتباين الموارد بين الجمعيات، وضعف الأطر المؤسسية.
2- تحديد منطلقات تقوية الدورين التنموى والثقافى لغالبية مكونات المجتمع المدنى، فى ضوء تغليب فلسفة التكافل الاجتماعى وتقديم الأعمال الخيرية، وحدود التأثير المتبادل بين ما تفرضه تلك الفلسفة من أدوار ومسئوليات وقيم، وبين ما يتطلبه الواقع الاجتماعى والتنموى والثقافى من مستجدات مجتمعية تتطلب تغيير رؤية وفلسفة العمل الأهلى، وبناء مجتمع مدنى راسخ وقوى، قادر على لعب دور الشريك الفاعل فى المشاركة، والتأثير فى توجهات السياسات العامة للدولة.
3- تفعيل مقومات مشاركة المنظمات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى حتى يمكن أن تلعب دور الشريك الفاعل والحقيقى فى عملية صنع السياسات العامة وتنفيذها، وبحيث تكون قادرة على مواجهة الكثير من التحديات التى يواجهها المجتمع المصرى.
4- تفعيل مقومات الشراكة الثلاثية بين القطاعات الحكومية، والأهلية، والخاصة، كمرتكز لتقوية المنظمات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدنى، عبر تحديد العلاقة بين القطاعات الثلاثة، والوقوف حول متطلبات تغيير الإدراك المتبادل بالقدر الذى يساعد على تطوير العلاقة الثلاثية باتجاه تعزيز نموذج التنمية بالمشاركة.
5- بحث سبل تجاوز الطابع النخبوى الذى يفرض نفسه على أداء بعض المنظمات المدنية، خاصة فى مجال حقوق الإنسان، حتى يمكن تجاوز العديد من الحساسيات المرتبطة بقضايا مثل علاقة الداخل بالخارج، والأجندة الدولية والأجندة الوطنية، والإصلاح أم التغيير، وعلاقة ذلك بقضية التمويل، وكذلك علاقة ذلك بمفاهيم الحقوق والحريات وحدود الخصوصية والرؤية المجتمعية الذاتية للهوية والثقافة.
النقاط السابقة بعمقها وتعددها وتشابك أطرافها تعبر عن بعض ملامح الواقع المجتمعى والثقافى السائدة، وتشير بوضوح الى طبيعة المجتمع التقليدى وضعف مؤشرات الحداثة وارتباطها بحدود توافر الإرادة السياسية والاجتماعية، وبالتالى يبقى الحديث عن تحديد متطلبات النهوض وتفعيل المقومات والموارد المجتمعية، مرهونا بتفعيل عدد من السياسات التكاملية الدافعة إلى حشد الموارد، وتنمية الوعى المجتمعى، وبذل المزيد من الجهد لإعادة بناء الثقافة الشعبية بما يتوافق مع نسق القيم الخاص بالمواطنة والتعددية والمشاركة، وبالقدر الذى يمكن معها تحقيق حركة انتقال أعمق وأقوى فى مجالات التنمية وفى العلاقات التضامنية بين أفراد المجتمع فى هذه اللحظة.
من هنا، تتضح أهمية الحوار الوطنى الفاعل ودوره فى البحث عن صيغة جديدة تتجاوز الصيغة الحالية للعمل الأهلى بثقافاته ومسئولياته وأدواره، كما تتجلى من أجندته وبيئة عمل منظماته، فالصيغة الحالية لن توفر لهذا القطاع الأهلى القدرة والفاعلية المطلوبة لتحقيق التنمية المستدامة وتمكين المواطن كسبيل لتمكين المجتمع وتقوية الدولة، بما يعنى الحاجة لحوار ممتد، وأن يكون الحوار الوطنى الراهن هو نقطة انطلاق.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 15 يوليو 2022.