د. هناء عبيد

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية / رئيس تحرير مجلة الديمقراطية السابق

 

ينطلق الحوار الوطنى على خلفية أصداء أزمة اقتصادية عالمية تعتمل وترتب آثارها يوما بعد يوم دون أفق واضح؛ متى تنتهى أو متى يتم احتواء أضرارها؟ وعلى مائدة الحوار موضوعات وقضايا اقتصادية على رأسها الحاجة إلى تأمين الاحتياجات من السلع الأساسية، خاصة فى ظل زيادة أسعار الحبوب فى العالم جراء الحرب الروسية- الأوكرانية، فضلاً عن مشكلات تخص الاقتصاد المصرى، ومنها حجم الدين الداخلى والخارجى، وتزايد أعباء خدمة الدين كنسبة من حجم الإنفاق.

الأزمة إذن هى جزء لا يتجزأ من الحوار، دافعاً وهدفاً، والقضايا الاقتصادية تطرح نفسها بوضوح وإلحاح. ومن المهم فى هذا السياق تنظيم الأفكار وتحديد الأولويات فى سياق التعامل مع القضايا الاقتصادية، وبحث الحلول التى تُراعى الوجه الإنسانى للأزمات، وتستهدف تعزيز القدرات فى مواجهة أزمات حالية أو مستقبلية.

من ناحية أولى، يطرح الأثر المتفاوت للأزمة على الشرائح الاجتماعية المختلفة تحديا أساسيا يجب أن تراعيه الحلول المقترحة والسياسات والبرامج الاقتصادية التى تُصمم من أجل التعامل معها. فإذا كانت الأزمة واحدة من وجهة نظر الاقتصاد الكلى، فهى ليست كذلك بالنسبة للمواطنين. على سبيل المثال، فإن إحصاءات التضخم، تخفى فى داخلها تأثيراتها المتباينة، حيث يشعر المواطنون من شرائح الدخل المختلفة بعبء الغلاء بشكل غير متساوٍ، وتتأثر قدرتهم على تأمين ضروراتهم المعيشية بشكل مختلف. هذه البديهية سلطت عليها الضوء أزمة كورونا، حيث كشفت الأوضاع الهشة لقطاعات واسعة من المواطنين، لا سيما قرابة ثلث المواطنين القابعين تحت خط الفقر، وأكثر من نصف قوة العمل التى تعمل فى الاقتصاد غير الرسمى وفقاً لصيغ لا تعاقدية وبدون غطاء تأمينى فى معظم الأحوال. ومن ثم، فإن جزءا أساسيا من التفكير فى القضايا الاقتصادية ينبغى أن يتطرق إلى توزيع عبء الأزمة عبر الشرائح الاجتماعية، والمناطق الجغرافية، أو حتى عبر الأجيال، بشكل يخفف من آثارها الضارة على الفئات الأكثر هشاشة.

من ناحية ثانية، فإن التفكير فى حلول للأزمة الحالية، يحتاج لتجاوز اللحظة الراهنة، والتفكير ما وراء الأزمة. ففى عالم تسوده الأزمات المتلاحقة، أصبح ما يعرف بالصمود والمرونة Resilience، من الأفكار الحاكمة فى فكر التنمية وأدبياتها، وتعنى فى أبسط تعريفاتها تعزيز إمكانية العودة إلى أوضاع طبيعية بعد التعرض للصدمات. فبالرغم من أن الأزمة ضاغطة، وتستدعى التفكير المكثف فى حلول عاجلة، إلا أنه مع تواتر الأزمات العالمية، أصبحت الحاجة ماسة إلى التفكير بمنطق «الوقاية»، و«تقليل الانكشاف» أمام عوامل الضعف الداخلية، والمؤثرات الخارجية، بما يدعم القدرة على التكيف، وتجنب الوقوع فى أزمات مستقبلية، أو على الأقل الاستعداد لاحتواء أضرارها. ويتم ذلك من خلال عملية مستمرة لتقييم نتائج السياسات الاقتصادية المطبقة، واستخلاص الدروس من الأزمات، وتبنى إجراءات طويلة المدى لتعزيز قدرات ومناعة الاقتصاد والمجتمع. ومن الأفكار التى تطرح نفسها بإلحاح على الصعيد الاقتصادى فى هذا السياق: إعادة النظر فى سياسات الاقتراض، وإيلاء أهمية وأولوية أكبر لقضية الإنتاج وفى القلب منها التصنيع، والاهتمام بالاقترابات الاقتصادية الجديدة لقضايا مثل «الأمن الغذائي» واستبدالها بمفهوم «السيادة الغذائية»، خاصة فى ظل اضطرابات سلاسل الإمداد العالمية وبوادر التوجهات المضادة للعولمة، فضلاً عن التفكير المعمق حول مستقبل دور الدولة الاقتصادى وتوجهاتها وأولوياتها التنموية.

الأمر نفسه ينطبق على قضايا تتعلق برفع مستوى الصمود والمرونة على مستوى المواطنين، وتحصينهم إزاء أزمات حالية أو مستقبلية. فإذا كانت الحلول الآنية قد تقتضى توزيع إعانات عاجلة للفئات الهشة مثلما اتجهت الحكومة أثناء أزمة الإغلاق فى كورونا، من خلال الدعم النقدى للعمالة الموسمية، فإن تعزيز الصمود إزاء أزمات مستقبلية يتطلب حلولاً هيكلية لانتشال شرائح أكبر من المواطنين من مصاف الفقر والعوز، وتحسين شروط وأوضاع العاملين فى القطاع غير الرسمى. فمن الجدير بالملاحظة أنه بينما قد يُعزى دور إيجابى للقطاع غير الرسمى أثناء الأزمات الاقتصادية (بخلاف الحالة الخاصة للإغلاق المرتبط بكورونا) حيث يستوعب أعدادا من الذين يفقدون وظائفهم فى الاقتصاد الرسمى جراء الأزمات، إلا أن هذه الميزة تتحول إلى عبء على المدى البعيد من زاوية بناء الصمود والمناعة، لأنها تعنى ببساطة وقوع المزيد من العاملين فى صيغ عمل أقل أمانا، فى مواجهة أى عاصفة قادمة قد تطيح بهم لأوضاع أسوأ.

من ناحية ثالثة، فإن مسألة مشاركة المواطنين فى القرارات والسياسات الاقتصادية أصبحت ضرورة أكثر من أى وقت مضى. فإذا كان المواطنون سيتعاملون بشكل متكرر مع ظروف غير تقليدية وأوضاع قد تتطلب تضحيات صعبة، فإن مشاركتهم بالرأى، والمعرفة، والتمكين الاقتصادى تصبح أولوية، وذلك سواء من خلال توفير المعلومات والشفافية حول الأوضاع والخيارات الاقتصادية، أو التشاور المجتمعى على جميع المستويات، أو الانخراط فى تصميم بعض البرامج أو السياسات واستمزاج تفضيلات المواطنين حولها، أو حتى المشاركة فى تنفيذها متى أمكن ذلك. ومن ثم، يعد الحوار الوطنى حول القضايا الاقتصادية، وإعلان الحكومة عن وثيقة ملكية الدولة وطرحها للتشاور المجتمعى مؤخراً، خطوات أولى مهمة فى سبيل تحقيق هذا الهدف. وتدعم الكثير من التجارب العالمية، التأثيرات الإيجابية للتنمية التشاركية وانخراط المواطنين فى صنع وتنفيذ السياسات الاقتصادية، ليس فقط على المستوى الوطنى أو من خلال المؤسسات التشريعية أو الحوارات النخبوية، وإنما على مستوى المجتمعات المحلية، ومؤسسات المجتمع المدنى، ومختلف المؤسسات التمثيلية والوسيطة، بما يدعم دراية أكبر للمواطنين بالظروف الاقتصادية، وبناء توافقات حول سبل مواجهتها.

وأخيراً، فالأزمة عادة ما تمثل فرصة، قد تستغل لفرض أكثر الإصلاحات النيوليبرالية تطرفاً وقسوة بدعوى الضرورة، وفق ما تشير إليه ناعومى كلاين فى كتابها الشهير «عقيدة الصدمة»، والذى ألقى الضوء على نماذج تاريخية لاستغلال الصدمات، والكوارث، فى تطبيق سياسات محل جدل، ولكن الأزمات هى أيضاً فرصة للتفكير خارج الصندوق وتبنى تغييرات إيجابية تنشأ من رحم الأزمة وتفرزها دروسها.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 15 يوليو 2022.