صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

بعد عامين من تراجع اهتمام إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن بمنطقة الشرق الأوسط، عادت المنطقة لتكتسب اهتماماً لافتاً من قبل واشنطن تبلور فى أول زيارة رسمية يقوم بها بايدن للسعودية يلتقى خلالها بقادة دول الخليج إلى جانب مصر والعراق والأردن. الاهتمام السياسى الأمريكى بالمنطقة وملفاتها لم يكن حاضراً بقوة على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية منذ تولى بايدن السلطة، حيث ركزت إدارته جل اهتمامها على صياغة سياسات احتواء لكل من روسيا والصين وحماية المصالح الأمريكية فى منطقة الأندوباسفيك.

لكن ومع الحرب التى تخوضها روسيا ضد أوكرانيا منذ فبراير 2022، وتداعياتها على المستويات الدولية والإقليمية لاسيما فى قطاع الطاقة وإمدادات الغاز وانعكاساتها السلبية على الدول الأوروبية والولايات المتحدة، عادت المنطقة مرة أخرى لتكون ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية بما تمتلكه من إمكانيات نفطية بإمكانها أن تكون بديلاً عن النفط الروسى، أى أن زيارة بايدن للمنطقة التى تأخرت عامين فرضتها "الضرورة" وباتت الإدارة الأمريكية "مضطرة" للقيام بها لضمان حالة التدفق الحر للطاقة. وفى الوقت نفسه، تبدو الزيارة انعكاساً لرغبة واشنطن فى تحجيم الدور الإقليمى لإيران، ومنع تحولها لدولة نووية ضماناً لأمن إسرائيل بالدرجة الأولى، وذلك عبر الترويج لمقاربة أمنية أمريكية جديدة فى المنطقة تقوم على تدشين ملامح منظومة دفاع أمنية إقليمية.

معطيات عراقية إقليمية

يحضر العراق ممثلاً فى شخص رئيس الورزاء مصطفى الكاظمى - المنتهية فترة ولايته – اجتماعات بايدن فى السعودية، وتأتى أهمية الحضور العراقى من عدة منطلقات أبرزها الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق، الذى وإن كان قد شهد تخفيضاً متتالياً فى مستوى تمثيله؛ سواء فى عدد القوات أو نوعيتها أو فى عدد القواعد العسكرية، إلا أنه لايزال يشكل متغيراً مهماً فى معادلة العلاقات بين واشنطن وبغداد إذا ما أضفنا دور المتغير الإيرانى فى المعادلة نفسها. إذ تم تأطير العلاقات الأمريكية- العراقية عبر ما يسمى بـ "اتفاقية الإطار الإستراتيجى" المبرمة عام 2008، وهى اتفاقات نظمت أولاً عمليات ونمط الانسحاب الأمريكى العسكرى عام 2011، وأطرت ثانياً لنمط التعاون الاستراتيجى بأبعاده الأمنية والسياسية وحتى الاقتصادية بين البلدين، وعلى أساسها أجرت الدولتان أربعة جولات من الحوار الاستراتيجى الشامل، وحددت ثالثاً شكل ونمط الاتفاقات التى تبرمها بغداد على المستوى الدولى سواء فى سياقها الأمنى أو السياسى، بما لا يتعارض والمصالح الأمنية والاستراتيجية الأمريكية.  

كما تجدر الإشارة إلى الدور الدبلوماسى الفعال الذى لعبه العراق فى تنظيم عدة جولات من الحوار السعودى- الإيرانى فى محاولة لتبديد أزمة الثقة بين الطرفين، والوصول إلى مرحلة من التهدئة الإقليمية فى ملفات الصراع التى تشهدها المنطقة وتتعارض فيها المصالح السعودية مع نظيرتها الإيرانية.

محاولات العراق فى هذا الصدد جاءت استكمالاً لنمط تفاعل الكاظمى مع مشاكل العراق فى محيطه الإقليمى وتطلعه للعودة وبقوة لعمقه الإستراتيجى العربى، وهو ما حرص الكاظمى على تنفيذه خلال العامين الماضيين، لاسيما تجاه مصر والأردن وسوريا، حيث يجمع الدول المذكورة مشروع "الشام الجديد"، وتجاه السعودية التى تبلورت علاقتها ببغداد بصورة واضحة خلال فترة رئاسة الكاظمى للحكومة سياسياً واقتصادياً وكذلك عسكرياً؛ حيث نظمت الدولتان خلال يونيو 2022، مناورات عسكرية مشتركة بما يؤشر على حالة نوعية من التقارب لم تشهدها العلاقات الثنائية من قبل. وسبق ذلك فتح معبر "عرعر" الحدودى بين البلدين فى نوفمبر 2021، فى أعقاب زيارة قام بها الكاظمى للرياض فى مارس 2021، وزيارة قام بها وزير الدفاع السعودى لبغداد فى مايو من العام نفسه. 

فى ظل هذه المعطيات، قام الكاظمى خلال الأسبوع الأخير من شهر يونيو 2022، بنشاط دبلوماسى كبير تمثل فى زيارتين على درجة عالية من الأهمية لكل من الرياض وطهران استبقتا زيارة بايدن للمنطقة؛ عنوانهما الظاهر هو دعم التعاون السياسى والاقتصادى بين العراق وجارتيه بالنظر إلى مستوى ونوع الوفد المرافق للكاظمى فى الزيارتين.

لكن الحقيقة أن الزيارتين كانتا تبحثان نقطة مهمة، وهى كيفية تعزيز "حالة السلم والأمن فى المنطقة" وهو عنوان غاية فى الأهمية بالنظر إلى طبيعة المشروعين الإقليميين السعودى والإيرانى شديدا التعارض، ويستهدف فى الواقع استكمال حالة التهدئة الإقليمية فى المنطقة التى سادت خلال الشهور الستة الماضية، لاسيما فى الملف الأكثر تعارضاً بين طهران والرياض وهو ملف اليمن، والملف الأكثر سخونة على وقع تجاذبات قواه السياسية الداخلية وهو العراق نفسه، حيث ستنعكس حالة التهدئة الإقليمية بين السعودية وإيران بالتبعية على الداخل العراقى، الذى لايزال يعيش أجواءاً سياسية محمومة على وقع فشل قواه السياسية فى تنفيذ مخرجات العملية الانتخابية التى أجريت فى أكتوبر 2021.

ويشار هنا أيضاً إلى أن حراك الكاظمى الدبلوماسى تجاه الدولتين من شأنه حصوله على دعم إقليمى مميز من الدولتين بما "قد" يعزز من حظوظه فى الداخل؛ بإعادة طرح اسمه كرئيس للوزراء كأحد مخارج المأزق السياسى الداخلى فى العراق حال استمرار خلافات القوى السياسية تجاه انتخاب الرئيس وتسمية رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة. كما تحضر هنا مخاوف دول الخليج على مصالحها الأمنية المهددة بتصرفات "وكلاء" إيران فى المنطقة، وببرنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية.

بايدن و"تطلعات" عراقية

استبق الكاظمى إذن زيارة بايدن للمنطقة بهذه التحركات الدبلوماسية النشطة فى جواره الإقليمى، فى محاولة لوضع "تطلعات" العراق على طاولة اللقاء مع الرئيس بايدن فى السعودية، فما هى هذه "التطلعات"؟

أولها، يشير إلى تطلع بغداد إلى حالة "الحسم الدولى والإقليمى" لملف تشكيل الحكومة العراقية، فالحقيقة أن واقع العراق المأزوم داخلياً بحالة الفشل فى تنفيذ نتائج الانتخابات العراقية سواء بحكومة "أغلبية وطنية" وفقاً لطرح تيار الصدر المنسحب من العملية السياسية مؤخراً، أو حكومة "توافق وطنية" وفقاً لطرح قوى الإطار التنسيقى، ليس ببعيد عن حالة التعارض بين الولايات المتحدة وإيران وبين الأخيرة ودول عربية مؤثرة كالسعودية، ومن ثم تبدو الحاجة العراقية إلى مزيد من الاهتمام الأمريكى والمرونة فى تجاذباتها الإقليمية مع كل من السعودية وإيران أمراً ملحاً لحلحلة ملف تشكيل الحكومة العراقية، الذى وإن يبدو استحقاقاً داخلياً محضاً، إلا أن خبرة التعامل الدولى والإقليمى مع العراق منذ انتخابات عام 2006 تشير إلى دور بارز وقوى ومؤثر للعامل الدولى/ الإقليمى فى هذا الشأن.

وثانيها، ينصرف إلى مكانة العراق فى سوق الطاقة الدولية وإمكانية توظيف العراق الحاجة الأمريكية والأوروبية الملحة لتأمين العديد من إمدادات الطاقة خلال المرحلة المقبلة - على وقع تداعيات الحرب الروسية فى أوكرانيا- توظيفاً يخدم الداخل بقوة. فى هذا السياق "قد" يطرح العراق نفسه على معادلة الطاقة الدولية، لكن فى ظل "خصوصية" الارتباط بين بغداد وواشنطن باتفاقات الإطار الإستراتيجى السابق الإشارة إليها، وما تلاها من اتفاقات أمنية واقتصادية تحد من تفاعلات العراق مع قوى مناهضة للولايات المتحدة سواء على الصعيد الدولى أو الإقليمى.

وثالثها، يشير إلى الوجود الأمريكى فى العراق عبر العديد من القواعد العسكرية، وهو وإن كان قد تغير مسماه من قوات قتالية إلى قوات للدعم اللوجيستى والتدريب العسكرى والاستشارات الاستخباراتية، لكنه لايزال يمثل مصدر قلق وباعثاً على التناحر بين القوى السياسية العراقية الذى يصل فى أحيان كثيرة إلى حد المواجهات العسكرية، لاسيما من قبل القوى التى لها أذرع عسكرية وميليشيات مسلحة وهى أغلبها محسوبة على جماعات عراقية ولائية لإيران. ومن ثم فإن "تطلعاً" عراقياً بتخفيف عدد القواعد العسكرية (حوالى 12 قاعدة عسكرية أبرزها فى الأنبار وكركوك وأربيل) من شأنه أن يحلحل الواقع العراقى المأزوم داخلياً، لأنه سيدفع إيران عبر وكلائها فى العراق إلى "قدر" من المرونة فى التعامل مع الداخل ومعضلاته الأمنية والسياسية على حد سواء.

ورابعها، يتعلق بتطلع العراق لاقتراب أكثر فعالية من جانب السعودية والولايات المتحدة لأزماته الداخلية، بما "يوازن" حجم التأثير الإيرانى الضخم فى العراق، بصورة تساعده على التحلل من التبعية الشديدة للسياسة الخارجية الإيرانية، وهو أمر سيكون غاية فى الصعوبة إذا ما نجحت قوى الإطار التنسيقى الأكثر ارتباطاً بإيران فى تشكيل الحكومة العراقية.      

ما سبق من معطيات التفاعل العراقى إقليمياً، وتطلعات بغداد على طاولة اجتماعات الرئيس الأمريكى جو بايدن خلال زيارته للمنطقة، تعنى فى بعض مضامينها، وجود دور ما يمكن للعراق وغيره من الدول العربية لعبه "استغلالاً" للحاجة الأمريكية- الأوروبية لإمدادات الطاقة العربية من نفط وغاز، لكن هذا الدور يختلف من دولة لأخرى، وللحالة العراقية تحديداً خصوصيتها فى معادلة "الاحتياج" الأمريكية للمنطقة وللتهدئة الإقليمية فيها، لارتباطها المباشر بالمشروع الإقليمى الإيرانى الذى تستهدفه الولايات المتحدة والسعودية مباشرة. أى أن العراق يمتلك "فرصاً" فى لقاء بايدن لكنها فرص محفوفة بـ"تحديات" قاسية فى ظل أزمته الداخلية بأبعادها الأمنية والسياسية. فهل ينجح العراق فى تحقيق بعض "تطلعاته" من القمة أم تظل التحديات عائقاً أمام تطوير "نوع مختلف" من التعاون مع الولايات المتحدة بما يُؤمِّن مصالح العراق فى محيطه الإقليمى على المدى البعيد؟