ما أثر الثورة الرقمية وفضاءاتها الكونية على الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفيات الجهادية، وغيرها من الدعاة السلفيين؟
يبدو السؤال غير جديد، لأنه يُطرح فى أعقاب ظهور الثورة الرقمية، وتحولها إلى أداة من أدوات الجيل الرابع والخامس فى الحركة الإسلامية الراديكالية، وفى تشكيل تنظيم القاعدة، والخلافة الإسلامية، والنصرة، وبوكو حرام، والسلفيات الجهادية في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء. ومع ذلك، فإن محاولات محدودة جرت للإجابة على هذا السؤال المهم. ونحاول في هذه الدراسة إلقاء الضوء على عدد من تأثيرات هذه الثورة الرقمية على تلك التيارات، مع التركيز على الحالتين المصرية والتونسية كنموذجين مهمين.
أولا: الرقمنة، والجيل الرابع والخامس في الحركة الإسلامية الراديكالية والسلفيات الجهادية
تشير العديد من التحليلات إلى أن الجيلين الرابع والخامس، كان بعضهم ينتمى إلى الفئات الاجتماعية الوسطى- الوسطى فى منطقة الخليج (السعودية والإمارات) ومصر وتونس، وتلقى بعضهم تعليماً متميزاً نسبياً، وهو ما أحدث تغييراً فى نمط توظيف التقنيات الرقمية من جانب هؤلاء، والقدرة على التفكير العملي والتنظيمى من خلالها، ومن ثم كان تركيزهم على استخدام هذه الأداة كتقنية على عديد المستويات، ومنها:
أ- الدعوة إلى الفكر السلفي الجهادي فى إطار ثنائية العدو القريب والعدو البعيد، خاصة أن الميل إلى مواجهة العدو البعيد المتمثل فى مقولة "الغرب المعادى للإسلام"، بوصفه العدو البعيد، تنطوي على استبعاد كوادر الحركة عن المواجهة المباشرة للأنظمة الحاكمة فى العالم العربى، ومن ثم الابتعاد عن دعاوى هذه الأنظمة بأنها تقوم بجرائم قتل، وتفجيرات فى مجتمعات إسلامية، ولمسلمين، ومن ثم سهل عليها دفع هذه الجماعات بأنها باسم الإسلام تعادى الإسلام، وتساندها فى ذلك السلطات الإسلامية الدينية التابعة لهذه الأنظمة، من خلال توظيف فتاوى تؤثم هذه الجماعات بناءاً على سند دينى من النص المقدس والأحاديث النبوية، ومعها شروح وتأويلات الفقهاء الكبار فى هذا الصدد.
من ناحية أخرى، فشلت هذه الجماعات فى إحراز نتائج ذات دلالة فى تغيير هذه الأنظمة عبر عمليات الاغتيال السياسي، وتغيير الأنظمة من أعلى، وهي نظرة ثبت فشلها في إحداث التغيير في طبيعة هذه الأنظمة وسلطاتها السياسية، مثل اغتيال الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، ود. رفعت المحجوب، وبعض كبار القادة الأمنيين، وأيضا قتل الكاتب فرج فودة، ومحاولة قتل عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، ومكرم محمد أحمد، ورئيس الوزراء الأسبق عاطف صدقى، وهو ما كان يُطلق عليه محاولة تغيير النظام من أعلى كما أسلفنا القول.
ب- استخدام الفضاء الرقمي، فى التشبيك بين الخلايا العنقودية للجماعة الراديكالية.
ج- الدعوة إلى فكر القاعدة وتنظيم دولة الخلافة الإسلامية داعش، وهو ما برز فى تمدد هذا الفكر الراديكالى وسط بعض الأجيال الشابة من المهاجرين المسلمين فى أوروبا، لاسيما فى فرنسا وبلجيكا..الخ، وهو ما حدث من خلال استقبال وتمثل بعضهم لهذه الأفكار، من بعض المسجونين فى السجون الفرنسية، وتحول بعضهم إلى نمط "الذئاب المنفردة"، وقيامهم بأعمال إرهابية وحشية، من خلال عمليات الطعن بالأسلحة البيضاء أو المسدسات أو عبر استخدام العربات فى دهس بعض المارة وقتلهم. من ثم، أشاعت هذه العمليات أقصى درجات الخوف فى أوروبا مثلما حدث فى عملية انهيار البرجين فى الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيا: تحولات العقل التنظيمي والحركي
لقد كشف تحليل غالب العمليات الإرهابية عن تحول فى العقل التنظيمى لهذه الجماعات، وقدرة الأجيال الجديدة ابنة الرقمنة، على إحداث تطور فى القدرات التعبوية والعملياتية لهذه الجماعات، فضلا عن ظهور نمط جديد فى "الخيال الإرهابى الرقمي"، والقدرة على استقطاب عناصر مهمشة من المسلمين العرب، وغيرهم فى ضواحى الإسلام -وفق مصطلح جيل كيبيل فى كتابه ضواحي الإسلام- واستغلال وضعية التهميش والاستبعاد فى النظام الاجتماعى، وانتشار الدعاة السلفيين الراديكاليين فى هذه الضواحي، وتوظيف فشل سياسات الإندماج الاجتماعي، وخطاب الهوية الديني ذي البعد الأحادي، فى تشكيل العقل السلفي الراديكالي فى فرنسا وبلجيكا والدنمارك وبريطانيا وألمانيا.
لا شك أن ثورة الرقمنة، ووسائل ومواقع التواصل الاجتماعى ازدادت أهميتها، ودورها التجنيدي والدعوي، عبر هذه الاستخدامات التقنية للجماعات الجهادية فى مواجهة العدو البعيد.
ومن الطبيعى أن تمتد آثار هذه الثورة الاتصالية وتوظيفاتها إلى داخل المجال العام الإقليمي والوطني فى البلدان العربية، ويتم توظيفها فى مواجهة حالة انغلاق المجال العام السياسي والديني الفعلى في عدد من الدول العربية، لاسيما فى ظل الانتفاضات الجماهيرية واسعة النطاق التى أدت إلى تغيير رأس الدولة دونما تغييرات أو تحولات نوعية فى طبيعة النظام السياسى فى المراحل الانتقالية.
ثالثا: اتساع المجال العام، وأثر وسائل التواصل الاجتماعي على التدين الشعبي
لقد أدت عمليات الاضطراب وعدم الاستقرار السياسى والأمنى، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فى مراحل الانتقال، إلى المزيد من كثافة استخدام الوسائط الاجتماعية، ودخول الملايين إلى هذه المواقع، لإبداء آرائهم فى الشأنين السياسي والديني، والظواهر الاجتماعية والثقافية، والأعمال الفنية على اختلافها، وفى كافة تفاصيل الحياة اليومية الفعلية أو الرقمية.
هنا نحن إزاء عمليات تحول فى أنماط التدين الشعبي والشعبوي معا، الافتراضي/ الرقمى، وفي الحياة الدينية الرقمية، وسيكون لذلك تأثيراته على الواقع الفعلي. ثمة علاقة تفاعلية بين أنماط التدين الشعبوي والشعبي السائدة فى العالم العربي، وتاريخها، وتغيراتها ومحمولاتها من الثقافة الشعبية المتداخلة مع التدين الشعبي والفلكولوريات، وبين الثقافة الدينية الرقمية الشعبية والشعبوية معاً.
تشير النظرة السريعة إلى الحياة الدينية الرقمية فى بدايات تشكلها إلى أن المقولات الدينية التى تطرحها بعض الجموع الغفيرة من العاديين باتت تسود الحياة الرقمية بكثافة، ومعها السائد من المفاهيم والتصورات الدينية الشعبية، أو آراء بعض المشايخ الرسميين، أو الدعاة -وما أطلق عليهم الدكتور طه حسين دعاة الطرق- أو بعض آراء السلفيين وجماعة الإخوان. وانتقلت هذه التصورات الدينية الشعبية من الحياة الدينية الشعبية الفعلية إلى الحياة الرقمية، وتم توظيفها على النحو التالى:
- إثبات تدين مستخدمي هذه المقولات كجزء من التحقق الذاتي، وإعلاء الذات القلقة، على الواقع الرقمى.
- محاولة بعضهم/هن بناء مكانة على الواقع الرقمي، ومتابعة الآخرين لهم/هن.
- الترويج للأفكار السلفية والإخوانية من أعضاء اللجان الإليكترونية التابعة لهذه الجماعات، ودعاتها، والسعي إلى تمددها عبر المواقع الرقمية.
وفى أعقاب وصول جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، والنهضة فى تونس، ومعهم الجماعات السلفية، إلى سدة السلطة مع ما أطلق معه مجازا "الربيع العربى"، تحولت المواقع الاتصالية الاجتماعية إلى مجال عام داخلي وإقليمي للدفاع عن خطابات الجماعة فى كلا البلدين، وأيضا للسلفيين على نحو مكثف دفاعاً عن أطروحاتهم حول السلطة وحول تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعمل الثقافي! وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحات ومجالات للتعبئة الدينية والسياسية لقواعد هذه الجماعة والسلفيين، وتحركاتهم فى تنظيم التظاهرات، وإزاء خصومهم السياسيين، وأيضاً للرد على الانتقادات الموجهة لهم فى بعض الصحف والمجلات الورقية وبعض القنوات الفضائية العربية.
رابعا: فشل الإسلاميين في السلطة
مع فشل الإسلاميين فى السلطة في مصر وتونس، وانكشاف غياب ملكة الحكم، وثقافة الدولة، والرأسمال الخبراتي السياسي، وتكالب كوادرهم على الوثوب إلى المواقع القيادية في أجهزة الدولة أو إعادة تشكيل أجهزة الأمن والإعلام وقيادات الصحف في مصر، بدت هشاشة الإيديولوجيا الدينية فى عمليات بناء هندسة سياسية واجتماعية وقانونية فعالة فى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية على نحو يسمح بالتعددية والانفتاح والحوار الوطني داخل المؤسسات السياسية، وفى وسائل الإعلام على اختلافها على نحو سلمي! من هنا تتالت وتكاثرت الأخطاء السياسية وتراكمت، وأدت إلى بروز وتعبئة القوى الشعبية والاجتماعية الرافضة لجماعة الإخوان والسلفيين، وخاصة رفض الفئات الوسطى/ الوسطى فى المدن المريفة، والأقباط، بجانب المرأة، وخاصة في تونس التي انتفضت لتدافع عن مكتسباتها فى نظام الأحوال الشخصية الموروث من التراث السياسى والقانونى البورقيبى.
ثمة أيضا فشل من جانب حزب النهضة، وتشكيله لحكومتين برئاسة بعض قياداته (حمادى الجبالي، وعلى العريض) فى إدارة سلسة لمؤسسات الدولة التونسية، تحقق الاستقرار السياسى والاجتماعى، وتواجه بفعالية المشكلات الاقتصادية المتراكمة. هذا الفشل كشف أيضا عن فشل تاريخي فى التستر وراء الجماعات السلفية فى عهد بن علي، الذى استخدم السلفيين كداعم للنظام، وأداة فى مواجهة جماعة النهضة (الاتجاه الإسلامى سابقاً). هذا فضلاً عن التجربة المصرية فى استخدام الجماعات ومشايخ السلفية في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين. هذا الخطأ التاريخى والسياسى والأمني لم يستوعب المكون السلفي فى فكر النهضة وجماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم تمدد الجماعة قاعديا فى أوقات الصراع مع السلطة السياسية وأجهزة الأمن، من خلال الحركة السلفية، والتجنيد من خلالها للنهضة في تونس ولجماعة الإخوان، والأخطر هو توظيفهما للحركة السلفية في تديين المجالين العام والخاص، وهو ما أكدته وقائع أزمات حزب النهضة، ثم جماعة الإخوان فى مصر.
لقد أدى تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاحتقانات الاجتماعية، إلى أحداث تظاهرات 30 يونيو، و 3 يوليو واسعة النطاق في مصر، وتم إزاحة الإخوان عن سدة السلطة السياسية.
وفى الحالة التونسية تحول البرلمان إلى ساحة للاستعراضات السياسية الدينية، وإلى ساحة للخطابات الدينية المناوئة لحقوق المرأة، وأداة للسجال مع رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذى وصل إلى سدة الرئاسة من خلال توظيف خطاب شعبوى لتعبئة القطاعات الجيلية الشابة، والفئات الاجتماعية المعسورة التى تعاني من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وعدم الاستقرار السياسى فى البلاد!
وأوقف الرئيس قيس سعيد عمل البرلمان، وتم القبض على بعض العناصر من أعضاء النهضة والسلفيين وبعض القضاة، والتحقيق معهم بتهم الفساد، ومعهم عناصر تنتمي إلى أحزاب أخرى. ثم تم إيقاف العمل ببعض نصوص الدستور التونسى، فيما اتهم معارضو قيس بن سعيد بالانقلاب على الدستور. كما تم تشكيل لجنة برئاسة الفقيه الدستورى البارز "الصادق بلعيد" لإعداد مشروع دستور جديد للبلاد، بات يشكل موضوعاً للخلاف مع المعارضة السياسية والاتحاد العام للشغل. والأهم أن الرئيس أعد مشروع يختلف عما أعدته لجنة "الصادق بلعيد" الذي أعلن أن المشروع الذي أُعلن ونشر ليس ما قدمه للرئيس، وأن به من النصوص الغامضة والخطيرة التي تؤدي إلى نظام رئاسي ديكتاتوري.
لا شك أن التمدد السلفي التاريخي من عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي أدى إلى التحالف مع حزب النهضة، والأخطر إلى هجرة أكثر من أربعة آلاف سلفى إلى الفكر السلفي الجهادي الراديكالي، وتدريبهم، ومشاركتهم فى العمليات الإرهابية في الجوار التونسي، وفى مناطق سيطرة القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية داعش، والنصرة، ومن ثم شكل عودة بعضهم إلى الأراضي التونسية مصدرا من مصادر تهديد الأمن الداخلى فى تونس.
فى ظل هذه التغيرات، وفشل الإسلاميين فى السلطة، وإزاء التركيبة الجديدة لطبيعة السلطة السياسية فى مصر وتونس، أدى ذلك إلى إقصاءات لهم فى أجهزة الدولة، ومحاكمات فى مصر، لممارسات بعضهم للعنف وعمليات الاغتيال السياسي مع بعض السلفيين الراديكاليين الذين انضموا للقاعدة وداعش، على نحو أدى إلى محاكمات واعتقالات لبعض أعضاء جماعة الإخوان وتشكيلهم القيادي من مكتب الإرشاد والشورى، والمستويات التنظيمية السرية القاعدية.
خامسا: العودة إلى الملاذات السرية
لقد أدت مطاردة كوادر الجماعة إلى بروز سياسة دعوية وتنظيمية مختلفة، تأثرت بالثورة الرقمية، وأيضا بميراث الجماعة التاريخي التنظيمى والدعوي على النحو التالي:
1- العودة إلى السرية مجدداً، وذلك فى محاولة منهم لعدم الكشف عن المستوىات التنظيمية والقاعدية للجماعة.
2- التحرك من خلال بعض قادة التنظيم فى بريطانيا والولايات المتحدة وتركيا وقطر، من أجل إيصال صوتهم السياسي إلى وسائل الإعلام العالمية.
3- التركيز على قضايا الجماعة أمام القضاء المصري، ومحاولة تقديم صورة له على أنه غير مستقل عن السلطة التنفيذية، والتشكيك فى حيدته ونزاهته، أو أنه يشكل جزءا من تكوين السلطة الحاكمة، وذلك للحيلولة دون تنفيذ الأحكام الصادرة بالإعدام فى قضايا ممارسة أفعال وجرائم إرهابية، مستفيدين فى ذلك من الاتجاه السائد دوليا بإلغاء عقوبة الإعدام عموماً، لاسيما فى القضايا ذات الطبيعة السياسية، من منظور التطور فى النظم العقابية المقارنة. هذا بجانب التركيز على نقد تحقيقات النيابة العامة، والتشكيك فى استقلاليتها عن السلطة التنفيذية.
هذا الاتجاه فى نقد السلطة السياسية ساد ولا يزال فى الخطاب السياسي والحقوقي الرقمي والفعلي، لإخوان الخارج. فى المقابل، لجأت السلطة المصرية إلى المطالبة بتسليم هذه العناصر إلى الأجهزة القضائية المصرية، وفق أحكام القانون الدولي العام في مجال تسليم المجرمين في قضايا مطروحة أمام الجهات القضائية.
4- لجوء رئاسة الجمهورية التونسية إلى منع بعض قادة النهضة- وبعض السابقين بها الذين خرجوا عنها- من مغادرة البلاد، وتحويل بعضهم إلى جهات التحقيق مثل حمادي الجبالي، رئيس الحكومة الأسبق!، وهو ما أثار حفيظة المعارضين للإجراءات السياسية والقانونية التى اتخذها الرئيس قيس سعيد، ومنها إحالة بعض القضاة إلى التقاعد!
تدور الاجراءات السابقة التي تلجأ إليها النهضة في تونس، والإخوان في مصر، في إطار موروث الجماعتين التنظيمي والدعوي في مراحل الصراع مع السلطة السياسية في كلا البلدين.
سادسا: الرقمنة وتكيف سياسة النهضة والإخوان المسلمين
السؤال مجددا ما أثر الرقمنة على سياسة النهضة والإخوان المسلمين؟ نطرح هنا عددا من الآثار المهمة، أبرزها ما يلي:
1- تكثيف توظيف الجماعتين وكتائبهم الإليكترونية -الرقمية- في نقد كافة أزمات السلطة السياسية في كافة المجالات من خلال خطاب التغريدات، والمنشورات، والفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي.
ويركز الخطاب النقدي لجماعتي الإخوان والنهضة على سوء إدارة السلطةً للأزمات الهيكلية الموروثة، وتزايد فوائد الديون قصيرة الأجل، وأثرها السلبي على ارتفاع المديونية الخارجية وفوائد القروض، وغياب المشاريع الإنتاجية، لاسيما الصناعية، والآثار المترتبة على ارتفاع الضرائب غير المباشرة والقيمة المضافة، وتراجع مستويات صرف العملة الوطنية إزاء الدولار، وارتفاع معدلات التضخم!
2- توظيف تراجع مستوى معيشة الفئات الوسطى ودخولها، نظرا لأثر الركود التضخمي على حياتها، خاصة أن بعض أبناء هذه الفئات الوسطى/ الوسطى، والصغيرة من أبناء المدن المريفة هى السند الاجتماعى لقيس سعيد فى تونس، وتقف فى مواجهة حزب النهضة والحركة السلفية، وأيضا فى الحالة المصرية، لأن هذه الفئات هي التى ساندت حركة تمرد، وخرجت فى 30 يونيو، و3 يوليو 2013 ضد حكم جماعة الإخوان، وساندت الإجراءات السياسية، فى أعقاب ذلك، وانتخبت رئيس الجمهورية، وهي أيضا التي أقرت الدستور الذى صدر عام 2014.
3- لجوء الكتائب الرقمية الإخوانية، ومعارضي الحكم فى الخارج من خلال بعض الفضائيات كقناة الجزيرة والعرب، والصحف الممولة قطريا -مثل العربى 21- إلى نقد مستمر للظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والميل إلى إظهار ما وراء بعض الأخبار، مما تصوره على أنه يمثل أسرارا بهدف نقد قادة النظام الحاكم! وسياساته الداخلية، والخارجية، وخاصة إزاء إسرائيل!
يبدو أن هذا التوجه الإخوانى، لا يعدو أن تكون تكيفا مع ثقافة الرقمنة، وتوظيفها سياسيا، وإيديولوجيا. والسؤال ما الجديد فى استخدامات الرقمنة، وخطاباتها الوجيزة على وسائل التواصل الاجتماعى؟ يمكن القول بناءاً على متابعات هذه المواقع، لاسيما على الفيس بوك Face book وعلى تويتر، أن هذا الأثر يتمثل فيما يلى:
- توظيف سياسات وقرارات السلطة السياسية الحاكمة وإجراءاتها الاقتصادية والاجتماعية، فى نقدها، والتشكيك فيها، ومحاولة السخرية منها على نحو سريع ومكثف لتشويهها، وإفقادها المشروعية!
- استخدام بعض قضايا الفساد للتشكيك فى مدى إعمال حكم القانون.
- اللجوء إلى توظيف بعض قضايا القتل والفساد التي تورط فيها بعض القضاة، كحالات فردية، للحديث عن فساد القضاء بشكل عام، وإغفال الإجراءات القانونية والقضائية التي اتخذت ضد هذه الحالات لافردية. وعمد هؤلاء إلى تحويل قضايا عادية، يمكن حدوثها، إلى سمت عام لتشويه بعض الهيئات القضائية. ويرجع ذلك إلى موقف الجماعات القضائية إزاء القضايا التي أُتهم فيها قادة وأعضاء الجماعة المحظورة قانوناً، وإصدار أحكام مغلظة فى هذه القضايا التى ينطوي بعضها على ممارسة للعنف والأعمال الإرهابية، خاصة فى أعقاب 30 يونيو، و3 يوليو 2013.
4- الإيحاء في بعض الصحف والمواقع الرقمية بأن ثمة مفاوضات تجرى فيما وراء الكواليس بين النظام والجماعة، وطرح شروطها للمصالحة على السلطة السياسية الحاكمة! وذلك بهدف إبراز قوة الجماعة، وعدم قدرة الطبقة السياسية الحاكمة على مواجهتها.
5- يتمثل الأثر الأكبر لتوظيفات الرقمنة فى لجوء الجماعة إلى الحركة على مستويين: أولهما، التركيز من الخارج على سياسات النظام الداخلية والخارجية، ونقدها بعنف شديد. ثانيهما، الحركة على مستوى الحياة الفعلية الاجتماعية، والرقمية، من خلال التركيز على تديين وقائع الحياة اليومية، وطرح الموروث العقدي الوضعي التأويلى وشروحه للنصوص الدينية وسردياتها التأويلية، وذلك على التالى:
- توظيف الطقوس الدينية اليومية مثل الصلاة، وتديين الخطاب اليومي لكوادر الجماعة، على الحياة الفعلية والرقمية، وذلك بهدف تديين المجالين العام والخاص.
- استنفار خطاب الذكورية الدينية والاجتماعية فى قضايا حقوق المرأة، والتركيز على الحجاب، ووصفه بأنه جزء رئيس من المعتقد الإسلامي، وليس خياراً شخصياً، أو جزءا من نظام الزي الإسلامى الذي يعبر عن القيم الاجتماعية المحافظة، وذلك بهدف تحويل الحجاب والزى الساتر للجسد إلى رمزية على أسلمة المجالين الخاص والعام فى الحركة اليومية فى الشارع، والمصالح الحكومية، والقطاع الخاص، والسيارات الخاصة، والمركبات العامة، وفى الطرق ..الخ!
هذه الاستراتيجية سبق أن أطلقنا عليها منذ عقود عديدة "الأسلمة من أسفل". لا شك أن هذه الاستراتيجية تُوظف فيها السلطة الدينية الرسمية التى تمددت داخلها الجماعة والسلفيين منذ نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضى.
إن تديين نظام الزى النسائي يشكل رمزية على السيطرة الذكورية على الجسد الأنثوي، واعتباره جزءاً من إجماع الأئمة فى التأويل الديني وسردياته الموروثة، ويشكل أيضاً إحدى أدوات الهيمنة الرمزية لرجال الدين الرسميين عموما -من بعض الإخوان والسلفيين داخل المؤسسة الدينية الرسمية- على المجال الديني فى مواجهة الاتجاهات المدنية، وأيضا فى مجال المناورات مع السلطة السياسية وأجهزة الدولة، لإبداء قدر من الاستقلالية الشكلية إزاءها! لأن التركيز على الأبعاد االعقدية، والإجماع، والأخلاقية فى الحجاب، يستنفر الاتجاهات المحافظة فى أجهزة الدولة لتأييد هذا التوجه فى مواجهة تحولات القيم الأخلاقية والمعيارية لدى الأجيال الجديدة من الشباب، خاصة هؤلاء الذين خرجوا فى تظاهرات 25 يناير 2011، وما بعد، وبعضهم تغيرت بعض توجهاتهم إزاء أشكال السيطرة الرمزية لرجال الدين والجماعات، ومن ثم تبدو السيطرة، من خلال ربط نظام الزي وتديينه، على نحو يشكل أحد أدوات الضبط الاجتماعي.
في السياق السابق، تظهر التحالفات الضمنية الرمزية بين جماعة الإخوان والسلفيين وبعض رجال المؤسسة الدينية -من ذوى الانتماءات والميول لكليهما، أو غيرهم- فى الخطاب الهجومي من أجل حجاب المرأة، والفتيات صغيرات السن، وأيضاً لخلق حالة من التعبئة الدينية لقواعدهم، وذوي الاتجاهات الدينية في الأرياف وهوامش المدن والفئات الوسطى.
إن نظرة على تدخلات بعض رجال الدين الرسميين فى الفيديوهات والتلفازات، ومواقعهم على الحياة الرقمية، تشير إلى ازدياد حضورهم فى تفاصيل الشئون اليومية، على نحو يكشف عن حالة من رهاب الخوف من تفكك نسيج الحياة اليومية الذى ألفوه، وفى إطارها ظواهر جديدة للتفسخ الاجتماعي والقيمى الذى يتناقض مع خطاباتهم الدينية التقليدية الموروثة، التى يعيدون إنتاجها في فتاويهم، ووعظهم المستمد من المتون الفقهية والتأويلية التاريخية والوضعية السنية!
سابعا: دور بعض رجال الدين الرسميين
كذلك، فإن الحضور الكثيف لرجال الدين الرسميين والسلفيين على الواقع الافتراضى، يمثل أداة لبناء المكانة والشهرة والذيوع، وأداة لجمع المال بناءًا على كثرة متابعيهم.
من هنا، فإنهم يلجأون إلى إبداء آراءهم فى الوقائع اليومية، من مثيل مقتل فتاة جامعة المنصورة بواسطة زميلها، دون فحص لتفاصيل واقعة القتل، والعلاقة ما بين الفتاة المغدورة والشاب، ومحاولة نسبة الفعل الأجرامي –القتل- إلى ملابس الفتاة، على نحو ما فعل استاذ بجامعة الأزهر فى هذا الصدد، وشايعه فى ذلك بعض من المنتمين والموالين للتيار الديني –الإخوان والسلفيين وغيرهم- وهو يستخدم هذه الوقائع الدامية الدالة على تزايد معدلات العنف الاجتماعي، لطرح خطابات هذا الاتجاه على الواقع الرقمي، وإنتاج اتجاهات Trends ترمى إلى تديين الحياة الرقمية والفعلية تحت لواء الدفاع عن القيم والأخلاقيات المجتمعية –وكأنها ثوابت فى أى مجتمع- بهدف الخروج من دائرة المواجهة مع أجهزة الدولة الأمنية، التى تركز على التشكيلات والخلايا التنظيمية للجماعات المتطرفة دينيًا وسياسيًا، وتشكل فى إدراكهم الأمني مصدرًا للتهديدات السياسية والأمنية.
ثامنا: التوظيف الديني للوقائع اليومية العادية... التداخل بين التدين الرقمي والشعبي
هذا التوجه، فى اللجوء إلى الواقع اليومي ووقائعه وتفصيلاته وتحويله إلى مجال الجدال الديني، ومدى شرعيته الدينية، يشكل إحدى أدوات تديين المجالين العام والخاص، ابتعادا عن مجال حركة وعمل وعيون الأجهزة الأمنية، لكنه سياسى بامتياز. من ناحية أخرى، يبدو أن بعضهم يوظف تديين الوقائع والأحداث اليومية، والجدل حولها، من أجل كسر الاستقطابات على الحياة الفعلية والرقمية، وفق السياسات العامة، ومن ثم نقل الاحتقانات الاجتماعية إلى المجال الديني. إلا أن هذا التوجه البراجماتي يغفل أن تديين الحياة الرقمية، والفعلية، يسمح للجماعات الدينية بالتمدد قاعديا، خاصة فى ظل ازدياد بعض الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على نحو يؤدي إلى اللجوء إلى الدين كملاذ للبحث عن توازن نفسي واجتماعي ما فى الحياة، خاصة للفئات المعسورة، والأكثر فقرًا فى الأرياف وقيعان وهوامش المدن المريفة.
ومع ازدياد حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يميل كثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، من ذوى التوجهات الدينية والمحافظة، مصريا وعربيا، إلى تحويل هذه المواقع إلى خطابات وفتاوى وأحكام دينية تقليدية، خاصة إزاء جسد المرأة والحجاب والزي، بهدف التعبئة الدينية، والحصول على علامات الإعجاب، أو السجال مع بعض من يؤمنون بحرية المرأة وحقوقها وتمكينها الاجتماعي والسياسي، أو الجدل حول حقوق الأقليات الدينية.
من ناحية أخرى، يميل بعض نشطاء حقوق الإنسان من الأقباط إلى السجال الديني حول التحول الدينى، أو تديين بعض الوقائع اليومية، مثل اختفاء بعض الفتيات المسيحيات الأرثوذكس عن منازلهم أو أسرهم لأسباب خاصة بهن. من ثم، يتم استخدام مواقع التواصل الاجتماعي فى طرح قضايا هروب بعض الفتيات إلى الإطار الطائفي، سعيا وراء إرجاع بعض هؤلاء الفتيات مرة أخرى لأسرهم، بقطع النظر عن أسباب هروبهن من الأسرة والمنزل والمنطقة القاطنين فيها.
إن التدين الرقمي، وأنماطه، وتداخلاته بين التدين الشعبي وتخليطاته، وحكاياته الموروثة والمستجدة، ساهم من خلال جماهير العاديين الرقمية والفعلية الغفيرة، فى تشكيل جماعات ضغط دينية، ومعها محاكم تفتيش دينية رقمية، تحاكم المخالفين فى الرأي، والدين، وتحويل الجدل حول القضايا الاجتماعية والثقافية، والسياسية، والأخلاقية المتغيرة إلى قضايا تدور حول ثنائية الحلال والحرام، والإيمان والكفر، وذلك كأدوات لتديين الجدل على الواقع الافتراضى وتأثيم أراء المغايرين فى الرأي.
إن تحول بعض الجماهير الغفيرة إلى وعاظ رقميين، ومفتين وفقهاء، يكسب ذوات بعضهم بعض من التحقق الذاتي، لكنهم باتوا أسرى الأفكار المتشددة للسلفيين، والإخوان المسلمين وبعض غلاة المشايخ الأزهريين، ويشكلون روافع لأفكارهم الدينية التأويلية والوضعية، فى كافة مجالات الحياة اليومية. ثمة توظيف للطقوس الدينية اليومية –كالصلاة والأعياد ومولد الرسول الأكرم (ﷺ)- فى تكثيف استخدامها فى تديين المجال العام، واستخدام المايكروفونات بأصوات عالية، فى زمن هناك الهاتف المحمول، وقبله ساعات اليد، فى معرفة مواقيت الصلاة، والتنبه لها!
هناك على الواقع الفعلي استخدام السيارات العامة والقطارات وعربات المترو فى قراءة القرآن الكريم بأصوات عالية، الهدف هنا هو تديين هذه الفضاءات، ومحاولة الإيحاء للآخرين بأن العادي الذى يقرأ القرآن الكريم متدين، وأن حياته كلها فى القرآن، بينماالآخرين يفكرون فى مشكلاتهم الحياتية أو فى أعمالهم... إلخ.
هذا النمط قد يبدو طوعيا من بعضهم، ومحاولتهم تذكير الجمهور بالدين، والاعتصام بالنص المقدس تعالي وتنزه، وبعضهم الآخر، يؤدى مهمة طلب منه أداءها من شيخه السلفي لإشاعة التدين، وسط الجمهور فى المركبات العامة، وهى ظاهرة اجتماعية خفتت حينا، وتعاود الظهور مجددًا فى الحياة اليومية، وربما تحتاج إلى دراسة ميدانية أن أمكن ذلك. هذه محاولات دينية سياسية بامتياز، لأنها لن تستفز ركاب الحافلات والمترو والقطارات، وأيضا رجال الأمن، ومن ثم تبدو جزءًا من إيمان قارئ القرآن السلفي، أو الإخوانى أو المسلم العادي ، وهدفها سياسى بامتياز، بعيدًا عن السياسي والتفافا على الأمنى!
يلاحظ كذلك ازدياد توظيف وقائع عادية نحو سؤال الحلال والحرام، من مثيل الزي الرياضي الذي ترتديه بعض العداءات المصريات اللاتي حصلن على الميدالية الذهبية فى مسابقات العدو –مائة مترعدو للسيدات ومئتي متر عدو- مثلما حدث مع البطلة بسنت حميدة بدورة ألعاب البحر المتوسط بالجزائر (2022)، واعتبار بعضهم أن زيها مخالف للدين، وآخرين بأنها عاصية! إنها محاولات سياسية تتغطى بالقناع الديني من أجل تسييد العقل الدينى النقلي المغلق، وفرض تأويلاته الوضعية البشرية على كافة وقائع الحياة، وظواهرها، ولتعبئة بعض جماهير العاديين الرقمية الغفيرة على الحياة الرقمية، فى مواجهة غير مباشرة مع السلطة السياسية الحاكمة، ونتاج للتقليد التاريخي المستمر فى الصراع على توظيف الديني فى العمليات السياسية المضادة.
من المرجح فى ضوء كثافة توظيف الحياة الرقمية دينيًا ازدياد الاحتقانات الدينية والسياسية والاجتماعية فى العالم العربي، وفرض قيود رمزية على سلطات الدولة فى الإقليم العربي فى أي مسعى لتحرير أوضاع المرأة، أو الحريات الدينية للمواطنين، أو فى إصلاح السياسات الدينية والتعليمية والثقافية، وإخضاعها للهيمنة الرمزية للجماهير الغفيرة الرقمية، التي باتت تشكل قوة ضاغطة على القرار السياسي، وعلى حركة أجهزة الدولة الأمنية والأيديولوجية. والأخطر، فى ظل التراكمات والاحتقانات الاجتماعية للأزمات الاقتصادية، هو تحريض هذه الجماهير الرقمية الغفيرة على التحرك فى الواقع الفعلي، تحت رايات بعض هذه الجماعات الدينية السياسية.
هناك حالة إفراط من جانب جموع العاديين الغفيرة الرقمية فى الإفتاء الديني، وهجومهم على المخالفين فى الرأي. السؤال: هل ستستمر هذه الحالة الرقمية وظواهرها، وهل يستطيع رجال الدين، وقادة المنظمات الإسلامية السياسية، والجماعات السلفية، السيطرة على هذه الحالة وتوجيهها لصالحهم على المدى البعيد؟
تاسعا: مسارات التدين الشعبوي الرقمي ومآلاته
على الأرجح سوف تستمر هذه الحالة الدينية الرقمية على المديين القصير والمتوسط، وسيزداد حضورها كثافة، مع استمرارية الأزمات الاقتصادية والاحتقانات الاجتماعية، وحالة الاضطراب والسيولة النسبية واللايقين فى النظام العالمي، وبعض الحروب مثل الحرب فى أوكرانيا. ويرجع ذلك إلى أن أنماط التدين الشعبى، والسلطات الدينية التابعة فى العالم العربي، تمثل أحد أبرز أدوات التماسك فى مواجهة تحولات عصرنا، والاحساس الجمعى بالعجز عن مواجهتها، أو انجاز تطورات مهمة فى مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية، وفى ثورة التقنيات من الأولى إلى الثالثة، والأخطر... الأخطر هو الثورة التقنية الرابعة التى ستشكل مستقبلا قطعًا معرفيا، ونظريا، واصطلاحيا ومفاهيميا مع عوالم وعصور ما قبلها، لأنها ستغير أنماط الحياة، من دخول عالمنا في قلب الإناسة الروبوتية، ومرحلة ما بعد الإنسان على نحو سيزلزل عديد من الأفكار والموروثات حول علاقة الإنسان بالكون، والأسئلة المرتبطة بالعلاقة بين الوضعي، و"الميتاوضعي" التى كانت جزءًا من ثورة العقل الغربي، فى علاقة الحياة الوضعية فى ظل دول ونظم سياسية تمايز بين الوضعي وماورائه، وتراجع أدوار رجال الدين –الأكليروس واللاهوت- إلى مناطق العبادة وطقوسها، التى هجرها كثيرون فى المجتمعات الغربية، وتزايد أعداد اللادينين، و"اللاأدريين" فى التقاليد الأكاديمية حول دراسة الأديان ("اللاأدري" هو شخص ليس لديه رأي محدد فيما يخص قضية وجود إله من عدمه، ولا يُؤمن ولا ينكر وجود ذات إلهية، وذلك على عكس المؤمن الذي يؤمن بها، والملحد الذي يرفضها)، وهو ما ساهم فى تطور الدرس التاريخي حول أديان العالم على اختلافها، سواء من منظورات تاريخ الأديان، أو السوسيولوجيا الدينية، وهو ما ساهم بدوره فى دعم الانفصال بين الوضعي و"الميتاوضعي" فى الدول والمجتمعات الغربية والبروتستانتية، والكاثوليكية، وساهم فى تطور اللاهوت المسيحي الغربي، وطرحه لأسئلة عصره على العقل اللاهوتى، والفلسفي، وسعيه لإيجاد إجابات عليها، وهو ما برز فى ثورة مارتن لوثر وكليفن، البروتستانتنية ومابعدهما، وأدى إلى المجمع الفاتيكانى الثاني، أثناء الحرب الباردة فى ستينيات القرن الماضي، والتردد حينا بعد الآخر بين الانفتاح الإنسانى، وبين المحافظة الشعبية، خاصة في إطار كاثوليك جنوب العالم، والخطاب الإنسانوي للبابا الحالي القادم من عالم لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية.
فى الفكر الإسلامى المعاصر، توقفت حركة الاجتهاد والسعى إلى تجديد العقل الديني النقدي، منذ هزيمة يونيو 1967، وتوقف الأزهر عن متابعة حركة التجديد التى سارت منذ منتصف القرن الثامن عشر، والتاسع عشر لاسيما فى أواخره، والقرن العشرين إلى عقد الستينيات.
يعود ذلك إلى نهاية العصر شبه الليبرالي فى مصر، والمجتمع شبه المفتوح على المركز الأوروبي وأفكاره الوافدة والأسئلة الجديدة، والظواهر الاجتماعية والسياسية العالمية، وفى مصر. وتشكلت "التسلطية الدينية"، ولم يتطور التعليم الديني والمدني تطورًا يلائم تطورات عصرنا، وهو ما أدى إلى سطوة العقل الدينى النقلي، على نحو أدى إلى هيمنة الجمود الفكري، وسيادة النقل على العقل.
عاشرا: هيمنة العقل النقلي
تشكل فوائض العقل النقلي، وأنماط التدين السلفي التى تمددت منذ هزيمة يونيو 1967، أحد أبرز العوائق إزاء أية مساعي جادة للتجديد الديني فى الدرس الديني السائد، أضف إلى ذلك التكوين الفكري للعديدين داخل المؤسسات الدينية الرسمية فى عالمنا العربي، وخاصة فى ظل هيمنة الجمود والنزعة التقليدية المحافظة، وأيضا سفر عديدين للإعارة فى الدول العربية النفطية، وأنماط التدين السائدة فى هذه المجتمعات، والتى سبق أن أطلق عليها د. فؤاد زكريا "الإسلام النفطي"، أو "إسلام البترو دولار". وبقطع النظرعن مدى دقة هذا الاصطلاح، إلا أن الثقافة التقليدية أثرت تقليدا، وقيما، على المفاهيم والسلوك الديني، وهو ما أثر على بعض من سافروا إلى هذه المجتمعات، حيث اليسر المالي، الذى ترافق مع أنماط الفكر النقلي المحافظ! وتم استعادة بعض هذه المفاهيم المسيطرة على أنماط التدين الشعبي معهم بعد عودتهم من الهجرة المؤقته سعيا وراء الرزق، بالإضافة إلى دعم بعض دول الخليج للجماعات السلفية، وبعض جمعياتها الأهلية التى ساهمت فى إشاعة الفكر السلفى بين الفئات الاجتماعية المعسورة فى المدن والأرياف من خلال المساعدات الاجتماعية، والصحية التى يقدمونها، للمحتاجين من المعسورين. ترافق ذلك مع توافق عربي- أمريكي خلال مرحلة الحرب الباردة على توظيف التمدد السلفي لمواجهة الإمبراطورية الماركسية السوفيتية آنذاك.
لا شك أن توظيف الدين ترجع أصوله التاريخية إلى السياسة البريطانية، التي استخدمته ضد الحركات والأحزاب الوطنية فى ظل الكولونيالية، على نحو ما تم مع جماعة الإخوان فى مواجهة حزب الوفد! وانتقلت هذه السياسة إلى الولايات المتحدة فى أعقاب انتصارها فى الحرب العالمية الثانية، حيث وظفت الدين والتحالفات الدينية ضد الناصرية فى العالم العربي، ومنها الحلف الإسلامى! وبعد ذلك ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان!
إن فوائض التدين الشعبى الوضعي، وطابعه الريفي الإتكالي لا تزال تلعب دورًا مسيطرًا على الحالة الدينية فى مصر، الإسلامية، والقبطية الأرثوذكسية، وازداد تأثيراتها فى مجال التعليم من خلال مناهج التعليم، ومقرراته، ودور المدرسين من ذوي الاتجاهات الدينية والسلفية، وكذلك الأمر فى الجامعات الكبرى والإقليمية، مع تزايد دور المدرسين والأساتذة المساعدين، والأساتذة من ذوي الميول السياسية الدينية السلفية والإخوانية طيلة عديد العقود، وهو ما أثر على مخرجات النظام التعليمي من الخريجين، من ذوي العقل النقلي والمحافظ، لا العقل النقدي المبدع، سواء فى كليات العلوم الإنسانية، أو الكليات العملية التى تمدد خلالها بعض كوادر جماعة الإخوان والسلفيين.
فى ظل هذه الحالة الدينية النقلية المحافظة، يبدو من الصعوبة بمكان إصلاح نظامي التعليم الديني، والمدني، وفى الجامعات، ووسط الجموع الغفيرة من العاديين الرقمين، أو على الواقع الفعلي، خاصة فى ظل انعكاسات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية الممتدة والمتفاقمة، وهو ما توظفه الجماعات الدينية السياسية والسلفية معًا!
لا شك أن ثمة صدمات مستقبلية ستؤدي إلى طرح أسئلة جديدة على العقل الديني النقلي، وعلى رأسها التحولات التقنية للذكاء الصناعي، والروبوتات، والرقمنة فى تحولاتها الكبرى، على نحو سيؤدى إلى تراجع مركزية الإنسان فى الكون، وخاصة فى ظل الفيروسات المتحورة، والاحتباس الحرارى، والتحول إلى ما بعد الإنسان فى ظل الثورة الجينية، وتجارب الاستنساخ.. إلخ.
من هنا، يمكن وضع الاتجاه الجديد الذي يتنامى في نقد بعض الباحثين للسرديات التاريخية الإسلامية، وخاصة مدونة الإمام البخاري للحديث النبوي الشريف، وغيرها من السرديات. وبقطع النظر عن الرأى الموضوعي فى هذه الخطابات الجديدة، وأهدافها، إلا أن ذلك يطرح تحديًا على العقل الديني النقلي المسيطر، ومن ثم يتطلب هذا التحدي نظرة جديدة لمناهج التعليم الديني التقليدية، والسعي إلى تجديد علوم الفقه والحديث والتفسير الديني، وتاريخ "العلوم الإسلامية" التاريخية، واستخدام مناهج جديدة ألسنية، وسوسيولوجية فى الدرس الأكاديمى داخل الجامعات فى العلوم الاجتماعية، والدراسات الإسلامية، وذلك من خلال تدريس هذه العلوم للطلاب. يبدو أيضا من الأهمية بمكان دمج المكون الثقافي ضمن المناهج التعليمية، وخاصة الفلسفة، فى التعليم الديني والمدنى معًا، لمواجهة أسئلة العالم المتحول.