د. معتز سلامة

رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي

 

على الرغم من تركيز أغلب الكتابات حول زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للسعودية على ملفات الزيارة: تدفقات النفط، والمنظومة الدفاعية ومشتريات السلاح، وإيران، واليمن، وإسرائيل أو التطبيع، إلا أن أغلب هذه الملفات يشكل الجوانب الظاهرة في الزيارة، التي تخفي وراءها الأبعاد الأخرى غير المطروقة، والتي تعكس الغُصة الخليجية من الشريك الأمريكي، بعد أن تعاظمت أعباء العلاقة على الجانب الخليجي. وفي الحقيقة، فإن الغُصة الخليجية ليست من الرئيس بايدن وحده أو الحزب الديمقراطي، بل من مجمل السياسة الأمريكية في السنوات العشر الأخيرة، والتي اتجهت بالعلاقات بعيداً عن كونها شراكة بين حلفاء، حتى أن أغلب مجهودات الجانب الخليجي لم يعد ينصب على تعظيم المكاسب وإنما على تقليص الأضرار. 

ويتمثل الهدف الرئيسي الذي يجمع دول مجلس التعاون الخليجي بشأن زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في: عودة العلاقات إلى سابق عهدها، واستعادة الضمانة ذات المصداقية بأمن الخليج، واستمرار القناعة بخصوصية العلاقة لدى ساكني البيت الأبيض. وعلى الرغم من وجود حاجات متمايزة لكل دولة خليجية على حدة، إلا أن دول المجلس كمجموعة تمكنت من إعادة الالتفاف حول الأهداف التي تجمعها بالحليف الأمريكي، وعملت الجولات الخليجية قبل الزيارة (لكبار المسئولين ووزراء الخارجية ومستشاري الأمن القومي) على التوافق على رؤية متقاربة حول ذلك.

تحولات العلاقات من المنظور الخليجي

منذ فترة، لم تكن دول مجلس التعاون الخليجي راضية عن الحالة التي انتهت إليها العلاقات مع الولايات المتحدة، بعدما انزوت إلى شكل من العلاقات الأمنية والدفاعية غير موثوقة، وبينما تأسست العلاقات في عصرها الذهبي على التزام أمريكي واضح تجاه الأمن الخليجي، وضمنت وضعية خاصة لدول المجلس، مكنتها من التفرغ لبناء الدولة الحديثة وتعزيز أركان الكيان الوطني دون تحمل أعباء دفاعية وأمنية كبيرة، فقد تحولت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة إلى حليف غير مكترث بطبيعة العلاقات ولا بالاحتياجات الأمنية للحلفاء، وشكلت بعض التصريحات الأمريكية تهديداً وخطراً، بعدما تعرضت بالنقد للأوضاع الداخلية لبعض دول المجلس، وهددت بجعل السعودية "دولة منبوذة"، وتخلت عن تقديم الدعم للمملكة إزاء هجمات الصواريخ والطائرات المسيرة، وسحب بطاريات صواريخ باتريوت الدفاعية.

وباختصار، أصبحت الشراكة الدفاعية والأمنية غير مفهومة، وحدث اضطراب بين مصالح الجانبين في إدراكهما للأمن الخليجي، ولم تعد مصالح الطرفين متوائمة أو حتى متقاربة، بل أخذ كل جانب يتعامل مع الآخر بشكل مختلف، وتطور إدراك دول المجلس بذواتها الوطنية في السياسات الإقليمية والدولية، بعد أن انتقلت من هدف ترسيخ البناء الوطني إلى لعب الدور الإقليمي والدولي، الذي أخذ يتمايز أحياناً مع الدور الامريكي. وبنظرة عميقة على خريطة التفاعلات مع الأزمات في الإقليم، يتضح أن هناك تباينات كثيرة بين دول المجلس والولايات المتحدة، وأن القرار الخليجي لم يعد معطى مسبقاً في دورانه مع المصالح الأمريكية.      

وكان أخطر ما عرَّض العلاقات إلى الضرر هو حالة العدائية التي برزت عليها السياسة الأمريكية إزاء بعض دول المجلس، بالأساس عدائية الخطاب الأيديولوجي والسياسي، وليس عدائية الأفعال فقط، فكما أن لدول الخليج خصوصيات في طبيعتها السياسية، فإن هذه الخصوصيات هي جزء أساسي من علاقاتها مع الأصدقاء والحلفاء. وعلى مدى تاريخ العلاقات، كانت الولايات المتحدة الأكثر فهماً لخصوصية الدول والأنظمة الخليجية، وظل للأمريكيين (مسئولين ومواطنين عاديين)، وفقاً لذلك، وضعية خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، لذلك لم يكن مريحاً ما شهدته السنوات الأخيرة من خطاب أمريكي تعمد عدم احترام أسس العلاقات وخصوصية الأنظمة.

وعلى وجه التحديد، لم يكن الرئيس الأسبق باراك أوباما مقنعاً للخليجيين في تعامله مع قضاياهم. وبينما كان للرئيس السابق دونالد ترامب سلبياته الكثيرة التي عكسها في لغة الخطاب الفظ وغير الدبلوماسي، والذي نالت منه بعض أنظمة الخليج جانباً، فقد فاقت إيجابياته بالنسبة لها سلبياته، حين وجد قادة الخليج طلباتهم محل تلبية في واشنطن، وحين أصبحت العلاقة الشخصية بينهم وبينه تفوق البروتوكول. لذلك كان ترامب أكثر الرؤساء الذين استفادوا من الخليج وأفادوا الخليج، حيث أرسى علاقة خاصة أساسها الارتكان إلى تفاهم شخصي ووضوح بشأن المصالح. وكانت هذه القاعدة مريحة للجانب الخليجي الذي يجيد التعامل بها، وقدمت للخليجيين ضمانة يمكن الوثوق فيها، رغم اقتصارها على الحدود الدنيا، حيث استعاضوا بالعلاقات الشخصية مع الرئيس عن القصور في الوفاء بالمطالب الأمنية والدفاعية، وكانت دول الخليج تدرك أنه في النهاية هناك رئيس لديه القدرة على التحرك لأجل أمنها والدفاع عنها في الأوقات القصوى، ووفرت شخصية ترامب ملامح خاصة أقنعت دول الخليج وخصومها على السواء، بالقدرة على التحرك الأمني وقت الضرورة.

على النقيض من ذلك، تعامل الرئيس بايدن بعقلية أوباما مع دول الخليج، مفضلاً العودة إلى الاتفاق النووي مع إبران، ومؤثراً بناء توازن بين دول مجلس التعاون والجمهورية الإيرانية، ولم يبد استعداداً لاستئناف العلاقات الأمنية والدفاعية الخاصة، بل أبرق بكل الرسائل على عزمه الانسحاب من المنطقة، ولم يتفهم مخاطر وطلبات الحلفاء، فلم يتواصل مع القادة، وتوعد وأنذر قبل أن يتولى الرئاسة، لذلك تباطأت بعض دول الخليج وعلى رأسها السعودية في تهنئته بالحكم، بعدما أدلى بتصريحات انتقد فيها ولى العهد الأمير محمد بن سلمان.

الرؤية الخليجية لبايدن وللولايات المتحدة

ينظر الخليجيون لبايدن على أنه رئيس من زمن الحرب الباردة، يتمترس خلف رؤية أيديولوجية تتمسك بمقولات بعيدة عن الواقع الخليجي، الذي تطور كثيراً ونضج بما يمكنه من رؤية الصواب والخطأ وفقاً لظروفه، والتفكير المستقل وعقد الصفقات الخاصة مع العالم وفي الإقليم، فلم يعد الخليج منبهراً أو شديد الانبهار بالنموذج الأمريكي، كما أن رمزية الولايات المتحدة في النظام الدولي لم تعد كما هي. وبالنظر إلى البراجماتية التي تحكم النظرة الخليجية للعلاقات الدولية، والتي تفرض التحرك وفق بوصلة المصالح التي يجري تقديرها وفقاً لاحتياجاتهم للأمن والتكولنوجيا، فإن موازين الحياة الدولية حالياً ومستقبلاً لن تكون بالضرورة في مصلحة الولايات المتحدة.

هذه البراجماتية التي تحكم وجهة النظر الخليجية، يمكن تفسيرها بأمرين أساسيين: طبيعة الشخصية الخليجية المتأثرة بصفاء النظرة إلى حياة الصحراء، وخبرة الخليجيين الخاصة مع تقلبات نمط الحياة والاقتصاد والأمن، وهذه الاعتبارات التي غرست البراجماتية في الشخصية الخليجية، والتي تدفع الخليجي إلى الذهاب إلى هدفه وفكرته بسرعة، جرى تكريسها أكثر مع نمط التعليم الغربي الذي حصل عليه مئات الآلاف من أبناء الخليج، والذين عادوا إلى بلدانهم ليحولوا العادات والطبائع إلى مسارات علمية وسياسية تكرس الرؤية السياسية القائمة.

لذلك، فقبل أغلب الدول العربية، كانت لدول المجلس خطواتها الجادة في بناء العلاقات مع الصين وروسيا، وعقد الحوار الاستراتيجي مع الدولتين، وكانت قرارات بعضها بإدخال تعليم اللغة الصينية في مدارسها الوطنية. ولم يكن ذلك سوى دوران للفكر السياسي الخليجي مع دورة المصالح البراجماتية. وفرضت التوجهات الخليجية بناء العلاقات مع الصين، مع استمرار التمسك بإصلاح وعودة العلاقات مع الولايات المتحدة؛ فلن يغادر الخليجيون علاقاتهم بالحليف الأمريكي إلا إذا تبين أن الورقة الأمريكية قد سقطت تماماً، ولم يعد لها قيمة.

هكذا، ترافق التغير في النظرة الأمريكية نحو دول الخليج بتغيرات على الجانب الخليجي، كان أهمها التحول في أنظمة الحكم إلى أجيال شابة جديدة تنظر للحياة الدولية وللعلاقات مع الولايات المتحدة بمنظور مختلف، عنوانه المصالح المتبادلة، وليس بمنظور العلاقات التي تتحكم بها الأنماط المعتادة من السلوك كونها محسوبة ابتداء على الولايات المتحدة والغرب. وعلى مدى السنوات العشر الماضية، تجددت الخلافة السياسية في أغلب الدول الخليجية، حيث شهدت حلول صف أول وثاني من الحكام والمسئولين، بعضهم، على حد ما ذكر المفكر الإماراتي د. عبدالخالق عبدالله، في مقال له في 6 يوليو الجاري (2022)، في سن أبناء أو أحفاد الرئيس بايدن، وهؤلاء، على حد قوله، عالمهم يختلف عن عالم الرئيس الأمريكي، ولا ينظرون بالتبعية إلى كل توجه أو قرار أمريكي على أنه محل ترحاب تلقائي لأنهم يتعاملون مع حليف، إذ أن ثقة هؤلاء القادة الجدد بالولايات المتحدة تزعزعت، ولم تعد بالقوة نفسها التي كانت لدى جيل الآباء، وهم غير مستعدين "لمسايرة واشنطن في الصغيرة والكبيرة من الآن فصاعداً، وبلغوا من الثقة بحيث أنهم على أتم الاستعداد لقول لا لواشنطن".

وفي الحقيقة، فإن ما تحدث به د. عبد الخالق عبدالله هو لسان حال كثير من أطياف النخبة الخليجية، التي عبرت عن نفسها على منصات التواصل الاجتماعي بالأخص "تويتر"، وهو أيضاً لسان حال أغلب فيديوهات اليوتيوب الخليجية، التي لا تنحو بالأساس إلى استعراض ملفات الزيارة بقدر اتجاهها للتعبير عن الاستياء من الصديق الأمريكي ومن الرئيس بايدن. وهكذا، لم تعد الولايات المتحدة، وفقاً لأكثر النخبة الخليجية، تلك الدولة التي يعرفونها بمبادئها وقيمها وقوتها العالمية، والكثير منهم عاود طروحاته وتمرد على مسلمات العلاقات، ساعد على ذلك ما رأوه في حاضر بلدانهم الخليجية من تطور اجتماعي واقتصادي وتكنولوجي ومكانة دبلوماسية ومزايا مالية تفوق الغرب، إلى الحد الذي جعل بلدانهم جاذبة للغربيين أنفسهم، فضلاً عن تحولات السياسة الأمريكية والقيم الغربية، التي أخذت تتقلب بين المبادئ والمصالح وأحياناً الانتهازية.

وفي الواقع، فلقد تعاظمت المكانة الدبلوماسية للدول الخليجية على الصعيد الدولي، وأصبحت -كدول فرادى وككتلة جماعية- مركز ثقل وعاملاً لتغيير التوازن العالمي، ليس فقط بسبب النفط والغاز، وإنما للمكانة الدبلوماسية والسياسية، والأهمية الاقتصادية، والتطلع التكنولوجي والتأثير الدولي. وتريد دول المجلس ترجمة كل ذلك في شراكة جديدة مع الولايات المتحدة تتجاوز العراقيل التي تعرضت لها الشراكة السابقة.

بالتأكيد لا ترغب دول المجلس ولا قياداتها الجديدة في إنهاء العلاقات مع الولايات المتحدة، وسوف تظل لهذه العلاقات الأولوية، كما ستبقى لها مستويات من التمايز والخصوصية عن مختلف التحالفات الدولية لدول الخليج ولقادة الخليج، ليس فقط لأجل المصالح التي لا تزال كبيرة على الجانب الاقتصادي والاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة، ولكن أيضاً لأن ساحة القرار في واشنطن سوف تظل مفتوحة للعمل الخليجي، بالتأثير عبر اللوبيات ومداخل القرار المختلفة التي يفهمها الخليجيون أكثر من أي ساحة قرار أخرى في أي بلد آخر كروسيا أو الصين، وهو أمر خبره الخليجيون على مدى العقود وتطور في العقد الأخير بشكل خاص، وأيضاً وبالأساس لأجل تجنب الأضرار، فإذا كانت الولايات المتحدة بصدد تراجع المكانة الدولية، فإنها لا تزال تمسك بمقابض التحالفات الفاعلة والقادرة على التحرك في مواجهة التهديدات العالمية، على خلاف الصين مثلاً، وهذه الحالة سوف تستمر لفترة مقبلة.

وفي إطار هذا النمط من الأداء الأمريكي، لن تستغني واشنطن عن علاقاتها الخليجية بسلاسة، كما لا يمكنها تصور انتقال الخليجيين كقوة مضافة إلى قطب دولي آخر، أو في الطرف الآخر من المعادلة، لذلك فإن أقصى التقديرات لن تذهب إلى تصور احتمال الاستعاضة الخليجية بالعلاقات مع قطب دولي جديد هو الصين، أو بتحالف إقليمي معادٍ للمصالح الأمريكية، أو بالانتقال إلى علاقات تصادمية، وإنما في الحدود الدنيا علاقات لا تحكمها الأنماط المعتادة من السلوك الخليجي.      

أسس النظرة الخليجية الجديدة

ترتقي الجوانب النفسية في العلاقات بالولايات المتحدة في المنظور الخليجي، إلى مستوى المصالح المادية، وتنافسها؛ ويعزز أهمية الجانب النفسي للجانب الخليجي، ما لمسه في السنوات الأخيرة من تراجع الثقة بالولايات المتحدة، والحاجة إلى تصحيح النظرة الأمريكية لدول المنطقة، فلم يعد نموذج الإدارات الأمريكية القائم على التدخل في الشئون الداخلية، وعدم الاحترام للقيم والخصوصية، والابتزال في لغة الخطاب الدبلوماسي، والتهديد بقوانين مثل "جاستا" و"نوبك"، وتناول الشئون الداخلية وأوضاع الحقوق، والابتزاز بإيواء المعارضين، لم يعد كل ذلك مناسباً للجانب الخليجي كأسلوب للعلاقات بين الحلفاء. وتريد دول الخليج العودة بالعلاقات إلى المربع رقم 1، على الأقل فيما يتعلق بهذه الأشياء أولاً، وتالياً مضمون ومستقبل الشراكة. 

وهكذا تتضمن الرؤية الخليجية لزيارة بايدن في أبعادها التحتية العميقة غير المطروقة ما يلي: 

1- العودة إلى "قاعدة الاستثناء" وليس "دورة الإثبات": فلقد اتجهت العلاقات في السنوات الأخيرة إلى منحى أشبه بالوصاية، بعدما اتجه صانع القرار في البيت الأبيض أو المتنافسون في الحملات الانتخابية الرئاسية، إلى توجيه انتقادات علنية لبعض القادة الخليجيين، وتبنى بعضهم لغة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات، وهو ما كان له تأثيره السلبي الشديد. ومن ثم يهدف الطرف الخليجي إلى كسر حزمة الوقائع التي تقترب من أن تصبح قواعد ونمطاً في السياسات، إن جرى التسامح معها، بأن تبنى العلاقات الجديدة على الهجوم على دول الخليج أو أن تترسخ سوابق داخلية في انتخابات الرئاسة الأمريكية تنحو لتبني تصريحات عدائية ضد دول المنطقة. ومن الصعب على دول الخليج أن تحتاج لأن تمر بـ"دورة إثبات" للأهمية الاستراتيجية للعلاقات، مع كل قادم جديد إلى البيت الأبيض، لأن هذا سيكون نمطاً مجهداً وغير موثوق به لمستقبل العلاقات، وليس من المرغوب أن تنتظر دول المجلس عاماً ونصفاً أو عامين لكي يقرر القادم الجديد إلى البيت الأبيض بأن يزور المملكة. فهذه ليست إدارة جيدة للعلاقات بين الأصدقاء، ومن ثم ترغب دول المجلس بأن تبقى "قاعدة الاستثناء" هي القاعدة التي تتأسس عليها العلاقات الثنائية، بأن يبقى لهذه الدول وضعية استثنائية في التعامل معها، بما يرتقي إلى مقدار خصوصية علاقاتها بالولايات المتحدة، والخدمات التي تجنيها الولايات المتحدة من علاقاتها معها.

2- علاقات بعيدة عن الابتزاز بالقيم والمنهج الحقوقي: منذ لقاء الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت بالملك عبدالعزيز آل سعود في فبراير 1945، تأسست العلاقات الخليجية-الأمريكية على احترام الخصوصيات، ولم تكن محاولات فرض القيم الأمريكية على دول الخليج جزءاً من العلاقات، ومهما كان من التباين والاختلاف على المستويات الأدنى، فلم يجر تبني وجهات النظر الليبرالية والديمقراطية الأمريكية على المستوى الرسمي، بما يهدد مستقبل العلاقات، ومن ثم ظلت العلاقات الرسمية مؤمنة ضد التهديد، بينما شهدت السنوات الأخيرة، تحول مؤسسة الرئاسة الأمريكية إلى وضعية أشبه بوضعية المنظمات الحقوقية، بل كانت مؤسسة الرئاسة الأمريكية أحياناً هي الملهم للمنظمات الحقوقية في الهجوم على بعض الدول الخليجية، بينما لم تركز على جوانب قصورها الخاص في علاقاتها الأمنية والدفاعية بدول الخليج، والتي أجبرت بعض هذه الدول للدفاع عن ذاتها بإمكاناتها الخاصة.

3- علاقات مؤسسة على كشف حسابات المصالح: في ظل العلاقات السابقة، توارى الحديث عن تكاليف وأثمان العلاقات لكل طرف، حيث كانت العلاقات تؤخذ ككل متكامل، دون تفصيل، لا يحسب أحد من أطرافها مقدار المنافع أو التكاليف التي تفرضها علاقاته بالآخر، وهي علاقات تأسست على العقيدة والمبدأ السياسي، واكتفى كل طرف بالرضا عن المجمل النهائي للعلاقات (استقرار سوق النفط العالمي مقابل الأمن الخليجي). في السنوات الأخيرة، سعى الجانب الأمريكي إلى كشف حسابات المصالح العائدة من العلاقات، كان الجانب الأمريكي في السابق مؤمناً بالمصالح مع الخليج كمبدأ عقيدي، بينما في السنوات الأخيرة تغلبت تقديراته بأنه لا يتحصل على الثمن المطلوب من العلاقات، وقد أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن ذلك صراحة، لذلك سعى إلى التحصل على الثمن المادي الذي يعتقد أنه مكافئ، لكن هذا النهج تراجع مع سقوط ترامب، بينما تصور منهج أمريكي آخر، تبناه الحزب الديمقراطي وإدارتا أوباما وبايدن، بأن هناك فضاءاً جيوسياسياً آخر أولى بالاهتمام، باعتبار مكانة الولايات المتحدة كقطب عالمي يهمها الأساس خطر الصعود الصيني. وفق هذا المبدأ الجديد من الحزبين الذي سعى لكشف حساب المصالح مع الحلفاء والذي انتهى إلى اضطرب العلاقات، ترغب دول الخليج في التأكيد على أنه وفق كشف حسابات المصالح أيضاً، وليس فقط وفق المبدأ العقيدي الأشمل، فإنها تقدم الكثير للولايات المتحدة، بما قد يناظر أو يفوق ما تقدمه الأخيرة للأمن الخليجي.

4- علاقات تترجم المكانة الدولية الجديدة لدول المجلس: لا تقنع دول الخليج بمستوى العلاقات والشراكة السابقة، التي كان ينظر إليها فيها على أنها الطرف الاصغر أو الأضعف الذي يتلقى الخدمة من الطرف الآخر في الدفاع عن أمنه وحمايته، وإنما ترغب بتصحيح النظرة إلى هذه العلاقات باعتبارها الطرف المناظر صاحب الدبلوماسية النشطة، الفاعلة والمقبولة في كثير من الأزمات الدولية، والطرف ذو المكانة في القرار الدولي والدبلوماسية الدولية، وهو الطرف الذي له خياراته الخاصة في اختيار توجهاته، ليس فقط في العلاقات مع الأقطاب والقوى الأخرى والانخراط في التحالفات التي تخدم مصالحه، وإنما أيضاً في امتلاك القدرة على التأثير في سياسات واختيارات الطرف الأمريكي داخلياً؛ في الأول من خلال العمل مع أقطاب آخرين تعتبرهم الولايات المتحدة منافسين أو خصوماً، وفي الثاني عبر التأثير في الساحة الأمريكية الداخلية بما ينتهي إلى تجزئة السياسات والقضايا وتقليص خسائرها فيها، فلم تعد قرارات دول الخليج معطى محسوباً سلفاً على الجانب الأمريكي أو الغربي في السياسات الدولية، وإنما رقماً سياسياً فاعلاً يتعامل مع كل حالة على حدة بما يعظم مصالحه أولاً، وأيضاً فهو ليس معطى محايداً لا أدوات يملكها في الداخل الأمريكي نفسه، وإنما لديه القدرة والثقة بقدرته على التدخل لأجل تغيير قواعد اللعبة التي قد تستبد بها إدارة محددة أو رئيس له توجهاته الخاصة يرغب بفرضها على مضمون العلاقات. وهنا تعمل دبلوماسية دول المجلس ليس فقط على التأثير باللوبيات داخل الولايات المتحدة على سياسات الرئيس أو الإدارة التي في السلطة، وإنما أيضاً الاستعداد لسيناريو دعم المنافس الداخلي في الحزب الآخر المترقب للجولة الرئاسية القادمة، وذلك هو ما يحكم علاقة الخليجيين الآن بإدارة بايدن، ومنافسه المحتمل ترامب.

خلاصة القول، لا يتوقع أن تكون زيارة بايدن نهاية لإشكاليات الأبعاد غير المطروقة في العلاقات الخليجية-الأمريكية، وإن تمكنت من تسوية بعض الملفات، وقد تخرج الزيارة بنجاح جزئي أو نصف نجاح، حيث أن الأضرار التي تراكمت على العلاقة في السنوات الماضية، تحتاج سنوات لإصلاحها، وقد تستمر إشكاليات العلاقات مع أجزاء من سيناريوهات مختلفة، وليس من بينها العودة إلى النمط التقليدي السابق، وتتمثل أهم احتمالات الزيارة فيما يلي:

- التوافق على القضايا ذات الأولوية، مع استمرار الشد والجذب في العلاقات، بما يعنيه استمرار الحاجة إلى المرور بـ"دورة الإثبات"، التي سبق الحديث عنها، مع كل قادم جديد للبيت الأبيض.

- بناء الولايات المتحدة علاقات جزئية مع بعض دول مجلس التعاون وليس كلها، وفق ضمانة أمنية مجتزأة تقتضيها المصالح الأمريكية، بما يعني إبقاء قوة العلاقات مع البعض وليس الكل.

- التوصل إلى مضمون جديد للشراكة تعود فيه العلاقات إلى عهدها السابق من حيث إدراك أهميتها كمبدأ عقيدي، لكن برؤية مختلفة، وعبر وسائل مبتكرة تنتهي بها إلى القناعات ذاتها، ولكن ليس بمستوى الشراكة السابق.