لم تكن استقالة رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون، في 7 يوليو الجاري (2022)، من زعامة حزب المحافظين مع بقاءه في منصب رئيس الوزراء حتى انتخاب بديل، مُفاجِئة لأحد. فقد أكدت مؤشرات عديدة على مدى الشهور القليلة الماضية أنها واقعة لا محالة. الوحيد تقريباً الذى لم يعط اهتماماً لهذه المؤشرات كان جونسون نفسه. فقد حاول أن يتصرف كما لو أن الأمور طبيعية تماماً، لذا جاءت استقالته متأخرة بل يمكن اعتبارها إقالة فرضتها عليه قيادات حزب المحافظين الحاكم وضغوط الرأى العام البريطانى.
التطورات الدرامية التى شهدتها البلاد خلال الأيام القليلة الماضية غير مسبوقة فى التاريخ البريطانى الحديث. صحيح أن حزب المحافظين تحديداً مشهور بأنه الحزب الذى ينهى مصير زعمائه إذا شعر أنهم أصبحوا عبئاً عليه، إلا أن ما حدث سيدخل السجلات السياسية باعتباره أشرس معركة سياسية بين حزب وزعيمه، الذى هو فى الوقت نفسه رئيس الوزراء. كانت المعركة علنية انشغل بها الرأى العام والإعلام، بينما المعارك السابقة جرى خوضها خلف أبواب مغلقة ولم تكن الصحافة تعلم عنها فى وقتها إلا أقل القليل.
وبعكس المعارك السابقة، التى كان الخلاف فيها حول قضايا سياسية، تركز الخلاف بين جونسون وحزبه حول شخصيته بالأساس. الصحفى البريطانى آدم تايلور كتب لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية: "لسنوات كانت القوة العظمى لجونسون هى افتقاده للخجل. منذ كان صحفياً كان يتعرض للسخرية والانتقادات بسبب هيئته وشعره المنكوش وسمنته المفرطة وتعليقاته السخيفة لكنه كان سعيداً ومبتسماً دائماً. بعد دخوله السياسية، أضاف إلى ذلك الكذب والمحسوبية والفساد وعدم الكفاءة وخيانة الأصدقاء. ومع ذلك، أحبه الناخبون، فقد كان نموذجاً مختلفاً عن السياسيين الباردين الذين لا روح لهم ولا قبول. يجيد إلقاء النكات ولديه حس فكاهى وروح مرحة".
صعود سريع
انتمى جونسون، المولود عام 1964 لأبوين من الشريحة العليا للطبقة الوسطى، منذ شبابه إلى حزب المحافظين. كان عضواً بارزاً فى رابطة الحزب بجامعة أكسفورد مع نخبة من الطلاب الأثرياء الذين أصبحوا قادة للحزب فيما بعد، وبينهم ديفيد كاميرون رئيس الوزراء الأسبق. وعقب تخرجه، تدرب فى صحيفة "التايمز" البريطانية لكن جرى طرده لأنه نسب كلاماً غير صحيح لأحد السياسيين البريطانيين. ومع ذلك، واصل مسيرته الصحفية فى صحيفة "الديلى تليجراف" المحافظة وأصبح مراسلاً لها فى بروكسل خلال عقد التسعينات، حيث بعث مقالات وتقارير تضمنت معلومات وأرقاماً جرى تكذيبها عن "ديكتاتورية" الاتحاد الأوروبى وعزمه التحول إلى دولة تمارس سيادة على الدول الأعضاء، الأمر الذى أكسبه شهرة بين ناخبى حزب المحافظين الكارهين للارتباط السياسى والقانونى مع أوروبا. وعندما عاد إلى لندن كان نجماً صحفياً سرعان ما التقطه الحزب ليصبح نائباً فى مجلس العموم عام 2001، ودخل وزيراً فى حكومة الظل المحافظة خلال حكم العمال لكن جرى طرده بعد فضيحة جنسية.
ثم جرى اختياره كمرشح للحزب فى انتخابات عمودية لندن أمام السياسى العمالى المخضرم كين ليفنجستون عام 2008، حيث فاز جونسون عليه وتولى المنصب مرتين حتى عام 2015 ليعود بعد ذلك لمجلس العموم. وعندما قرر كاميرون إجراء استفتاء حول بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، انخرط بقوة فى الحملة التى تحبذ الخروج أو ما يعرف بـ"البريكسيت". تسببت نتيجة الاستفتاء فى استقالة كاميرون، ليصبح جونسون بعدها أبرز سياسى محافظ. وكان فوزه بزعامة الحزب ومن ثم رئاسة الحكومة مسألة وقت. وبعد أن رفض الترشح على الزعامة، تولت تريزا ماى رئاسة الحكومة وانضم هو لحكومتها وزيراً للخارجية لكنه جعل سنواتها القليلة فى 10 داوننج ستريت جحيماً بالتشكيك فى سياساتها ثم كانت استقالته عام 2018 احتجاحاً على تباطؤها كما قال فى تنفيذ إجراءات الخروج من أوروبا.
أمضى جونسون عاماً فى المقاعد الخلفية بمجلس العموم، واصل خلاله انتقاد ماى ولكن بوتيرة أعنف بعد أن تخفف من أعباء المنصب الوزارى. ورغم فوزها فى التصويت بعدم الثقة فيها فى ديسمبر 2018، أعلنت ماى أنها سوف تستقيل فى يونيو 2019، الأمر الذى فتح الباب لجونسون لتولى المنصب السياسى الأهم فى البلاد.
بارتى جيت.. نهاية سياسة المراوغة
فى 24 يوليو 2019، أصبح جونسون رئيساً للوزراء بعد فوزه فى انتخابات زعامة حزب المحافظين. وكان أو ما فعله إجراء تغيير جذرى على تشكيلة الحكومة أطاح فيه بكل معارضيه ومنتقديه من كبار الوزراء فيما عرف بـ"ليلة السكاكين الطويلة"، وهو تعبير متداول فى بريطانيا عندما يضحى رئيس الوزراء بوزراء كبار فى تغيير مفاجىء. فعلها هارولد ماكميلان بداية الستينات وفعلته مارجريت ثاتشر نهاية السبعينات. ترافق مع ذلك، تصريحات وردية من جونسون عن المستقبل الواعد الذى ينتظر بريطانيا الجديدة التى تتطلع للعالم بقوة وعزم. كما استعار عبارات لرئيس الوزراء الراحل ونستون تشرشل، الذى يعتبره نموذجه الملهم، عن الأفضل الذى لم يأت بعد. إلا أن نواب حزبه وكذلك نواب المعارضة أذاقوه الكثير من الهزائم وأفشلوا محاولاته للخروج من الاتحاد الأوروبى باتفاق أو دون اتفاق. وكانت الانتخابات المبكرة هى الحل للخروج من هذا المأزق المتمثل فى رفض البرلمان لسياساته وإعلانه هو أن البرلمان لا يمثل الناخبين.
وجاءت نتيجة الانتخابات التى أجريت فى 12 ديسمبر 2019، لتعطيه أغلبية مريحة يستطيع من خلالها تنفيذ كل خططه وأحلامه، خاصه أنه تخلص من نواب المحافظين القدامى الذين كانوا يعارضون سياساته واختار نواباً يدينون له بالولاء. كما أنه نجح فى هزيمة حزب العمال المعارض فى عدد من الدوائر التى تصوت تاريخياً للعمال. كان الشعور العام أن جونسون سيصبح أهم رئيس وزراء بريطانى محافظ منذ ثاتشر. معه الأغلبية وكذلك شعبية كبيرة لدى الرأى العام.
لكن الرياح أتت بما لا تشتهى سفنه. فى 30 يناير 2020، جرى الإعلان عن أول حالة إصابة بكورونا، وبعد شهرين، سرى أول إغلاق فى كل البلاد وأعلن جونسون أن على البريطانيين أن يلزموا منازلهم. وفى بداية أبريل، أصيب جونسون بالوباء وظل فى المستشفى عدة أيام فى حالة خطيرة. كان أسلوب تعامل الحكومة مع الوباء هو بداية الافتراق بين البريطانيين وجونسون. بدا صارماً فى تطبيق إجراءات الإغلاق الشامل التى لم يكن يتوقف حتى يبدأ من جديد. إلا أن صحيفة "الميرور" الشعبية كشفت، فى 22 مايو 2020، أن دومنيك كامنيجز كبير مستشارى جونسون زار والديه خارج لندن فى كسر صريح للقواعد الإغلاق. تمسك جونسون بأن مستشاره تصرف فى إطار القواعد ولم ينتهكها. ثم توالت الانتهاكات التى تورط فيها رئيس الوزراء نفسه، فيما عُرف بعد ذلك بـ"بارتى جيب"، حيث حضر جونسون عدة حفلات أقيمت فى مقر رئاسة الحكومة فى وقت كانت الشرطة تطبق إجراءات الإغلاق بصرامة وتمنع اجتماع أكثر من اثنين فى مكان عام.
هنا ظهرت شخصية جونسون المراوغة بل الكاذبة كما اتهمه خصومه. نفى مراراً أن يكون شارك فى الحفلات، وعندما انتشرت صور له، قال إنه لم يمكث سوى دقائق لتكذبه التحقيقات التى أجرتها الشرطة ويتم فرض غرامة عليه الأمر الذى استنفذ كثيراً من رصيده الشعبى. واستغلت المعارضة ذلك بقوة، وتحولت النقاشات السياسية إلى عملية جلد له ولوزرائه الذين شاركوا فى الحفلات. إلا أن رد الفعل الشعبى كان شديداً للغاية. فقد قارن الناس بين أوضاعهم خلال الإغلاق وعدم قدرتهم على زيارة مرضاهم أو تشييع جنازات ذويهم وبين الحفلات الباذخة التى حضرها جونسون. وتأكد للرأى العام أن القواعد والإجراءات تنطبق عليهم بينما حكومة المحافظين وعلى رأسها جونسون لا تبالى بها.
ورغم محاولة جونسون حرف الاهتمام عن تلك القضية قائلاً إن هناك قضايا يجب التركيز عليها خاصة تراجع النمو الاقتصادى وزيادة البطالة بسبب كورونا، إلا أن البريطانيين جعلوا انتهاكه للقواعد قضيتهم الأولى والأساسية.
أوكرانيا وفشل رافعة الإنقاذ
ومع اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا، حاول جونسون التغطية على فضائحه الداخلية بأن يكون الصوت الغربى الأعلى المناصر لأوكرانيا والمندد بروسيا وزعيمها فيلاديمير بوتين. وكان كلما شعر بتصاعد أزمته الداخلية، قام بزيارة لأوكرانيا وصعَّد من مساعداته لجيشها لدرجة أن عديداً من المحللين السياسيين اتهموه باستغلال الحرب لمصلحته الشخصية. ونشرت الصحف إحصاءات عن كم التصريحات والخطب والزيارات التى قام بها لأوكرانيا، فوجدتها تتجاوز ما فعله أى زعيم غربى آخر. لكن فضيحة "بارتى جيت" كانت تطفو مجدداً على السطح مع الكشف عن انتهاكات أخرى ومع ظهور نتائج التحقيقات التى كانت صادمة وتمس مصداقيته بل وشرعيته، إذ اتهمته بعدم الكفاءة وانتهاك القوانين.
ثم جاءت فضيحة النائب كريس بينشر مسئول الانضباط بحزب المحافظين لتصل الضغوط التي يتعرض لها جونسون إلى ذروتها. فقد جرى الكشف عن أن بينشر داعب جنسياً اثنين من زملائه. وخرج المتحدث باسم جونسون ليعلن أن رئيس الوزراء لم يكن على علم بالمزاعم التى تتردد عن بينشر ثم اتضح أن جونسون كان يعلم ورغم ذلك قرر ترقية النائب. ورغم محاولته الاعتذار، إلا أن كبار الوزراء شعروا أن جونسون يأخذ الحكومة والحزب إلى المجهول خاصة مع الهزائم التى تعرض لها المحافظون فى الانتخابات البرلمانية الفرعية. وبدأ طوفان الاستقالات باستقالة وزيرى الخزانة ريشى سوناك والصحة ساجد جاويد ليتبعهم عشرات الوزراء ووزراء الدولة مطالبين باستقالة جونسون. ورغم ذلك ظل رئيس الوزراء متمسكاً بمنصبه، إلا أن الوزراء الجدد الذين عينهم أجبروه على الاستقالة وإلا فإنهم سيتركونه وحيداً.
خضع جونسون للضغوط وقدم استقالته، وهو لم يكن سيفعل ذلك إلا بعد هذه الاستقالات والضغوط غير المسبوقة. فعلى مدى تاريخه الصحفى والسياسى لم يُقدم على خطوة الاستقالة بل كان يتعرض للإقالة دائماً. المرة الوحيدة التى استقال فيها، عندما كان وزيراً للخارجية، وكانت جزءاً من حملته للإطاحة برئيسة الوزراء تريزا ماى.
فى بيان الاستقالة، قال جونسون: "لا أحد فى السياسة لا يمكن الاستغناء عنه"، لكنه كان دائماً يعتقد أنه لا غنى عنه مطلقاً.