مقدمة
أدى التطور التكنولوجى، وثورة المعلومات، والتقدم التقنى إلى أن يكون العالم قرية كونية واحدة، كما ساهمت العولمة بمختلف اتجاهاتها وأفكارها ونظرياتها، في ربط دول العالم فى إطار اقتصادى ومالى واحد، مما أثر بالتالى على أوضاعها السياسية والاجتماعية والثقافية، وظهر ذلك فى جائحة كوفيد 19 وما ترتب عليها من إجراءات احترازية وحظر التجارة وغلق الكثير من الشركات ومن ثم تسببت فى أزمات متعددة تركت آثاراً مختلفة على معظم دول العالم، وتأثرت أيضاً العديد من الأنظمة الاقتصادية والمصرفية والمالية فى دول العالم بالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وما صاحبها من تداعيات وعقوبات أضرت بالكثير.
كل ذلك كان أرضاً خصبة لتطور أنماط جديدة من الجرائم والمجرمين، يستغلون ثمار التقدم العلمى، ويستفيدون من انهيار المصارف، واهتزاز الأسواق المالية، في بعض الأحيان، وينتهزون فرصة الخوف الطبيعى للأفراد من إيداع أموالهم فى المصارف خشية إفلاسها، وترددهم فى الاستثمار فى أسواق الأوراق المالية تجنباً لخسائر انهيارها.
لقد تغيرت جرائم النصب من الاحتيال على البسطاء لسلب أموالهم القليلة، وباستعمال مظاهر خادعة بسيطة، إلى الادعاء بامتلاك مشروعات وهمية تُدار من خلال مظاهر خارجية يحرص المحتالون على إكسابها صورة المظهر المشروع بوجود وثائق ومقار وإعلانات وغيرها من الأمور التى تُكسِب الثقة، وبالاحتيال والنصب على المصارف والحصول على القروض الضخمة بضمانات وهمية تبدو فى ظاهرها كافية لتغطية قيمة هذه القروض فى حالة عدم الوفاء، وبجمع أموال الناس لتوظيفها واستثمارها فى محافظ استثمارية وهمية وإعطائهم أرباحاً عالية، وباستعمال أساليب المكر والخداع لإضفاء الثقة على المحتالين، وستر الأساليب الاحتيالية التى يستخدمونها(1).
وقد أوضحت أحدث الدراسات التى أجريت على المجتمع المصرى خلال الفترة من 2011 وحتى 2018 أن جرائم النصب والاحتيال باتت مرتفعة بعد ثورة 2011 وحتى الآن، إذ تعرض لها 51,7% من النسبة الإجمالية لعينة الدراسة التى تعرضت لجرائم مرتبطة بالأموال والائتمان والتى بلغت 10٪ فى المجتمع المصرى. وبينت النتائج أيضاً تقارب النسب بين الريف والحضر فى التعرض لجرائم النصب والاحتيال، وأن الإناث أكثر عرضة لتلك الجرائم عن الذكور(2).
وقد ارتبط ارتفاع معدل تعرض العينة لجرائم النصب والاحتيال بالمناخ السياسى والاقتصادى الذى كان سائداً قبل ثورة يناير 2011 وبعدها مباشرة من كثرة أعمال النصب والاحتيال على الأفراد لسلب أموالهم بمسمى شركات وهمية، ومنحهم أرباحاً مرتفعة مثل انتشار شركات "السعد للاستثمار" و"الريان" وغيرها، كما ظهر سماسرة من الأفراد يقومون بالنصب على المواطنين لاستثمار أموالهم بدلاً عن البنوك التى يعتقد البعض بشبهة الحرمانية فيها، ويتاجرون بهذه الأموال ويمنحونهم أرباحاً مرتفعة لفترة قليلة ثم يهربوا بما جمعوه من أموال خارج البلاد.
كما شهد المجتمع المصرى كثيراً من عمليات الاحتيال فى التخليص الجمركى وفوضى الحدود أثناء الثورة وبعدها، وكثيراً من جرائم النصب فى الأوراق الرسمية لاستخراج بطاقات أو شهادات وغيرها، هذا بخلاف عمليات النصب فى عقود العقارات والتعاقد واستلام الشقق وفترات التسليم. وظهر فى الفترة الماضية، خاصة فى القرى، ما يطلق عليه إعلامياً بـ"المستريح"، وهو الشخص الذى يجمع الأموال من المواطنين ويخدعهم بفوائد مرتفعة وبعد جمعها يفر بها هارباً وتضيع حقوق المواطنين ولا يستطيعون استردادها(3).
ونتيجة لاستمرار وتكرار عمليات النصب والاحتيال فى المجتمع المصرى، وظهور ما يطلق عليه "المستريح" فى معظم المحافظات، تحول هذا الأمر إلى ظاهرة تستحق الوقوف على أبعادها ورصد دوافع استمرارها داخل المجتمع. لذا تطرقت الدراسة إلى التعرف على هذه الظاهرة من خلال منظور يشمل "الجانى والضحية"، لأن كلاهما مشتركان فى ارتكاب النصب؛ فالجانى يحتال بأساليب متعددة ومداخل متنوعة للنصب والضحايا يساعدونه فى جمع أموالهم.
وكان أبرز هذه القضايا التى انشغل بها المصريون مؤخرا "مستريح أسوان" أو "مصطفى البنك" الذى لم يتجاوز عمره 35 عاماً، والمسجل "خطر"، لكنه استطاع أن يجمع حوالى مليارى جنيه، عقب خروجه من السجن بالنصب على عدد من الأشخاص بحيلة الاتجار بها فى تجارة المواشى، قبل أن يفر هارباً إلى منطقة جبلية بمركز إدفو فى أسوان. إلا أن وزارة الداخلية تمكنت من القبض عليه، في 13 مايو الماضي (2022).
ولم تقتصر ظاهرة "المستريح" على الرجال فقط، إذ شهدت محافظة الشرقية ظهور "مستريحة" فى مدينة الزقازيق، تعمل معلمة فى مدرسة لغات، وقبض عليها بعدما حصلت على 30 مليون جنيه من أشخاص بغرض استثمار أموالهم فى بيع الأجهزة الكهربائية وقبلهم العديد من النصابين فى مختلف المحافظات(4).
إن تنوع عمليات النصب وارتفاع معدلاتها فى المجتمع المصرى من قبل الأفراد لا يرجع فقط لمهارة النصاب أو أساليبه المختلفة فى الاحتيال؛ بل يرجع أيضاً لتطلع الضحية إلى الكسب السريع والربح بدون عناء أو انتظار فوائد البنوك السنوية التى يعتقد بعضهم بـشبهة الحرمانية فى هذه الفوائد مع قلة العائد السنوى منها. فكلا الطرفين مشتركان فى استمرار هذه الظاهرة وتكرار وجودها فى المجتمع، مما يثير تساؤلاً هاماً مفاده: لماذا تتكرر عمليات النصب والاحتيال فى المجتمع؟، وما هى دوافع وأسباب استمرار الضحايا فى تصديق حيل النصابين والدفع بما يمتلكونه من أموال أو عقارات أو مواشى لهم؟.
وعلى ضوء ذلك، تكتسب دراسة أبعاد هذه الظاهرة داخل المجتمع أهمية خاصة، وذلك من خلال الوقوف على أبعاد ظاهرة النصب والاحتيال من حيث النشأة والتعريف، والتعرف على خصائص النصاب والمحتال وأساليب احتياله المتعددة، وكذلك التعرف على خصائص ضحايا النصب والاحتيال وسماتهم الشخصية، بجانب رصد أسباب ودوافع استمرار هذه الظاهرة فى المجتمع من خلال الجانى والضحية.
نشأة الظاهرة
يمكن تتبع أصول ظاهرة "المستريح" فى مصر، بالعودة إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، والتى شهدت بروز ما كان يعرف بـ"شركات توظيف الأموال"، وأشهرها "الريان"، "السعد" و"الهدى" وغيرها. إذ عمدت هذه الشركات إلى جمع الأموال من "المودعين" بغرض "استثمارها" مقابل عائد مادى مرتفع، خاصة بالمقارنة بأسعار الفائدة فى البنوك المصرية التى كانت منخفضة حينها. وقد تمتعت هذه الشركات أيضاً بغطاء دينى، قدمه عدد من المشايخ، الذين اهتموا بتقديم خدماتها كوسيلة للربح الحلال مقابل "البنوك الربوية".
وقد انتهت ظاهرة "شركات توظيف الأموال" بهروب أو سجن من كانوا يعملون فيها، بعد أن عجزوا عن الوفاء بوعودهم بدفع الفوائد أو رد أموال المودعين. وتسببت قضاياهم وقتها فى هزة اقتصادية واجتماعية كبيرة للمجتمع المصرى، بعد أن تبخرت أموال الناس فى مُضاربات وهمية وتجارة فى أسواق الذهب والبورصات العالمية بطريقة عشوائية غير مدروسة.
وعادت هذه الظاهرة مرة أخرى بقوة عام 2014 بعد أحداث ثورة 25 يناير 2011، من خلال ظهور نصاب وقتها يدعى "أحمد مصطفى" الذى اشتهر بلقب "المستريح"، واستطاع أن يجمع من أهل قريته فى صعيد مصر أكثر من 53 مليون جنيه لاستثمارها فى تجارة بطاقات شحن الهواتف المحمولة، وتم القبض عليه فى عام 2015، وحصل على حكم نهائى بالحبس لمدة 15 عاماً ورد 266 مليون جنيه للمدعين بالحق المدنى فى قضايا تتعلق بالاحتيال المالى، إذ ينظر القضاء فى تلك القضايا بأنها نوع من الاحتيال المالى وجرائم النصب.
ثم توالى تكرار وقائع النصب والاحتيال المالى من خلال ظهور العديد من الأشخاص الذين يجمعون أموال الناس لتوظيفها فى مجالات تجارة العقارات أو المحاصيل الزراعية والسيارات وغيرها خلال السنوات القليلة الماضية. ووفقاً لبعض الإحصاءات الصادرة عن إدارة الأموال العامة التابعة لوزارة الداخلية المصرية، فقد بلغت حصيلة ما جمعه عدد (25) محتالاً من المواطنين خلال الأعوام الماضية نحو خمسة مليارات جنيه مصرى، حيث يتم اجتذاب الضحايا تحت ستار دينى أو وهم "الكسب الحلال" بعيداً عن فوائد البنوك(5).
وقد رصدت بعض الدراسات تزايد معدلات جرائم النصب والاحتيال فى الفترة ما بين 2011 وحتى 2018 خاصة فى محافظات الوجه القبلى، تليها محافظات الوجه البحرى ثم المناطق الحضرية، وانتشرت تلك الجرائم بين الإناث كضحايا لها أكثر من الذكور، وتقاربت النسب بين المناطق الريفية والحضرية، مما يشير إلى خطورة الظاهرة وضرورة مواجهتها والوعى بتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع المصرى(6).
تعريف عمليات النصب والاحتيال
تعددت التعريفات الخاصة بعمليات النصب والاحتيال وفقاً لتعدد الدراسات والتخصصات التى تتناولها، فقد يختلف مفهوم النصب والاحتيال طبقاً للمنظور القانونى عنه وفقاً للمنظور الاجتماعى أو النفسى، كما قد يختلف وفقاً للمنظور البيئى أو الإيكولوجى، وجميعها مداخل مختلفة لتعريف النصب والاحتيال، لذا نركز فى هذا الجزء على طرح تعريفات مختلفة لعمليات النصب والاحتيال طبقاً للعديد من المداخل، وذلك كالآتى:
- يمكن تعريف النصب بأنه "الاستيلاء على مال منقول مملوك للغير، وكان ذلك باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة، أو إحداث الأمل بحصول ربح وهمى، أو التصرف فى مال ثابت أو منقول ليس ملكاً له، وإما باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة".
- أما تعريف الاحتيال فهو "سلوك يرمى إلى استحواذ على ممتلك من خلال الادعاء الزائف (التقمص) المقصود الذى يمارسه المدعى أمام فريسته لكى يستحوذ على مال أو ممتلك ليوقعها فى شبكته التى حاكها لها لتصبح فيما بعد ضحيته"(7).
- أيدت بعض الدراسات الترادف بين تعريفى النصب والاحتيال، إذ ترى أن النصب والاحتيال كوجهى عملة واحدة، مما يدلل على التقارب فيما بينهما، وأوردت الدراسة تعريفاً أكثر انسجاماً لعمليات النصب والاحتيال بأنه "كل فعل يباشره الجانى بنفسه أو بغيره، ويتوصل من خلاله إلى تسليم مال منقول مملوك للغير بدون وجه حق، باستعمال الجانى وسائل الخداع التى نص عليها القانون والتى يقع المجنى عليه نتيجتها فى الغلط الدافع للتسليم"(8).
- فى دراسة أخرى عرفت الاحتيال بأنه "فعل الخداع من المحتال ليحمل المجنى عليه ليسلمه ماله لكى يستولى عليه، وهو ما كان ليقبل بهذا التصرف لو عرف الحقيقة"، أو "الاستيلاء على مال مملوك للغير باستعمال وسائل الخداع التى تؤدى إلى إيقاع المجنى عليه فى الغلط فيقوم بتسليم المال الذى فى حيازته"(9).
- من وجهة نظر الفقه والقضاء، تعرف عمليات النصب بأنها "خداع المجنى عليه وتضليله بحيث يقع فى الخلط فيقدم تحت تأثيره ماله إلى الجانى". كما تنص المادة رقم (336) من قانون العقوبات على: (يعاقب بالحبس كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو سندات مخالصة أو أى متاع منقول وكان ذلك بالاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها إما باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث الأمل بحصول ربح وهمى أو تسديد المبلغ الذى أخذ بطريق الاحتيال أو إيهامهم بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور، وإما بالتصرف فى مال ثابت أو منقول ليس ملكاً له ولا له حق التصرف فيه، وإما باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة"، أما من شرع فى النصب ولم يتممه فيعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة ويجوز جعل الجانى فى حالة العود تحت ملاحظة البوليس مدة سنة على الأقل وسنتين على الأكثر(10).
خصائص عمليات النصب والاحتيال
من خلال التعريفات الواردة لعمليات النصب والاحتيال نستطيع أن نرصد بعض الخصائص التى تتميز بها عمليات النصب والاحتيال وتختلف بها عن غيرها من الجرائم أو الظواهر، وذلك كالآتى:
1- تصنف عمليات النصب والاحتيال ضمن جرائم الأموال العامة.
2- تقوم عمليات النصب على تغيير الحقيقة.
3- عمليات النصب عملية مركبة لكنها مع ذلك عملية مؤقتة، فهى مركبة لأنها تفترض فعلاً ونتيجة وعلاقة سببية تربط بينهما. وهى عملية وقتية لأنها تحقق مكسباً مادياً لا يستغرق زمناً طويلاً.
4- تعد عمليات النصب اعتداءاً على حق الملكية للفرد ولكنها تصيب المجتمع أيضاً، من خلال عدم سيادة حسن النية فى المعاملات.
5- عمليات النصب ذات طابع ذهنى، حيث تقوم على استخدام المحتال حيلاً للإيقاع بالضحية دون استخدام العنف.
6- من العمليات التى تستلزم غالباً التخصص والدراية من قبل المحتال بمجال نشاط ضحاياه، أى يكون دارساً للضحايا وطرق الاحتيال عليهم(11).
ومن ثم، فإن المحتال أو النصاب عادة ما يستخدم ذكاءه ومعرفته بالضحية والكيفية التى يستطيع من خلالها النصب عليها وإيقاعها فى شباكه، وذلك من خلال دراسته للضحايا ومعرفة خصائصهم ومداخلهم المختلفة، فهو يتمتع بقدرٍ عالٍ من الذكاء ويستخدمه بحيل مختلفة للإيقاع بالضحايا.
أساليب مختلفة لـ"المستريح"
تطورت أساليب "المستريح" أو المحتال عبر العصور فى عمليات النصب على الضحايا، وعلى الرغم من تطور هذه الأساليب والطرق الاحتيالية، إلا أن هناك سمات عامة مشتركة بين جميع النصابين يعتمدون عليها فى عمليات النصب والاحتيال على الضحايا من الفئات المختلفة. إذ رصدت بعض الدراسات العديد من الأساليب التى يستخدمها "المستريح" أو المحتال للإيقاع بضحاياه، والتى من أهمها:
1- استخدام الكذب والخداع لإيهام الضحايا: فالكذب هو جوهر الطرق الاحتيالية، بل هو قوام عملية النصب عموماً، فلابد من الكذب أولاً للاحتيال على الضحية وإيهامهم بصدق ما يروج له المحتال.
2- تدعيم الكذب بمظاهر خارجية: وذلك كمحاولة لبناء الثقة لدى الضحية، إذ أن وجود المظاهر الخارجية التى تعزز الكذب وتحمل الغير على الاعتقاد بصحته، هو أمر ضرورى لكى تكتمل لسلوك النصاب مقوماته. فالطرق الاحتيالية لا تتكون من ادعاءات مجردة، وإنما من أفعال معززة بالحجج المقنعة، وقد تكون هذه المظاهر الخارجية سابقة فى زمنها على الكذب أو مصاحبة له أو متأخرة عنه، وكلها حالات للمظاهر الخارجية يستخدمها من خلال الاستعانة بشخص آخر، أو القيام بأفعال مادية.
3- إيهام الضحية والإيقاع بها: يكون من شأن الطرق الاحتيالية إيهام الناس بوجود مشروع كاذب، أو واقعة مزورة، أو إحداث الأمل بحصول ربح وهمى، أو تسديد المبلغ الذى أخذ بطريق الاحتيال، أو إيهامهم بوجود سند دين غير صحيح، أو سند مخالصة مزور، وغيرها من الطرق التى رصدتها الحالات والجرائم(12).
وتدلل حالات النصب والاحتيال من "المستريحين" الذين تم القبض عليهم من قبل الأجهزة الأمنية أنهم استخدموا حيل الذكاء والدهاء ومعرفتهم بظروف الضحايا ودراستهم بالمداخل التى يستطيعوا من خلالها الاحتيال عليهم وإيهامهم بالمكسب السريع واستخدموا فى ذلك وثائق ومظاهر تؤكد كذبهم مثل الاستعانة بأشخاص آخرين يستخدمون نفس الحيل أو يؤكدون ادعاءاتهم بما تحصلوا عليه من أرباح نظير استثمار أموالهم، أو عقود لإيجار محلات أو شركات لبث الثقة فى الضحايا بأن المشروع المزعوم قائم ومكانه موجود، هذا بجانب طمأنة الضحايا بدفع الأرباح ذات العائد المغري بشكل منتظم لمدة تتراوح ما بين شهر وحتى 6 أشهر لجذب المزيد من الضحايا وتجميع ثروة أكبر من الأموال. والحقيقة أن كلا الطرفين- النصاب والضحية- مشتركان فى إتمام عملية النصب والاحتيال على أكمل وجه، وعبر عن ذلك مثل مصرى قديم يقول: "طالما وجد الطماع فإن المحتال بخير".
الخصائص والسمات الشخصية للضحايا
أوضحت العديد من الدراسات أن هناك خصائص وسمات شخصية لضحايا "المستريح"، حيث يختار المحتال الضحية المناسبة بشكل دقيق، والتى يتوافر فيها المنفعة ثم الفرصة المناسبة أى عدم وجود عراقيل أو مخاطر محيطة بالضحية تصعب عليه تحقيق هدفه ثم يقوم بالنصب عليها دون تردد. وتكون الضحية هنا مسئولة عن توفير الفرصة المناسبة للمحتال، وذلك بإهمالها أو عدم أخذها الحيطة والحذر فى الحفاظ على ممتلكاتها(13).
وقد توصل الباحثون إلى العديد من العوامل التى تساهم فى زيادة فرص وقوع بعض الأفراد ضحية للجريمة، فهناك العوامل الكامنة فى شخصية الفرد والتى تجعله غير قادر على الدفاع عن نفسه أو تجعله أكثر انجذاباً واستعداداً لأن يصبح مجنياً عليه، وهناك العوامل الاجتماعية والظروف البيئية المحيطة ببعض الأفراد والتى تساهم فى تهيئة الفرصة لوقوع بعض الأفراد فى عمليات النصب والاحتيال. ومن هذه الخصائص(14):
1- الخصائص الفردية (الديموغرافية): يقصد بها مجموعة العوامل الفردية للضحية والتى تؤثر بدرجة أو بأخرى فى وقوع الضحية في عمليات النصب، فهى تتعلق بالتكوين العضوى للإنسان كالسن، الجنس، الحالة الصحية، والتى من شأنها تهيئة فرصة وقوعه ضحية لعملية النصب والاحتيال، وتتمثل في:
أ- السن: يلعب السن دوراً رئيسياً كأحد العوامل الهامة التى تجعل بعض الأشخاص أكثر عرضة ليكونوا ضحايا للجريمة ويظهر ذلك فى سن الطفولة، وسن الكهولة، فالطفل بحكم ما يعتريه من صفات تتمثل فى تكوينه النفسى والجسدى الضعيف وقلة خبرته وسهولة التأثير عليه وعدم إدراكه لطبيعة ما يقع عليه من اعتداءات وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه، كذلك هو الحال عند المراهقين الذين يتميزون بالاندفاع والتهور وقلة الخبرة الأمر الذى يجعلهم عرضة للاحتيال والنصب على أموالهم، كذلك المسن فهو يوصف بالوهن فى شيبه، وكما يقول بوازا وبيتاتل فإن المسن بقدر عزلته ومدى ثرائه ورغبته فى الإصلاح قد يقع فريسة لأحد الأطباء المزيفين بغرض الشفاء فينصب عليه، كما تقع المرأة المسنة ضحية نصاب شاب يريد أن يتزوج بها بغرض الاستيلاء على أموالها.
ب-الجنس: أثبتت الدراسات أن ارتكاب المرأة للجرائم أقل بكثير من ارتكاب الرجل لها، كما أوضحت أن النساء أكثر عرضة لجرائم النصب والاحتيال مقارنة بالرجال. وقد يرجع ذلك لاختلاف تكوينها الطبيعى والفسيولوجى عن الرجل، كما أنها تتعامل مع الآخر بالعاطفة والحنان الذى يجعلها أكثر عرضة للنصب. كما أثبت شيفر أن النساء المسنات يشكلن أكبر نسبة من مجموع الضحايا المسنين، حيث أن ضعف الشيخوخة يزيدها وهناً، كما أنها غالباً تعانى فى هذا العمر من الوحدة والعزلة التى يستغلها النصاب حتى يحتال عليها.
ج-المرض: يعتبر المريض من أكثر الفئات احتمالاً للوقوع ضحية للجريمة، وذلك لقلة قدرته على إدراك ما يحيط به من خطر، وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه وممتلكاته، ويندرج تحت هذا المفهوم الأمراض الجسدية مثل العاهات، والشلل، والعمى، والصمم، وكذلك الاضطرابات العقلية والاكتئاب، والوسواس القهرى، وكلها تضعف من قوة الإدراك لديه، ولا شك أن هؤلاء يصدق عليهم وصف "الضحايا المحتملين" أو الذين لديهم استعداد خاص للوقوع ضحايا لعدة جرائم منها النصب والاحتيال.
2-الخصائص الاجتماعية: وهى مجموعة الظروف الاجتماعية التى تحيط بالوسط الخارجى للفرد، ويكون من شأنها أن تزيد من فرص وقوع الأفراد ضحايا لعمليات النصب والاحتيال، ومنها:
أ- المهنة: أكدت أبحاث علم الضحايا أن بعض المهن تلعب دوراً هاماً فى منشأ الحدث الإجرامى، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، نظراً لطبيعة بعض المهن وما تثيره من عوامل جذب للمجرم، فالصيارفة ورجال البنوك يكونوا أكثر عرضة للوقوع ضحايا جريمة النصب والاحتيال وذلك للاستيلاء على ما بحوزتهم من أموال، كما أن التاجر الثرى كثيراً ما يقع ضحية ويظهر ذلك فى مهنة رجال الأعمال خاصة الذين يمارسون نشاطات غير مشروعة رغبة فى الربح السريع، فقد يقعون ضحايا لعمليات النصب التى يرتكبها محترفو النصب من خلال الدخول معهم فى صفقات وهمية توهم الضحية بالربح الوفير والسريع فيتم الاحتيال عليهم.
ب- أسلوب الحياة: إن أسلوب حياة الفرد يلعب دوراً هاماً فى وقوعه ضحية لعمليات النصب، حيث أثبتت بعض الدراسات أن ضعف النسق القرابى بين الأفراد فى العلاقات الأسرية قد يجعلهم عرضة للنصب والاحتيال عليهم، كما أن الفرد الذى يعيش فى عزلة وانطواء هو معرض أكثر من غيره للوقوع ضحية النصب، فالفرد المنعزل يفقد الحماية التى توفرها له المعيشة مع الآخرين، كما قد يكون أسلوب حياة الفرد مشبوهاً ببعض السلوكيات المرتبطة بطريقة معيشته مثل السذاجة والبلاهة أو عدم التركيز أو عدم الحرص على ممتلكاته أو التباهى والمفاخرة أو التبذير من أجل الاستهلاك المظهرى الذى يجذب المحتال للاستحواذ على ما يملكه الضحية، كذلك البخل والجشع والطمع الذى يفقد صاحبه القدرة على التمييز بين الأمور فتعمى بصيرته عن المخاطر وتقل لديه الحيطة والحذر وكلها تمثل عناصر جذب النصاب حتى يحتال عليه.
3- دور الضحية في حدوث عمليات النصب والاحتيال: تعتبر الضحية هى أحد أركان الفعل الإجرامى، لذا فإن الجريمة فى كثير من الأحيان لا تخلو من دور تلعبه الضحية فى حدوثها، وتلعب الضحية دوراً فى ارتكاب جريمة النصب عليها، لذلك تعتبر عملية فهم سلوك الضحية والدور الذى تلعبه فى تهيئة الفرصة للمحتال عاملاً مهماً يساعد الأجهزة الأمنية على اتخاذ التدابير والوسائل الوقائية المناسبة لمواجهة الجريمة والحيلولة دون وقوعها.
4- دور الضحية فى بث فكرة الجريمة لدى الجانى: تشير الدراسات إلى أن الضحية قد يقوم بتصرفات تجعل الجريمة فى نظر مرتكبها غير مستنكرة، فيقل المانع من الجريمة فى نفس الجانى، وهى فكرة لا تنشأ من فراغ بل هى نتيجة إيحاءات ومؤثرات خارجية تتكاثف، ولعل أهم هذه المؤثرات ما يتعلق بشخصية الضحية وما تنطوى عليه من سمات تجعلها قابلة للوقوع ضحية للجريمة، كالضحية التى تتباهى بممتلكاتها أمام الآخرين، فهى بطريقة غير مباشرة تخلق فكرة الجريمة لدى النصاب حتى يحتال عليها.
5- دور الضحية فى توفير الفرصة المناسبة: تساعد الضحية فى كثير من الأحيان فى توفير الفرصة الملائمة للمحتال حتى يقوم بالنصب والاحتيال عليها، وذلك من خلال التقصير أو الإهمال واللامبالاة وعدم الحفاظ على الممتلكات أو التسرع فى أخد القرارات مما يتيح الفرصة أمام كل من لديه استعداد إجرامى للتفكير في الاستيلاء على هذه الممتلكات. والنصاب يختار ضحيته من خلال ضعفها واحتياجها لشىء ما، فعلى سبيل المثال حاجة الضحايا للمكسب والثراء السريع تمثل فرصة مناسبة للنصاب حتى يحتال عليهم ويسلب أموالهم، كما أن غياب مصدر الحماية يلعب دوراً هاماً فى وقوع الجريمة علي بعض الأفراد، الأمر الذى يسهل عملية النصب، فقد برهنت العديد من الدراسات أن معظم النصابين يفضلون ممارسة عمليات النصب فى المكان الذى يفتقر إلى الحماية.
6-دور الضحية فى حدوث الجرائم المستترة: وهى الجرائم الخفية التى لا يتم الإبلاغ عنها ولا تصل إلى الشرطة، نظراً لأسباب عديدة منها عدم رغبة الضحية فى المثول أمام الشرطة والمحاكم، أو لحساسية الجريمة وتعلقها بشرف العائلة، أو لعدم وجود وقت كافٍ لدى الضحية لمتابعة القضية، أو قناعة الضحية بأنه حتى لو تم إبلاغ الشرطة عن الجريمة التى حدثت له فإنها لا تتخذ الإجراءات اللازمة والكفيلة لاسترجاع حقوقها والقبض على المجرم.
7- السمات الشخصية للضحايا:
أ-الإهمال واللامبالاة: يعتبر إهمال الضحية أو عدم الاكتراث وعدم المبالاة بأخذ الاحتياطات الأمنية الضرورية فى الحفاظ على الممتلكات أو الأموال من أسباب جذب وإغراء النصاب، حيث تقل لديه قوة المانع من ارتكاب عملية النصب.
ب- الطمع والجشع: طمع الضحية وجشعها كثيراً ما يشجعان النصاب على ممارسة عمليات النصب، حيث يقوم النصاب بإيهام الضحية بالربح الوفير، فتسلمه مالها طمعاً فى الربح السريع بأقل تكلفة دون عناء أو مشقة، والنماذج على ذلك كثيرة ومن أبرزها شركات توظيف الأموال، و"المستريحين" الذين ظهروا فى كثير من المحافظات بطرق وحيل مختلفة.
ج- البخل والتبذير: إن البخل يجذب نظر المحتال إلى ما يدخر من أموال، كذلك هو الحال فى التبذير والتباهى والمفاخرة بالممتلكات والأموال من أجل الاستهلاك المظهرى، على نحو يغري ويجذب نظر وتفكير المحتال للاستحواذ عليها.
د-الأمية والجهل: أثبتت الدراسات أن وقوع الأميين ضحايا لعمليات النصب والاحتيال يفوق أضعاف عدد المتعلمين، فالأميون يشكلون ضحايا مناسبة للنصب والاحتيال عليهم نظراً لجهلهم وسذاجتهم وعدم إدراكهم للأمور(15).
ختامًا، يمكن القول إن ظاهرة "المستريح" ليست حديثة على المجتمع المصرى، وإنما ظهرت عبر العديد من العصور والفترات ولكن بطرق وحيل خداعية مختلفة تتميز بتوافقها مع المتغيرات والمستجدات المرتبطة بكل فترة زمنية، فهى ظاهرة متغيرة ومتجددة تعتمد على ذكاء ودهاء النصاب والمحتال فى اختيار الحيلة التى تناسب المجتمع المحلى وخصائص الأفراد به، كما تعتمد أيضاً على الضحايا وخصائصهم المختلفة ودورهم فى إتاحة الفرص المناسبة لاكتمال عمليات النصب والاحتيال عليهم وعلى أموالهم.
لذا، فإن الحاجة تبدو ماسة لمواصلة توعية كافة أطياف وفئات المجتمع بتحرى الدقة إزاء هذا النمط من التعاملات المالية، وذلك من خلال أجهزة الإعلام المختلفة التقليدية والحديثة وعبر شبكات التواصل الاجتماعى، بالتوازي مع الجهود الحثيثة التي تبذلها الأجهزة الأمنية والتشريعية لتجنب تكرار واستمرار هذه الظاهرة.
المراجع
1- محمد قدرى حسن، جرائم الاحتيال الإلكترونى، مجلة الفكر الشرطى، مركز بحوث شرطة الشارقة، المجلد 20، العدد 79، أكتوبر 2011، ص 56.
2- هند فؤاد السيد، جرائم الائتمان والأوراق المالية، منشور فى بحث "تطور الظاهرة الإجرامية فى مصر من منظور ضحايا الجريمة 2011- 2018، القاهرة، المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، 2020، ص ص 259: 269.
3- مجلة الخليج، ظاهرة المستريحين... تعرف إلى أشهر قضايا الاحتيال فى مصر، مايو، 2022. الرابط: https://www.alkhaleej.ae
4- المرجع السابق.
5- عطية نبيل، النصب والاحتيال: ما هى ظاهرة "المستريح" ولماذا تنتشر فى مصر؟، بي بي سي، 18 مايو، 2022، الرابط:
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-6148710
6- هند فؤاد السيد، جرائم الائتمان والأوراق المالية، منشور فى بحث "تطور الظاهرة الإجرامية فى مصر من منظور ضحايا الجريمة 2011- 2018، مرجع سابق، ص 286.
7- على محمد حسنين حماد، الأساليب العدلية لمكافحة جرائم الاحتيال، ضمن أعمال الندوة العلمية "تكامل جهود الأجهزة الأمنية فى مكافحة جرائم الاحتيال"، الرياض، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، من 25- 29 نوفمبر2006، ص 7.
8- مهند محمد منصور البطوش، الآثار الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على جرائم الاحتيال والشيك بدون رصيد فى المجتمع الأردنى من وجهة نظر المحكومين فى مراكز الإصلاح والتأهيل، مجلة التربية، العدد (188)، الجزء الثانى، أكتوبر 2020، القاهرة، ص 415.
9- خالد عثمان الريدى، جريمة النصب تعريفها وأركانها وعقوبتها والشروع فيها،المنصة القانونية، القاهرة، 2021، تاريخ الزيارة 16 يونيو2022، الرابط: https://egyls.com/ /
10- على محمد حسنين حماد، مرجع سابق، ص 9.
11- المرجع السابق، ص ص 14- 17.
12- مهند محمد منصور البطوش، مرجع سابق، ص ص 434- 435.
13- انظر:
- أحمد عبد اللطيف الفقى، وقاية الإنسان من الوقوع ضحية للجريمة، القاهرة، دار الفجر للنشر والتوزيع، 2003، ط1، ص ص 13- 22.
- محمد كريم فريحة، جهيدة لموشى، دور الضحية فى حدوث جريمة النصب والاحتيال: مقاربة سوسيولوجية، مرجع سابق، ص ص 258- 260.
- وجدى محمد بركات، دور الشرطة فى رعاية ضحايا الجريمة، الأكاديمية الملكية للشرطة، مركز البحوث الأمنية، البحرين، 2008.
14- محمد كريم فريحة، مرجع سابق، ص 262.
15- انظر:
- عطية نبيل، مرجع سابق.
- كيف يقع كثيرون ضحية لوهم الثراء السريع واحتيال "المستريح"؟، القاهرة، الرابط:
https://www.dw.com/ar/a-61903517