أحد الاتجاهات الرئيسية التى يمكن رصدها فى التفاعلات التى شهدتها المنطقة العربية خلال الفترة القليلة الماضية، يتمثل فى تزايد الزيارات التى قام بها رؤساء وملوك وأمراء وأولياء عهود ورؤساء حكومات من دول عربية إلى مصر، وهو ما برز فى زيارة كل من ملك البحرين حمد بن عيسى، وملك الأردن عبدالله بن الحسين، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد، وولى عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان، ورئيس مجلس القيادة الرئاسى اليمنى رشاد العليمى إلى القاهرة، الأمر الذى يثير التساؤل بشأن أسباب ذلك، وتوقيت تزامنية أو تراتبية تلك الزيارات، وإجراء مباحثات مع القيادة السياسية المصرية وتوقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع وزراء بالحكومة المصرية.
يتعلق العامل الأول بمحورية دور مصر فى الدفاع عن القضايا العربية، إذ تشير تحركات السياسة الخارجية المصرية خلال فترة حكم الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى تعاظم تأثير مصر فى عدد من الملفات العربية، ومنها تهدئة منسوب الأزمة فى ليبيا، وحوار الفصائل الفلسطينية، والتهدئة بين الفصائل الفلسطينية وخاصة حماس مع إسرائيل، وتوجيه مساعدات إغاثية للبنان واليمن، ودعم أمن الملاحة فى الممرات الدولية كمضيق باب المندب، والتصدى لخطر الإرهاب العابر للحدود، والعمل على إعادة إعمار الدول العربية المأزومة أو المنهارة فيما يُعرف بدبلوماسية البنية التحتية، فضلاً عن العمل على تنقية الأجواء العربية ودعم العمل العربى المشترك قبل انعقاد القمة العربية المقبلة فى الجزائر بحلول نوفمبر 2022. ولذلك، تزامنت زيارات القيادات العربية إلى مصر مع قيام الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط بزيارة الجزائر للترتيب المسبق لتلك القمة. كما أعقبتها زيارتا الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى كل من سلطنة عمان والبحرين ، ويمكن الإشارة فى هذا الصدد إلى إشادة ملك البحرين حمد بن عيسى وولى عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان خلال زيارتهما الأخيرة لمصر بـ«دور مصر المحورى والراسخ كركيزة أساسية للأمن والاستقرار فى المنطقة، وتكثيف وتيرة التنسيق المشترك تجاه التطورات التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وتعزيز وحدة الصف والعمل العربى المشترك فى مواجهة مختلف التحديات الإقليمية والدولية». كما أن القمم المصرية-الإماراتية فى فترات مختلفة من عام 2022 عكست أيضاً العمل على تطوير منظومة العمل العربى المشترك، بما يساعد على حماية الأمن القومى العربى وتعزيز القدرات العربية على التصدى للتحديات التى تواجه المنطقة والتهديدات المتزايدة للأمن الإقليمى.
فى حين يتصل العامل الثانى بتزايد تأثير المصالح الاقتصادية فى العلاقات العربية البينية، حيث تعد المشروعات المتعلقة بالاقتصاد بمثابة القاطرة التى تعزز العلاقات بين الدول العربية، فيما تطلق عليه بعض الأدبيات بـ«العروبة الجديدة»، إذ بدأت تظهر مداخل جديدة يمكن البناء عليها لتعزيز العلاقات العربية-العربية مثل دبلوماسية «المياه» و«الغاز» و«الكهرباء» لاسيما فى ظل مصالح مشتركة بين تلك الدول. فقد برزت ملامح لتعاون بينى عربى فى القضايا المتصلة بإدارة المياه، بين مصر والعراق، والعراق وسوريا. كما تصاعد تأثير الغاز فى تعزيز المصالح المشتركة بين الدول العربية، وهو ما عكسه إيصال الغاز المصرى إلى لبنان عبر الأراضى السورية والأردنية، والحد من نقص الطاقة فى لبنان. فضلاً عن إعادة إدماج سوريا فى المنظومة العربية، بعد إعلان الحكومة العراقية اعتزامها استيراد الغاز الطبيعى من سوريا.
على جانب آخر، تم التوقيع على عقود تنفيذ مشروعات الربط الكهربائى بين عدد من الدول العربية، بما يشير إليه رفع قدرة الربط الكهربائى بين مصر والسودان، والحد من نقص إمدادات الكهرباء وهو ما تعانيه لبنان، ومساعدة النظام السورى على التعافى بعد أكثر من عقد من الحرب بما يؤدى إلى تعزيز روابطه مع الدول العربية، ومنع احتكار بعض دول الجوار تصدير الكهرباء لدول عربية على نحو ينطبق على العراق فى تنويع مصادر الطاقة بدلاً من الاعتماد بشكل منفرد على إيران. وكذلك الشراكة الصناعية بين مصر والإمارات والأردن، والشراكة الاقتصادية بين مصر والأردن والعراق. علاوة على جاذبية البيئة الاقتصادية المصرية لاستقبال الاستثمارات العربية، إذ تمخض عن زيارة ولى العهد السعودى وأمير قطر إلى مصر التوقيع على اتفاقيات واستثمارات فى مجالات مختلفة، ومنها الزراعة والطاقة. أما العامل الثالث فيخص خيار التهدئة فى التفاعلات البينية الإقليمية، إذ تشهد السياسة الخارجية لعدد من دول الإقليم، استدارة ملحوظة نحو تعزيز التقارب مع دول كانت ولا تزال تمثل خصوماً لها، فوق جغرافيا متحركة، على نحو ما عبرت عنه مؤشرات مختلفة منها اتصالات وزيارات ومحادثات بين وفود رسمية، معلنة وغير معلنة، فى توقيتات متزامنة، وتشكيل لجان للمتابعة، للنقاش بشأن القضايا العالقة أو المسائل الخلافية فى العلاقات الثنائية أو التحديات الضاغطة على الأمن الوطنى والأمن الإقليمى، بل تم التوقيع على اتفاقيات اقتصادية، وتجاوز «المقاربات الصفرية» الأمر الذى يشير إلى مقاربة مختلفة قد تؤدى إلى أوضاع استراتيجية جديدة فى الشرق الأوسط مستقبلاً. ويمكن القول إن هناك مجموعة العوامل المفسرة لتزايد التوجه نحو التهدئة وخفض التصعيد بين القوى الإقليمية فى الشرق الأوسط، ومنها: التأثيرات المتصاعدة للصراعات الداخلية العربية، التى تحمل أبعاداً إقليمية واضحة. فالصراعات التى تشهدها كل من ليبيا واليمن ليست بين أطراف محلية، وهو ما يفسر أن تهدئتها أو تسويتها مرهونة فى المقام الأول بتوافقات إقليمية، لاسيما أنه لم يستطع أى طرف حسم الصراع لصالحه على مدى السنوات الماضية. وبناءً عليه، لا يتوقع تهدئة الصراع اليمنى إلا عبر توافق سعودي-إيرانى، كما أنه لا يمكن تهدئة الصراع الليبى إلا بتوافق مصري-تركى، وكذلك تجاوز الاستقطابات الحادة بين المحاور الإقليمية، الذى أسهم فى المزيد من عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط. علاوة على حل القضايا العالقة بين الأطراف العربية والقوى الشرق أوسطية، والتى تعكسها الحوارات غير الرسمية والمحادثات الاستكشافية المعلنة.
ويرتبط العامل الرابع باحتواء ضغوط القوى الدولية، حيث أجريت تلك الزيارات إلى مصر فى وقت يستعد الرئيس الأمريكى جو بايدن للقيام بجولة شرق أوسطية تشمل إسرائيل والضفة الغربية والسعودية فى منتصف يوليو المقبل، بحيث تعمل دول المنطقة على تعزيز التفاهمات فيما بينها بما يكون رأياً توافقياً إزاء توجهات واشنطن، التى يسود تصور لدى بعض دول الإقليم بأنها «حليف غير مستقر» لا يمكن الاعتماد عليه فى تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمى، على نحو ما بدا جلياً فى مؤشرات مثل رفع المليشيا الحوثية من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. وقد أدار عدد من الدول العربية علاقاتهم بواشنطن بواقعية خلال أزمة روسيا وأوكرانيا، وتطورها إلى حرب بعد ذلك. وهنا، تعمل الدول العربية على وضع تصورات استباقية لما يمكن أن تطرحه على بايدن فيما يخص تشكيل تحالف دفاعى إقليمى وتسوية بعض الأزمات الممتدة مثل حرب اليمن والحد من انعكاسات الحرب الروسية-الأوكرانية.
هذه العوامل الأربعة المجتمعة تفسر إلى حد كبير الحراك العربى الكثيف إلى القاهرة فى الأيام الماضية.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 6 يوليو 2022.