فى ظل الحراك الإقليمى الجارى حالياً لتجنيب المنطقة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، تتعدد الطروحات وتتكامل فيما بينها فى سبيل مد مظلة التسويات الإقليمية إلى الساحة العربية وفى القلب منها لبنان. لا شك أن سنوات الاستقطاب الإقليمى قد انعكست سلبياً على الساحة اللبنانية وأدت إلى تسريع وتيرة الانهيار الاقتصادى الذى شهده خلال السنوات الثلاث الماضية. وفى المقابل ينتظر من أى مرحلة تسويات قادمة أن تُجنِب لبنان مزيداً من الانزلاق نحو المجهول. يقف لبنان اليوم على حافة دقيقة من الاستحقاقات الدستورية المهمة، إذ تم انجاز الشق الأول منها، متمثلاً فى الانتخابات البرلمانية التى أسفرت عن تفتيت القوى السياسية التقليدية وأوصلت كتلة نوعية جديدة إلى البرلمان، مما صعب بالتالى من عملية المساومات السياسية التى تعود اللبنانيون طوال عقود على انجازها، وبات حتمياً اختراع وسائل أخرى للوصول إلى القرارات الرئيسية عبر التصويت الديمقراطى وليس مجرد التوافق الطائفى. فيما يتبقى الشق الثانى منها عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل أكتوبر القادم، كى يكتمل تعداد المؤسسات الدستورية ويشرع لبنان فى إطلاق ورشة إصلاحات هيكلية تستهدف انقاذ اقتصاده وإعادته إلى مصاف الدول المستقرة فى المنطقة.
لكن بين هذين الاستحقاقين الانتخابيين الكبيرين، يتحتم اليوم على لبنان تشكيل حكومة خبراء تستطيع أن تتخذ قرارات اقتصادية حاسمة تساعد فى تقليل آثار الأزمة الراهنة، وأيضا تُجنِب لبنان آثار أزمة الوقود والغذاء العالمية التى تسببت بها الحرب الروسية الأوكرانية. يستعد رئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتى للتشاور مع مختلف الكتل البرلمانية للوصول إلى صيغة مرُضية لأغلب الأطراف، فيما يبدو وكأنها مهمة شبه مستحيلة ولكنها ضرورية لإضفاء صفة الاستقرار المؤسسى على البلاد قبل الشروع فى تنفيذ الاتفاق المبدئى مع صندوق النقد الدولى الذى أُبرم فى أبريل الماضى. وإذ يشترط الاتفاق الشروع فى عمل إصلاحات جوهرية فى البنية التحتية الخدمية والاقتصادية، يأتى دور المحيط العربى لتعزيز الاستقرار فى لبنان بما يفضى إلى تنفيذ هذا الاتفاق دون تأخير.
يبرز هنا دور مصر بشكل خاص فى هذا الإطار عبر الاتفاق الرباعى لتصدير الغاز المصرى إلى لبنان مروراً بالأردن وسوريا. وينطوى هذا التفاهم الإقليمى على عدة اتفاقات، الأول هو مد خط الغاز العربى من مصر إلى لبنان كى تتمكن معامل توليد الكهرباء اللبنانية من العمل، والاتفاق الثانى ينص على تصدير الكهرباء الأردنية مباشرة إلى لبنان، بما يعزز من توفير الكهرباء العامة فى لبنان لساعات أطول. بينما يبرز الضلع الثالث لهذه الاتفاقات عبر التغاضى الأمريكى عن توقيع أى عقوبات على هذه الاتفاقات وفق «قانون قيصر» الذى يُجرم التعامل المالى مع سوريا، نظراً لأن الغاز والكهرباء سيمران حتما من مصر والأردن إلى لبنان عبر سوريا. ولعل فى ذلك اتفاقا إقليميا ضمنيا على تجنيب لبنان تداعيات تجميد مشهد الصراع السورى، فيكفى ما يعانيه لبنان أصلاً من تدهور اقتصادى وتضرر مباشر من ارتفاع أسعار الوقود والغذاء العالمية منذ بدء الحرب فى أوكرانيا فى فبراير الماضى. فعلى عكس التشدد الأمريكى والأوروبى عموما مع خطط إعادة الاعمار فى سوريا واشتراط ربطها حصراً بتحقيق تقدم على صعيد العملية السياسية أولاً، فإن الغرب يبدى تفهماً للمقاربة الإقليمية لاحتضان لبنان عربياً. إذ تستدعى هذه المقاربة البحث فى تقديم الحلول الجذرية لأزمة لبنان الاقتصادية، وفى القلب منها أزمة الكهرباء والطاقة. إذ عادةً ما تلتهم كُـلفة توليد الكهرباء من الوقود قسما كبيرا من الموازنة السنوية اللبنانية، وهو ما يعنى أن تمويل هذا المشروع عبر قرض من البنك الدولى خلال السنوات العشر القادمة سيؤدى إلى تخفيف استنزاف الوقود للموازنة اللبنانية، وربما يفتح المجال مستقبلاً لعقد اتفاقات أخرى تدمج لبنان أكثر فأكثر فى شبكة الكهرباء العربية المنطلقة من مصر أو البحث فى توليد الطاقة النظيفة من ألواح الطاقة الشمسية أو ما شابه. ولكن الأهم أن ربط الاحتياجات اللبنانية الأساسية كالكهرباء يعزز من التكامل العربى، ويضمن عدم التلويح من حين لآخر بانتزاع لبنان من محيطه العربى. يتكامل مع هذه الاتفاقات، اتفاق آخر تمكنت الشركات المصرية من إبرامه مع لبنان وهو عقد تطوير مرفأ طرابلس فى أكتوبر الماضى بتمويل من بنك التنمية الاسلامى خلال ثلاث سنوات. إذ ينتظر أن يكون مرفأ طرابلس رئة أخرى فى الشمال يتعامل بها لبنان مع العالم إلى جانب مرفأ بيروت، خاصة أن المشروع يشمل تطوير الميناء ومبنى التحكم والإدارة وشبكة من الطرق الداخلية وسككا حديدية وشبكات مياه وصرف صحى ومخازن متنوعة. وفى ذلك أيضا تطبيق للمنطق المصرى الذى يربط لبنان بحاضنته العربية عبر مشروعات البنية التحتية وإعادة الإعمار والإصلاح الهيكلى، والتى تُسهِل فيما بعد من إطلاق عملية الإصلاح الهيكلى فى لبنان.
إلى جانب دعم مشروعات القوة الناعمة وتحفيز إصلاحات البنية التحتية، لابد أن يتواصل الدعم العربى المباشر لمؤسسات لبنان الوطنية لدعم انتقاله بشكل سلس من الرئاسة الحالية إلى عهد الرئاسة الجديدة. وفى ذلك، دعم حتمى للمؤسسة العسكرية والقوى الأمنية ومؤسسة القضاء، لضمان تطويق أى انفلات أمنى حال وقوعه ومنع تفاقمه إلى فوضى شاملة. إلى جانب ذلك يتطلب الأمر دعم مطالب لبنان العادلة فى حقول الغاز المتنازع عليها فى شرق المتوسط، وصولاً إلى ترسيم ناجح للحدود البحرية مع إسرائيل – بوساطة أمريكية حالياً وربما مصرية أيضاً فيما بعد- منعاً لتسخين الساحة اللبنانية لحساب مصالح ضيقة وخاصة مصالح إيران التى تسعى عادة لتنفيس تعثر ملف تفاوضها النووى مع الغرب فى الساحة اللبنانية. بما يعنى أن الجهد العربى المطلوب فى هذا الإطار، وخاصة من جانب مصر، أن يتم تحصين الساحة اللبنانية من أى تصعيد إقليمى، بل على العكس لابد من مد مظلة التسويات الإقليمية الراهنة إلى لبنان كى يؤدى ذلك إلى انتقال سلس للسلطة، يمكن معه مباشرة ورشة الإصلاحات الهيكلية التى من المنتظر أن تضع لبنان على طريق التعافى الاقتصادى وتعزيز السلم الأهلى به بعد عدة سنوات متتالية من التأزم الاقتصادى والاهتزاز الاجتماعى وعدم اليقين السياسى.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 6 يوليو 2022.