أفضت تظاهرات حراك الأول من يوليو فى ليبيا إلى اعتصام مفتوح فى ساحة الشهداء فى قلب العاصمة طرابلس، بعد أن قرر قادة الاحتجاج في تيار "بالتريس" نصب خيام فى الساحة حتى يتم تحقيق مطالبهم، على خلفية تعثر المفاوضات بينهم وبين المجلس الرئاسي الذي دعوه قبل يوم واحد من هذا اللقاء إلى تولي مقاليد الأمور فى البلاد وتنحية كافة الأجسام السياسية الأخرى شريطة وضع تصور للانتخابات فى أقرب وقت ممكن، وإنهاء الوجود الأجنبي فى البلاد، وتقويض سيطرة الفصائل المسلحة والمليشيات على الموارد وهيمنتها على مفاصل السلطة فى العاصمة، إضافة إلى توفير الخدمات المعيشية، لا سيما الكهرباء التي تشهد انقطاعاً فى أجواء الصيف الحار، كإحدى تداعيات توقف العمل بقطاع النفط، وتوفير رغيف الخبز الذي ارتفع سعره جراء السياسات الاقتصادية.
وفقاً لهذا التطور، فإن الهدوء لم يعد إلى العاصمة طرابلس التي تمثل نقطة انطلاق احتجاجات "جمعة العضب"، وسط ترقب لتطور الأمور فى العاصمة، في ظل احتمالات صعوبة السيطرة على الأوضاع هناك. ففي اليوم التالي، استمر قطع بعض الطرق الرئيسية بالعاصمة، والتجمهر أمام معسكر لمرتزقة سوريين، بينما عاد الهدوء إلى مناطق الشرق الليبي، بعد انتشار قوات الأمن، وإصدار القيادة العامة لبيان مؤيد للاحتجاجات شرط سلميتها.
وبشكل نسبي أيضاً، عاد الهدوء إلى بعض مناطق الجنوب، لكن وفقاً للتقارير المحلية، هناك اتجاه لاعتصام في مدينة سبها، وذلك بعد حالة الفوضى غير المسبوقة منذ سنوات، تشهدها تلك المناطق حيث جرى إحراق واقتحام مقر البرلمان فى طبرق، بالإضافة إلى إضرام النيران في مقار مجالس البلديات فى العديد من المدن مثل الزاوية ومصراته والبيضاء وسبها، وكذلك أحرقت بعض مقرات السجل المدني في العديد من تلك المدن.
دوافع رئيسية
فى الواقع، فإن مطالب المحتجين كاشفة عن الدوافع التي قادت إلى هذه الاحتجاجات، ومنها:
1- انهيار الثقة فى العملية السياسية: انتهت المرحلة الانتقالية في ليبيا في 22 يونيو المنقضي، مُخلِّفة ورائها قائمة طويلة من الفشل، إذ لم يفشل الساسة الليبيون فقط فى إنجاز العملية الانتخابية التي كانت مقررة قبل نحو 6 أشهر من هذا التاريخ، وإنما أعادوا إنتاج الانقسام السياسي، ما بين شرق البلاد وغربها، بل وظهرت مؤشرات لانقسام جهوي جديد فى الجنوب مؤخراً يدعو لتأسيس حكومة ثالثة فى البلاد. وعلى الرغم من انتهاء المرحلة الانتقالية على هذا النحو، إلا أن العملية السياسية لم تنته، حيث واصلت البعثة الأممية رعاية مفاوضات فى جنيف لإنقاذ تلك العملية عبر التوصل إلى تفاهمات حول النقاط التي بقيت عالقة فى القاعدة الدستورية من الجولة الثالثة فى القاهرة، ما بين مجلسى النواب والدولة، إلا أنها هى الأخرى أبقت بعض النقاط دون حسم، فيما يتعلق بانتخاب رئيس الدولة، والاتفاق على تسويتها فى جلسة مشتركة بين المجلسين بعد عيد الأضحى.
لكن على ما يبدو، فإن مخرجات لقاء جنيف على هذا النحو لم تتمكن من استعادة الثقة فى العملية السياسية، وبدا أن هناك مساراً طويلاً ومعقداً وغير مضمون النتائج فى نهاية المطاف لحسم الخلاف السياسي على واحدة من مفردات العملية السياسية وهي القاعدة الدستورية، فى حين أن المشهد السياسي الممزق ما بين سرت وطرابلس، كاشف هو الآخر عن صعوبة الالتزام بأية مقررات سياسية، الأمر الذي تؤكد عليه تفاصيل المشهد السياسي العام ومنها: رهان الحكومة المكلفة من البرلمان على تسلم السلطة بشكل فعلي، وتوفير الموارد للموازنة اللازمة لبرنامجها، وهي موازنة سنوية، ما يعني أن الحكومة لديها برنامج عمل طبيعي وليس برنامجاً قصير الأجل، يقود إلى انتخابات. وفى المقابل حكومة الدبيبة المنتهية الولاية تتمسك بالبقاء فى السلطة لحين إجراء الانتخابات التي تتوقع أنها لن تجرى فى ظل هذه الأوضاع.
وزاد من حالة انعدم الثقة فى النخبة والأجسام السياسية، تزايد حدة الاستقطابات، فقد قرر عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة المنتهية ولايتها إقالة مصطفى صنع الله رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، والذي يبدو أنه تقارب مع حكومة سرت. وفى المقابل أقال البرلمان الصديق الكبير رئيس المصرف المركزي فى طرابلس وعين رئيس مصرف بنغازي على الحبري قائماً بالأعمال، وهي قرارات ربما لم تنفذ لكنها تؤكد على طبيعة الفشل فى المشهد السياسي الليبي.
2- تردي الأوضاع المعيشية: فى ظل معركة التنافس على السلطة والانقسام السياسي، أصبحت الموارد الرئيسية للدخل فى البلاد، وهي النفط، ورقة للضغط والمساومة السياسية بين تلك الأطراف، حيث أدى توقف توريد مشتقات النفط إلى توقف محطات توليد الكهرباء، ما أسفر عن انقطاع التيار لفترات طويلة، وبالتبعية تعطلت الخدمات الأخرى، لتصبح العديد من المواقع الخدمية فى حالة شلل تام. وتبادلت المؤسسة الوطنية للنفط ووزارة النفط التابعة لحكومة الدبيبة الاتهامات بالمسئولية عن الأزمة، على خلفية تجدد الخلافات الشخصية ما بين محمد عون وزير النفط ومصطفى صنع الله رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، وبالتالي أصبحت الأزمة رهن خلافات شخصية شأنها شأن بقية ملفات الأزمة الأخرى، دون النظر فى المصالح العامة للشعب الليبي الذي يتحمل كلفة هذه الخلافات.
وقد زاد من حدة تردي أزمات المعيشة عدم القدرة على توفير رغيف الخبز، فى ظل عدم وجود احتياطي كافي للدقيق، بسبب الحرب الروسية فى أوكرانيا، وبالتبعية ارتفعت أسعاره إلى مستوى قياسي غير مسبوق (300 دينار أي ما يقارب 90 دولاراً للجوال الواحد)، وبينما تقول حكومة الوحدة أنها تعمل على توفير البدائل وضبط الأسواق، إلا أنه من الواضح أن تلك التصريحات كانت دعائية وغير واقعية، وربما تعود أيضاً لغياب السيولة أو الاعتمادات المالية، فى ظل التخبط الإداري جراء الانقسام والصراع السياسي. وإجمالاً تعيد هذه الأجواء إلى الأذهان سوء الأوضاع فى ليبيا خلال الحرب على طرابلس، بل ربما أسوا منها.
3- استمرار وتنامي التدخل الأجنبي: اعتبر المحتجون أن استمرار وتنامي التدخل الأجنبي يعد استمراراً لانتقاص السيادة الوطنية، فقبل أسبوع من اندلاع المظاهرات، كانت تركيا قد جددت للمرة الثانية مدة بقاء قواتها العسكرية فى ليبيا لثمانية عشرة شهراً أخرى. وعلى وقع صعوبة التوافق السياسي أيضاً دعا السفير الأمريكي ريتشارد نورلاند إلى إجراء الانتخابات فى ظل الانقسام السياسي، وبقاء الحكومتين، بالإضافة إلى قيام الولايات المتحدة بالإعلان عن خطة لإدارة الوضع الاقتصادي، مع تجميد عوائد النفط الليبي فى حساب المصرف الخارجي، وهي الآلية التي تعني تدويل إدارة العملية الاقتصادية فى البلاد.
ويسلط الكثير من الليبيين الضوء على دوافع التدخل الأجنبي فى البلاد، والتي تتمثل فى مصالح تلك الدول بغض النظر عن المصالح الليبية، حيث تدعو القوى الدولية إلى استئناف تشغيل النفط لسد الفجوة النفطية التي تسببت فيها الحرب الروسية في أوكرانيا. كما ينظر الكثير من الليبيين إلى أن الدعوات إلى الانتخابات الليبية من جانب القوى الدولية ليست دعوات بريئة أيضاً، وإنما تهدف إلى إنتاج سلطة موحدة يمكن التعامل معها لتحقيق مصالحها فى المقام الأول، وبالتالي تتدخل فى تفاصيل العملية السياسية لتحقيق هذا الهدف.
طبيعة الحراك ودلالاته
دعت حركة "بالتريس" إلى إطلاق تظاهرات جمعة الغضب بشكل منظم، وكانت مطالبها - السالف الإشارة إليها- واضحة ومحددة، وهي حركة موجودة على الساحة الليبية منذ فترة طويلة، تعلن عن نفسها كحركة وطنية خدمية، وحركة شبابية، على اعتبار أن تلك الفئة هي الشريحة الغالبة فى البلاد، والتي تقدر بأكثر من 40% من نسبة السكان، وهي الأكثر تضرراً من تلك السياسات، حيث يتم تجاهلها وتهيمش دورها، على الرغم من أنها الأكثر قدرة على التأثير والتواصل عبر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، مع الوضع فى الاعتبار أن القطاع الغالب من هذه الشريحة لم يشارك فى الثورة التي أطاحت بنظام العقيد القذافي، ليجد نفسه فى قلب مشهد سياسي تتحكم فيه نخبة سياسية متصارعة على السلطة، ولا تريد مغادرة المشهد بطريقة سلمية، حيث يتم تدويرها بين مشهدين لا ثالث لهما هما مراحل انتقال سياسي فاشلة وحروب وصدامات مسلحة.
كذلك، عكست خريطة الاحتجاجات التي شملت كافة المدن فى البلاد من الشرق إلى الغرب والجنوب القاعدة العريضة لهذه الحركة، التي فرضت فى احتجاجات الجمعة متغيراً مهماً فى الخريطة الليبية، وهو إنهاء سيطرة المدن المنتصرة على المدن المهزومة (مصراته وبنغازي)، حيث انطلقت الاحتجاجات من العاصمة، لتشمل كافة مدن البلاد، ثم عادت مرة أخرى للتمركز فى العاصمة بشكل رئيسي بالإضافة إلى عواصم الأقاليم الأخرى، بعد التحول من التظاهرات إلى الاعتصامات والدعوة إلى عصيان مدني.
لكن من الواضح أن هناك أطرافاً أخرى وجدت ضالتها فى ركوب موجة الاحتجاجات، وهي ظاهرة فى كافة الاحتجاجات والتظاهرات فى الدول التي تشهد أزمات من هذا النوع، فتيار "بالتريس" الذي يقود الاحتجاجات أكد على سلمية التظاهرات، وسعى إلى إعلان ذلك فى دعوته، وهو ما أكد عليه أيضاً آمر الحرس الرئاسي فى العاصمة، الذي زعم أن قواته وفرت الحماية للتظاهرات، فى حين أن المليشيات فى طرابلس سعت إلى تفريق التظاهرات، لكن أعمال العنف التي شهدتها مواقع أخرى خارج العاصمة، تكشف عن تمركز هذا التيار فى العاصمة، بشكل رئيسي، بينما خارج العاصمة بدا أن هناك غلبة للمجموعات المندسة والتي تعمل لصالح تيارات أخرى، بعضها أشارت إليه أجهزة الأمن، وفق تقديراتها الأوّلية، بأنها تعمل لصالح قوى مليشياوية، أو أطراف سياسية مثل تيار النظام السابق انتقاماً لمحاولات إقصاؤه من العملية السياسية، وبعضها اتهمته بالعمالة لصالح أطراف خارجية تسعى إلى تأجيج التوترات فى البلاد.
مواقف الأطراف
اللافت فى المشهد الليبي الحالي، أن هناك اتفاقاً عاماً لدى كافة الأطراف السياسية على تأييد الحراك، والتأكيد على مشروعية الحق فى التظاهر، والعمل على تحقيق مطالبهم، وكأن هذه التظاهرات لم تندلع للإطاحة بهذا الشخصيات والكيانات السياسية التي يمثلونها، وكان عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة أول المبادرين بهذا التأييد على الرغم من أنه على رأس قائمة المطلوب مغادرتهم مواقعهم. كذلك أشار رئيسا مجلسى النواب والأعلى للدولة عقيله صالح وخالد المشري إلى تأييدهما أيضاً للحراك، لكن الواضح من تحليل مواقف وخطاب هذه الأطراف أن كل طرف تعامل مع الموقف من منظور حساباته السياسية، فالدبيبة أعاد التأكيد على أنه لن يسلم السلطة إلا بالانتخابات، وصالح والمشري أكدا على وصولهما إلى نقطة متقدمة فى مسار القاعدة الدستورية.
فى السياق نفسه، كان من اللافت أن الحراك لم يوجه انتقادات للقوات المسلحة فى الشرق والغرب الليبي، وهي نقطة مهمة، فالقيادة العامة أصدرت بيان تأييد للحراك شريطة الإبقاء على سلميته، كما حذر من القفز على الحراك وتوجيه مساره من جانب الأطراف التي تحاول استغلال الموقف، بينما لم تعلن رئاسة الأركان فى الغرب الليبي عن موقفها، وربما تترقب تطورات المشهد فى طرابلس.
كذلك، سارت البعثة الأممية فى ليبيا في نفس مسار الأطراف السياسية، ببيان مقتصب، أيدت فيه الحراك، ودعت الأطراف السياسية إلى ضبط النفس، ويمكن تفسير هذا الموقف على أنه محاولة لعدم الظهور كطرف فى المشهد، خاصة وأن هناك انتقادات توجه للبعثة الأممية ومستشارة الأمين العام ستيفاني وليامز من جانب بعض الأطراف التي تتهمها بالتدخل فى الشأن الليبي بما يتعارض مع السيادة الوطنية.
مسارات محتملة
أصبح الحراك السياسي طرفاً فى المعادلة السياسية الليبية حالياً، وبالتالي سيتحول تدريجياً إلى قوة سياسية، لكنه يواجه العديد من التحديات، منها مطالب الحراك ذاتها، لاسيما بعد تعثر المفاوضات مع المجلس الرئاسي، حيث أن إنهاء وضع الأجسام السياسية بالكامل دون وجود بديل يعني وجود فراغ سياسي، ما سيزيد الأمور تعقيداً، مع الوضع فى الاعتبار أن النخبة الليبية استهلكت نفسها فى المشهد السياسي فى المراحل السابقة، ولا توجد نخبة بديلة يمكن الاستعانة بها لتغيير المشهد، فضلاً عن أن إجراء الانتخابات لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها، حتى وإن أمكن الإسراع منه. فعلى الأقل، ستكون هناك فترة انتقالية ولو محدودة تتطلب بقاء بعض الأجسام السياسية.
كما أن الانتقال سريعاً من مشهد التظاهرات دون عملية إعادة تنظيم وضبط بعد مشهد الفوضى، سيسمح بهامش أوسع للأطراف التي تسعى إلى زيادة التوتر وأعمال التخريب، وقد يتحول المشهد برمته إلى حالة من الفوضى فى ظل صعوبة السيطرة عليه.
ويبدو أن نقطة عدم الاتفاق ما بين الحراك والرئاسي لا تتعلق بتنحية حكومة الوحدة فقط، إذ من المؤكد أن الرئاسي حتى لو عمل على تنحية حكومة الوحدة، فهو لا يملك قرار تنحية حكومة فتحي باشاغا التي يصر البرلمان على الإبقاء عليها، وتوفير الموارد اللازمة لها، بالإضافة إلى أن الرئاسي لا يملك أيضاً قرار إنهاء الوجود الأجنبي فى البلاد، الذي يتطلب وجود سلطة منتخبة وقوية، وقوات مسلحة موحدة تمتلك القرار والقدرة على تأمين البلاد. كما لا يملك الرئاسي القدرة على إعادة تشغيل قطاع النفط، وبالتالى فالمجلس حتى وإن كان يمتلك سلطة القرار، لكنه لا يمتلك القدرة على تنفيذه.
ولا يعتقد أن أى طرف سياسي لديه نية الانسحاب من المشهد، وهو ما يؤكد على بقاء الوضع السياسي على ما هو عليه، من حيث بقاء الحكومتين، والسير باتجاه الجدول الزمني مع المجلس الأعلى للدولة فى وضع القاعدة الدستورية، ثم طرحها للاستفتاء، وهو ما يعني أنه لا توجد أى مبادرة لاستيعاب غضب الشارع، رغم الخطابات الهادئة والمؤيدة له، وربما ترى القوى فى شرق ليبيا أن تمركز التظاهرات فى غربها، وعدم التوافق بين الحراك والرئاسي يصب لصالحها، بل إن تطور المشهد إلى موجة عنف جديدة فى الغرب سيعزز، في رؤيتها، من هذه المصالح، وإن كانت لا توجد ضمانات للسيطرة على الوضع وفق هذا المنظور.